رواية كنوز الملك سليمان للكاتب هنري رايدر هكارد
.
رواية كنوز الملك سليمان
للكاتب هنري رايدر هكارد
منذ ثمانية شهور، حصلت على ثروة طائلة، وقد قضيت نحو خمسة عشر شهراً في سبيل الحصول على تلك الثروة، التي عرضتني إلى أحداث وأهوال جسام .. ولكني أحب أن أعرفكم بنفسي أولاً:
أنا "آلان كوترمين" .. وأعيش في مدينة "دربان" بإقليم "ناتال" في جنوب شرق أفريقيا .. وأنا في الخامسة والخمسين من عمري .. وبدأت حياتي العملية في سن مبكرة .. حيث عملت كبائع متجول .. ثم اشتغلت في أعمال صيد الحيوانات والأعمال الحربية .. كما اشتغلت أيضاً كعامل مناجم.
وفي يوم ما تعرفت على رجلين جاءا من إنجلترا إلى جنوب أفريقيا في مهمة خاصة .. الرجل الأول هو "سير هنري كيرتيس" .. وهو شاب في حوالي الثلاثين، وأعتقد أنه أضخم وأقوى رجل رأيته في حياتي .. أما الرجل الثاني فهو "الكابتن جون جود" .. وهو يتميز بحسن مظهره وشدة نظافته ولطفه .. وكان يضع على عينه اليمنى "مُونُوكل" .. وهي عدسة زجاجية مفردة توضع أمام العين لتقوية نظرها .. كما كان يضع في فمه طقماً من الأسنان الصناعية.
دارت بين وبين هذين الرجلين أحاديث طويلة .. عرفت منها أن "سير كيرتيس" قد جاء إلى جنوب أفريقيا للبحث عن أخيه "نيفيل" الذي هاجر من إنجلترا إلى جنوب أفريقيا بحثاً عن ثروة، ولكنه اختفى منذ فترة طويلة وانقطعت أخباره .. وقد علم "سير هنري كيرتيس" أني أعرف كثيراً من أخبار أخيه، ولذلك فقد لجأ إلي لمساعدته في العثور على أخيه المختفي .. أما الكابتن "جون جود" فهو صديق "لسير هنري" تطوع لمصاحبته في تلك المهمة.
تذكرت بصعوبة كل ما كنت أعرفه عن "مستر نيفيل" .. وقلت لهما إني عرفت بعض أخباره عن طريق خادم أسود اسمه "جيم" كان يعمل في خدمته، وصاحبه في آخر رحلة قام بها قبل انقطاع أخباره .. وعلمت من "جيم" هذا أن سيده يزمع القيام برحلة خطرة للحصول على "كنوز الملك سليمان".
ولما كنت أعرف بعض الحكايات التي يتوارثها الأهالي من قبائل "الزولو" عن هذه الكنوز المخبأة في الجبال البعيدة الواقعة خلف صحراء شاسعة قاحلة، فقد حذّرت "جيم" من المشاركة في تلك الرحلة التي قد لا يعود منها أبداً .. إلا أنه لم يسمع كلامي واختفى هو أيضاً.
اندهش "سير هنري" وصديقه "كابتن جود" لدى سماعهما عن "كنوز الملك سليمان" وسألاني هل هي موجودة فعلاً .. فقلت لهما إني لحسن الحظ أعرف الكثير عن تلك الكنوز ولدي أسرار لا يعرفها أحد.
أذكر مثلاً أن أحد النبلاء البرتغاليين واسمه "جوزيه سيلفستر" قد جاء الى هذه البلاد منذ نحو عشرين عاماً بقصد الوصول إلى تلك الجبال الواقعة خلف الصحراء .. وهي الجبال التي يقال أن الملك سليمان قد أخفى فيها كنوزه من الماس .. وقد تصادف لي أن قابلت هذا النبيل البرتغالي قبل قيامه بتلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر، وكان يتمتع بصحة جيدة.
وبينما كنت أقوم برحلة صيدٍ في الصحراء، فوجئت ذات يوم بشبح يزحف على يديه وركبتيه ولا يقوى على النهوض .. وكان هذا الشبح هو "جوزيه سيلفستر" بنفسه .. كان عبارة عن عظام مكسوة بالجلد .. أصفر الوجه من شدة المرض .. وأوشكت عيناه أن تخرجا من رأسه .. وكان يهمهم في ضعف: ماء .. شربة ماء بحق الله!
وبطبيعة الحال فقد أعطيته ما طلبه من ماء حتى ارتوى .. وبعد أن استراح قليلاً واستعاد وعيه .. أشار إلى قمم جبال سليمان الواقعة خلف الصحراء والتي تبدو باهتة عند خط الأفق وقال لي بصوت واهن ضعيف: يبدو يا صديقي أني أشعر باقتراب الموت .. ولقد كنتَ طيباً معي وأسديتَ إلي صنيعاً جميلاً .. لذلك فسوف أعطيك "الوثيقة" .. ربما تستطيع في يوم ما أن تقهر هذه الصحراء المترامية وتصل إلى تلك الكنوز
ومد "جوزيه سيلفستر" يده إلى داخل قميصه، وأخرج كيساً صغيراً مصنوعاً من جلد الغزال، وأعطاني إياه وطلب مني أن أفتحه .. فوجدت بداخله قطعة ممزقة من قماش قديم أصفر اللون، كتبت عليها بضع كلمات بلون أحمر يميل إلى البُنِّي .. وبداخل القماش وجدت قطعة من الورق.
وعندئذ قال لي "سيلفستر" بصوت أصبح أكثر ضعفاً .. إن هذه الورقة تتضمن ما كتب على قطعة القماش .. وأنه قضى عدة سنوات حتى تمكن من معرفة ما كان مكتوباً على القماش .. واعترف لي بأنه من أحفاد أحد النبلاء البرتغاليين الذي كان يعيش منذ نحو ثلاثمائة عام .. وكان من أوائل البرتغاليين الذين وصلوا إلى تلك المناطق بقارة أفريقيا .. وكان اسمه أيضاً "جوزيه دي سيلفستر".
وأخبرني أيضاً أن جده هذا هو الذي كتب هذه الكلمات بينما كان يحتضر على سفح أحد هذه الجبال التي لم يصل إليها من قبل رجل أبيض .. وبعد موته أحضر خادمه هذه "الكتابة" وسلمها للعائلة .. وظلت هذه الوثيقة في حيازة العائلة دون أن يهتم أحد بقراءتها إلى أن قام "جوزيه سيلفستر" بقراءتها وفك رموزها وطلاسمها .. وقرر أن يقوم بنفسه بما فشل فيه جده منذ ثلاثمائة عام .. وهو الحصول على كنوز الملك سليمان ليصبح أغنى رجل في العالم.
وبعد أن أعطاني "جوزيه سيلفستر" هذه الوثيقة وأخبرني بقصتها، تلاشت أنفاسه ومات في هدوء .. وحفرت له قبراً عميقاً دفنته فيه.
كان "سير هنري كيرتيس" وصديقه "الكابتن جون جود" ينصتان إلى ما رويته لهما بدهشة .. وسألاني عما كان مكتوباً في تلك الوثيقة .. فأخبرتهما بأنها كانت مكتوبة باللغة البرتغالية، وقد استعنت برجل برتغالي كان مخموراً لمساعدتي في ترجمة ما جاء في تلك الوثيقة إلى اللغة الانجليزية .. وهذا هو نص الوثيقة بالكامل:
"أنا جوزيه دي سيلفستر .. أموت الآن من شدة الجوع بداخل كهف في الجانب الشمالي من الجبل التي أطلقت عليها اسم "جَبَلَىْ صدر شيبا" .. ويقع الكهف في الجبل الجنوبي من هذين الجبلين .. وأنا أكتب هذه الوثيقة في سنة 1590م .. واستخدم قلماً مصنوعاً من قطعة من العظام .. أكتب به على قطعة من القماش التي مزقتها من قميصي .. أما الحبر الذي أكتب به فهو قطرات من دمي .. وعلى من يعثر على هذه الوثيقة فعليه أن يقدمها إلى ملك البرتغال لعله يأمر بارسال جيش للقيام بالمهمة .. وإذا استطاع هذا الجيش أن يجتاز فيافي الصحراء ويهزم قبيلة "كوكوانا" فسوف يصبح ملك البرتغال أغنى ملك على ظهر الأرض .. ويجب على الملك أن يرسل مع الجيش بعض رجال الدين، لأن رجال قبيلة "كوكوانا" يعرفون السحر وأساليب الشيطان وفنونه .. ولقد رأيت بعيني ملايين من أحجار الماس الثمينة، مخزّنة في غرفة كنوز الملك سليمان التي تقع خلف "الموت الأبيض" .. ولكن الساحرة الصيَّادة العجوز "جاجول" خدعتني، ولم أستطع الحصول من هذه الكنوز على شيء، سوى أن أخرج بحياتي سالماً .. وعلى كل من سوف يذهب إلى هذا المكان بناءً على نصيحتي وطبقاً لخريطتي، أن يتسلق القمة الجليدية للجبل الأيسر من جَبَلَىْ صدر شيبا حتى يصل إلى ذروتها وأعلى مكان فيها .. وعند الجانب الشمالي سيجد الطريق العظيم الذي مهده سليمان بنفسه .. وعلى مبعدة مسيرة ثلاثة ايام في هذا الطريق، سيصل إلى "قصر الملك" .. وعليه حينئذ أن يقتل الساحرة "جاجول" وأن يصلِّي من أجلي .. وداعاً .. جوزيه دي سيلفستر".
وبعد أن قرأت عليهما نص تلك الوثيقة .. سألني "سير هنري كيرتيس" عما إذا كنت أعرف الطريق إلى تلك الجبال التي ذهب إليها أخوه .. فأجبته بالإيجاب .. وهنا طلب مني أن أكون دليله في رحلة البحث عن أخيه في تلك الجبال البعيدة .. وقال لي بصراحة أنه لا يطمع في تلك الكنوز .. وأننا إذا عثرنا عليها فسوف تكون مناصفة بين وبين "الكابتن جود" .. وأنه سيتكفل بجميع مصاريف ونفقات الرحلة.
وقبل أن أوافق على هذا الطلب، حذرت "سير هنري" وصديقه من أن الرحلة حافلة بالمخاطر .. وقد لا نعود منها أبداً .. وأننا قد نلقى نفس المصير البائس الذي وقع فيه "جوزيه دي سيلفستر" منذ ثلاثمائة عام .. وحفيده "جوزيه سيلفستر" منذ نحو عشرين عاماً .. كما وقع فيه "مستر نيفيل" الذي انقطعت أخباره ..
ولكن "سير هنري" قال في هدوء: علينا أن نجرب حظنا ..
وعندئذ بدأت الاستعداد للقيام بتلك المهمة الخطرة ..
اشترينا عربة وبعض المعدات الأخرى .. وكان "سير هنري" قد أحضر معه من إنجلترا عدداً كبيراً من البنادق والمسدسات، فأخذنا معنا عشرة بنادق وثلاثة مسدسات وكمية مناسبة من الذخيرة.
وأتفقت مع سائق ودليل من قبائل الزولو هما "جوزا" و "توم" .. وكنت أريد الاستعانة أيضاً بثلاثة من الخدم الأشداء الأقوياء الشجعان .. ولكني عثرت على اثنين فقط تتوافر فيهما هذه الشروط وهما "خيفا" و "فنتفوجل".
وفي مساء اليوم السابق على السفر جاءني رجل من الزولو اسمه "أمبوبا"، وهو شاب طويل القامة قوي الجسم لطيف المظهر، ويبلغ نحو الثلاثين من عمره .. وذكرني هذا الرجل بنفسه حيث اشترك معي في إحدى المعارك الحربية التي قادها "اللورد شملز فورد" وكنت أعمل كدليل يصاحب تلك الحملة العسكرية.
قال "أمبوبا" إنه سمع أننا ننوي القيام برحلة عظيمة نحو الشمال .. وهو يريد أن يصحبنا في تلك الرحلة ولو دون أجر .. لأنه كما قال رجل شجاع يحب مواجهة الصعاب والمخاطر.
كان "أمبوبا" ذا جسم ضخم يماثل جسم "سير هنري" .. لذلك فقد أعجب به "سير هنري" وقرره أن يتخذه كخادم خاص له أثناء الرحلة .. وقبل "أمبوبا" هذا العرض.
***********
كانت رحلة طويلة .. شاقة ومجهدة .. قطعنا فيها نحو ثلاثة آلاف ميل .. بدأناها من مدينة "دربان" في نهاية شهر يناير .. حتى وصلنا إلى مشارف قرية "سيتاندا" في الأسبوع الثاني من شهر مايو ..
وأنا لا أريد أن أصف هنا جميع التفاصيل والأحداث التي صادفتنا خلال تلك الرحلة، ولكني أذكر أن "كابتن جود" كاد أن يلقى مصرعه تحت أقدام فيل هائج، لولا أن سارع "خيفا" الشجاع بغرس رمحه في خرطوم الفيل، فازداد هياج الفيل المتوحش، وأمسك "بخيفا" وداسه بقدميه حتى مات المسكين مضحياً بحياته في سبيل إنقاذ الكابتن. وبعد أن أطلقنا بنادقنا على الفيل الهائج حتى أرديناه قتيلا، قال "أمبوبا" أن "خيفا" قد مات ميتة الرجال الشجعان.
وكانت قرية "سيتاندا" تقع على حافة الصحراء الشاسعة التي تمتد وكأنها بلا نهاية .. وهي قرية صغيرة تتناثر فيها أكواخ الأهالي مع بعض حظائر الماشية، وبعض الحقول المزروعة بالحبوب.
وعند حافة تلك الصحراء، تذكرت ما حدث منذ عشرين عاماً حينما شاهدت المسكين "سيلفستر" وهو يزحف على يديه وقدميه وقد ساءت حاله بعد محاولته الفاشلة في الوصول إلى "كنوز الملك سليمان"
كان الجو صافيا، ولذلك فقد استطعت أن أرى التكوينات الزرقاء الباهتة لقمم جبال سليمان عند الأفق البعيد .. وعندئذ أشرت إلى تلك القمم البعيدة وقلت "لسير هنري": ها هي الجبال عن الأفق .. إنها تبدو كجدار عالٍ يحيط بكنوز الملك سليمان .. ويعلم الله إذا كنا سنستطيع أن نتسلق هذا الجدار أم سنرجع خائبين.
ونظر "سير هنري" إلى تلك الجبال البعيدة التي تقع في آخر تلك الصحاري القاحلة، وقال إن أخاه هناك ولا بد أن يعثر عليه. وهنا قال "أمبوبا" إن الصحراء واسعة جداً وليست فيها قطرة ماء .. وإن الجبال عالية جداً ومغطاة بالثلوج .. ثم وجه كلامه إلى "سير هنري" وقال: إذا كنت يا سيدي تنوي اجتياز تلك الصحراء وتصعد فوق قمم تلك الجبال لتبحث عن أخيك .. ربما سأبحث أنا أيضاً عن أخ لي وراء تلك الجبال ..
لم أفهم ما كان يقصده "أمبوبا" بهذا الكلام .. وسألته إن كان يعرف شيئاً عن تلك الجبال البعيدة، فقال إنه يعرف القليل .. فنهاك أرض غريبة تعيش فيها الساحرات والأشياء الجميلة .. وفيها رجال شجعان وأشجار وجداول مياه وثلوج .. وهناك أيضاً طريق عظيم أبيض اللون.
**************
وفي اليوم التالي أعددنا عدتنا وجهزنا أنفسنا لبدء الرحيل .. آملين في اجتياز تلك الصحراء القاحلة حتى نصل إلى جبال سليمان .. وكانت خطتنا أن نواصل السير أثناء طراوة الليل، وأن نستريح أو ننام خلال قيظ النهار. وقبل أن نخطو الخطوة الأولى في رحلتنا، صاح بنا "سير هنري" بصوته العميق وقال: أيها الرجال .. نحن مقدمون على رحلة من أغرب رحلات الإنسان على وجه الأرض .. وعلينا أن نصلي لله الذي بيده مقادير البشر، لكي يرشدنا ويبارك خطانا.
وهكذا تحركنا وبدأنا نخوض في الرمال ..
لم يكن معنا دليل يرشدنا سوى قمم تلك الجبال البعيدة، والخريطة القديمة التي رسمها "جوزيه دي سيلفستر" منذ ثلاثمائة عام .. وإذا قدر لنا ألا نعثر على "البئر ذي المياه الفاسدة" الذي يتوسط الصحراء طبقاً لما هو مرسوم بالخريطة، فسوف يكون هذا معناه أننا سنموت عطشاً .. وأنا شخصياً كنت أعتقد أن العثور على مثل هذا البئر وسط هذا البحر من الرمال الممتد بلا أول ولا آخر يعتبر أمراً بعيد الاحتمال.
وواصلنا المسير صامتين في ضوء القمر .. يغمرنا إحساس كثيف بالوحدة والشعور بالانعزال عن العالم .. ومرت الأيام والليالي .. ولم يكن هناك أي أحياء غيرنا في كل هذا الاتساع الشاسع .. لا حيوان ولا طير .. سوى أسراب الذباب التي كانت تهجم علينا كالجيوش الجرارة.
ونفذ كل ما حملناه معنا من المياه .. وأصبحنا نعاني من العطش الشديد وحرارة الشمس تكاد تشوي لحم أجسادنا .. ولا أدري كيف تحملنا كل هذا العذاب دون أن نموت .. وأخيراً ارتمينا على الرمال ممددين .. ومصيرنا معلق بين الحياة والموت.
وفجأة .. هب "فنتفوجل" واقفاً، ورفع أنفه نحو السماء، وأخذ يتشمم الهواء في مختلف الأنحاء، ثم قال بصوت واثق: إني أشم رائحة الماء .. هناك ماء في مكان قريب من هنا!
ونظرنا حولنا في كل الاتجاهات .. فلم نر سوى "جَبَلَىْ صدر شيبا" اللذين يبعدان عنا بنحو خمسين ميلاً .. ويبعد كل جبل منهما عن الجبل الآخر مئات الأميال ويحصران بينهما سلسلة جبال سليمان .. وأخيراً قال "سير هنري": ربما يوجد الماء على قمة هذا التل القريب.
وصعدنا صاغرين إلى أعلى التل .. وكم كانت المفاجأة مذهلة .. لقد عثرنا على ماء يملأ فجوة عميقة من شقوق التل .. فشربنا وارتوينا وملأنا بطوننا عن آخرها، واستعدنا قدرتنا على مواصلة الرحيل عند شروق القمر.
وفي الثالث والعشرين من شهر مايو، وصلنا إلى سفح الجبل الذي تشير إليه الخريطة .. ولحسن حظنا عثرنا على بعض أشجار الفواكه البرية .. ثم بدأنا الصعود إلى قمة الجبل .. وكلما صعدنا كانت البرودة تزداد وتزداد، حتى أصبحنا نعاني من شدة البرد القارس عندما وصلنا إلى منطقة الجليد .. وهنا قال "الكابتن جود" بصوت واهن: اعتقد أننا الآن بالقرب من الكهف الذي كتب فيه "جوزيه دي سيلفستر" رسالته ورسم خريطته.
وكان من الواضح أننا إذا لم نعثر على هذا الكهف قبل حلول الظلام، فسوف نموت متجمدين في تلك الثلوج .. وفجأة صاح "أمبوبا" بفرح: هذا هو الكهف .. هاهو مدخله هناك ..!
كانت الشمس قد غربت ولم تترك سوى ظلام دامس حين وصلنا زاحفين إلى فتحة الكهف .. وتسللنا إلى الداخل واحداً بعد الآخر، وبدأنا نستريح ونلتقط أنفاسنا .. وحتى نلتمس بعض الدفء، تجاورنا وتلاصقت أجسادنا، وشرعنا في النوم.
وعندما بدأ ضوء الشمس يتسلل إلى داخل الكهف، اكتشفنا أن "فنتفوجل" قد مات من شدة البرد .. فتركناه حيث كان راقداً، والحزن عليه وعلى أنفسنا يكاد يمزقنا.
ثم اكتشفنا شيئاً محزناً آخر .. رأينا جثة "جوزيه دي سيلفستر" الذي مات منذ ثلاثمائة عام .. كان يبدو جالساً مستنداً إلى جدار الكهف، ورأسه مائل على صدره، وذراعاه الطويلتان مسترخيتان إلى جانبيه .. وكانت بشرته الصفراء قد التصقت بعظامه، وكان جسده كله مجمداً وجافاً ..
تركنا الجثتين في مكانيهما داخل الكهف، ليبقيا هناك إلى ما لا نهاية .. وبدأنا نزحف خارجين إلى ضوء الشمس الساطع، ونحن نسأل أنفسنا: ترى .. بعد كم من الساعات سنلقى نحن مثل هذا المصير التعس ..؟!
**********************
بدأت الشبورة تنقشع وتتلاشى رويداً .. وبدأت الأشياء تبدو بوضوح .. ونظرنا إلى أسفل الجبل فرأينا مجرى صغيراً من الماء الرائق .. ومساحة هائلة مغطاة بالعشب الأخضر .. وعلى جانب غدير الماء، رأينا مجموعة من الغزلان الجبلية الكبيرة وقد وقفت تشرب.
وبطبيعة الحال، فقد اصطدنا غزالاً وأقمنا وليمة فاخرة .. وشربنا حتى ارتوينا واستعدنا أرواحنا، وعادت إلينا قوانا وحيويتنا، وبدأت معالم المكان تتضح أمامنا أكثر وأكثر .. فهناك الوادي الأخضر الواسع .. وهناك غابة كثيفة .. ونهر كبير ينساب في مجراه الفضي .. ومراع خضراء شاسعة ترعى فيها مواشٍ وأبقار لا حصر لها .. وحقول مزروعة بالحبوب .. وكان المنظر جميلاً لم أرَ مثله في حياتي!
وكانت المفاجأة حينما رأينا طريقاً رائعاً في صخر الجبل، ويبلغ اتساعه نحو خمسين قدماً .. أخيراً .. عثرنا على طريق سليمان!
كانت بعض أجزاء الطريق منحوتة في صخر الجبل .. وقد نحتت على الجدران من الناحيتين مناظر غريبة لرجال مسلحين يقودون مركبات حربية .. ومناظر معركة .. ومناظر لجماعات من الأسرى.
وسرنا في طريق سليمان حتى وصلنا إلى غابة صغيرة يتخللها غدير من الماء الرائق .. وهناك جلسنا لنستريح ولنتاول طعامنا .. ثم أشعلنا الغلايين وبدأنا ندخن ..
وكان "الكابتن جود" جالساً على شاطئ الغدير يجفف جسمه بعد أن أخذ حماماً .. ولم يكن يرتدي سوى قميصه بعد أن خلع جميع ملابسه الأخرى ليغسلها في ماء الغدير .. وفجأة، رأينا سهماً ينطلق مثل خط من الضوء مر بجانب رأسه .. ثم ظهرت أمامنا مجموعة من الرجال!
كانوا طوال القامة بشكل أكثر من المعتاد، تلمع بشرتهم السوداء كالذهب، وفي مقدمتهم يقف فتى صغير لا يتجاوز سبعة عشر عاماً .. وكان ما زال ممسكاً بالقوس الذي رمى به سهمه الطائش.
وفي الحال أمسك كل من "السير هنري" و "الكابتن جود" ببندقيته وصوبها نحو صدور الأهالي الذين بدوا كما لو كانوا لا يعرفون ما هي البنادق، فقد ظلوا يتقدمون نحونا بلا خوف من إطلاق النار .. وعندئذ صحت في رفاقي: أخفضوا بنادقكم ودعوني أتصرف!
وبدأت التفاهم مع هؤلاء الرجال بلغة الزولو .. وقلت لهم إننا غرباء وقد جئنا نريد السلام .. ولكن رجلاً عجوزاً قال على الفور: هذا كذب .. فالغرباء لا يستطيعون اجتياز الجبال وعبورها .. والغرباء غير مسموح لهم بأن يعيشوا على أرض "كوكوانا" .. هذا هو قانون الملك .. وعليكم أن تستعدوا للموت!
وتقدموا نحونا وهم يشهرون سكاكينهم ..
وكعادته حين تضطرب أعصابه .. أخرج "الكابتن جود" من فمه طاقم أسنانه العلوي، ثم أدخله إلى فمه مرة أخرى .. وكانت هذه الحركة ضربة حظ لا مثيل لها .. فقد صاح الرجال المهاجمون صيحة رعب وتراجعوا إلى الخلف وقد جحظت عيونهم من شدة الخوف والذعر!
وأدركنا أن المهاجمين قد خافوا من طاقم أسنان الكابتن، فطلبت منه أن يعيد إخراج طاقم الأسنان وإدخاله إلى فمه مرة أخرى .. وعندما فعل الكابتن ذلك ازداد رعب الرجال وأخذوا ينتفضون خوفاً وهلعاً .. وصرخ الفتى الصغير الذي كان يتقدم الرجال صرخة مدوية .. وتحامل الرجل العجوز على نفسه وسألني وهو يرتجف: إنكم لستم من البشر .. هل يمكن أن تلد النساء رجلاً له عين مستديرة {مشيراً إلى المونوكل} تلمع في ضوء الشمس .. وله أسنان تخرج من فمه وتدخل .. ؟!
وعندئذ انتهزت هذه الفرصة فقلت لهم فوراً: لقد جئنا من عالم آخر .. جئنا من النجم الكبير الذي يلمع في السماء ليلاً! .. وسوف نقيم عندكم لفترة قصيرة ولنمنحكم البركة أيضاً .. والآن .. دعونا نعاقب اليد التي رمت السهم على هذا الرجل الذي تخرج أسنانه من فمه وتدخل!
فقال الرجل العجوز: نرجوكم أن تعفوا عن .. إنه ابن الملك!
وانتهزت هذه الفرصة أيضاً لأبين لهم مدى قوتنا .. فأشرت إلى "أمبوبا" وقلت له: إعطني الماسورة المسحورة التي تتكلم .. فأعطاني البندقية التي كان يحملها، وقلت لهم وأنا أشير إلى حيوان كان يقف على بعد نحو سبعين متراً: هل يستطيع رجل ولدته امرأة أن يقتل هذا الحيوان البعيد بمجرد احداث صوت ..؟!
قال المحارب العجوز: لا يمكن .. هذا مستحيل يا سيدي!
وعندئذ صوبت البندقية نحو الحيوان وأطلقتها فخر صريعاً على الفور .. فازداد الرجال رعباً وخوفاً .. وعلت الدهشة وجوههم المذعورة .. وقال العجوز في النهاية: لق اقتنعنا بكم .. إن جميع الساحرات في قبيلتنا لا يستطعن أن يفعلن شيئاً كهذا .. والآن .. اسمعوا يا أبناء النجم الساطع .. يا أبناء العيون التي تلمع في صوء الشمس والأسنان التي تخرج منلافم وتدخل .. يا من تستطيعون القتل بهذا الصوت المرتفع كالرعد .. أنا اسمي "إنفادوس" .. وأنا ابن "كافا" الذي كان ملكاً على شعب "كوكوانا" .. أما هذا الشاب فاسمه "سكراجا" .. وهو ابن "توالاط الملك العظيم .. سيد "كواكوانا" وحارس الطريق العظيم .. وباعث الرعب في قلوب أعدائه .. وقائد مائة ألف من الجنود الشجعان .. "توالا" المرعب .. صاحب لاعين الواحدة!
قلت للرجل العجوز إننا نريد أن نقابل الملك "توالا" .. فالتفت الرجل العجوز إلى رفاقه وأمرهم بحمل جميع أمتعتنا وحاجياتنا فيما عدا البنادق التي لم يجسروا على الاقتراب منها أو لمسها .. وحملوا أيضاً ثياب "الكابتن جود" التي كان قد خلعها ليغسلها .. ولكن الكابتن صاح بهم أن يتركوا ملابسه ليرتديها .. ولكن الرجل العجوز قال في دهشة: لا يا سيدي .. هل يريد سيدي أن يغطي ساقيه البيضاوين؟ .. هل فعلنا شيئاً شريراً حتى يقوم سيدي بتغطية ساقيه؟!
وهنا تقدم "سير هنري" إلى "الكابتن جود" وقال له: لقد ظهرت في هذه البلاد بشخصية خاصة متميزة .. ويجب عليك أن تستمر في تمثيل هذه الشخصية .. ومن الآن فصاعداً يجب أن تبقى هكذا .. لا تلبس سوى القميص والحذاء .. وتظل محتفظاً بالمونوكل فوق عينك .. لأنك إذا غيرت أي شيء من مظهرك هذا .. فسوف يتوقفون عن تصديقنا .. وسيقتلونا جميعاً في لحظة واحدة!
وفي أثناء الطريق دار بيني وبين "إنفادوس" العجوز حديث طويل بلغة الزولو .. سألته: من ذا الذي بنى هذا الطريق يا "إنفادوس"؟ فقال: لقد بُني في عصور قديمة يا سيدي .. ولا أحد يعرف كيف ولا متى بُني .. حتى الساحرة العجوز "جاجول" التي عاشت مئات السنين وظلت تعيش حتى الآن لا تعرف ذلك.
وَظَلَلْتُ أوجه أسئلتي إلى "إنفادوس" حتى عرفت منه الكثير من الأسرار .. عرفت أن جنود الملك "توالا" يعدون بالآلاف .. وأن حرباً أهلية قد دارت رحاها بين العائلة المالكة في قبيلة "كوكوانا" .. وكان سبب هذا النزاع هو عادات وتقاليد القبيلة التي تقضي بأن أية أمرأة إذا ولدت طفلين توأمين فيجب أن يُقتل الطفل الأضعف.
وكان للملك السابق "كافا" أخ توأم ولد معه .. ولكن أم الملك أخفت وليدها الآخر حتى لا يتعرض للقتل .. وعندما مات الملك "كافا" تولى العرش أخوه الأصغر "إيموتو" .. ولكن "جاجول" الساحرة العجوز المرعبة، أيدت "توالا" الأخ التوأم للرجل الميت .. وقام "توالا" بقتل الملك "إيموتو" وتولّى العرش بدلاً منه .. ولكن أرملة "إيموتو" هربت وحملت معها طفلها الرضيع "أجنوسي" .. ومنذ ذلك الحين لم يرها أحد.
فسألته باهتمام: معنى ذلك إذا كان "أجنوسي" لم يزل حياً .. فسوف يكون هو الملك الحقيقي لشعب "كوكوانا" ..؟
فأجاب على الفور: هذا صحيح .. وهناك علامة "الوحش الزاحف" التي نوشم بها الابن الأكبر للملك حين يولد .. فإذا كان "أجنوسي" حياً فسوف يصبح الملك صاحب الحق الشرعي على شعب "كوكوانا" .. ولكن من المؤكد أن "أجنوسي" قد مات.
كان "أمبوبا" يسير خلفي مباشرة .. وسمع كل هذ الحديث الذي دار بين وبين "إنفادوس" .. ولاحظت أنه مهتم بسماع هذا الحديث كلمة كلمة ..
ونظراً لأن "إنفادوس" كان قد أرسل بعض الرسل للإعلان عن قدومنا .. فقد لاحظنا ونحن نقترب من القرية أن هناك فرقاً كثيرة من الرجال كانت تتجمع على جانبي الطريق وهم يحملون في أيديهم حراباً ذات سنون لامعة ودروعاً رمادية اللون .. وأفهمني "إنفادوس" أن هؤلاء الجنود إسمهم "الرماديون" وهم من خيرة الجنود في شعب "كوكوانا" .. وأنه هو القائد الآمر لهؤلاء الرماديين.
واجتزنا القرية حتى أصبحنا على مشارف مدينة "لوو" عاصمة أرض "كوكوانا" .. وهي مدينة صغيرة تقع بالقرب من تل له شكل غريب يشبه حدوة الحصان أو شكل هلال القمر .. وخلف المدينة كانت هناك ثلاثة من الجبال لها شكل وتكوين غريب، وتتوج قممها الثلوج .. ولاحظ "إنفادوس" أننا نركز أنظارنا على تلك الجبال .. فقال يوضح لنا أمرها: إنها جبال مملوءة بالكهوف .. وعندها ينتهي الطريق .. وجميع ملوكنا الذين ماتوا مدفونون هناك .. في أرض الموت!
وهنا قلت لرفاقي باللغة الإنجليزية: إن كنوز الملك سليمان مخبأة في تلك الجبال ..
وكان "أمبوبا" واقفاً بالقرب مني وهو مستغرق في تفكير عميق، ولكنه قال فجأة: نعم .. الكنوز موجودة هناك .. وما دمتم تحبون هذه الأشياء فسوف تحصلون عليها.
واستمر سيرنا وسط صفوف لا حصر لها من الأكواخ .. إلى أن وصلنا إلى مجموعة صغيرة من الأكواخ بنيت على شكل دائرة تتوسطها ساحة واسعة .. وأعدوا لنا كوخاً مستقلاً لكل واحد منا .. وزودونا بالطعام وبالماء .. ولكننا آثرنا أن نبقى جميعاً في كوخ واحد حتى نكون مجتمعين سوياً عند حدوث أي خطر .. ثم استغرقنا بعد ذلك في نوم عميق لأننا كنا في غاية الارهاق والتعب.
وفي صباح اليوم التالي، ذهبنا لمقابلة الملك "توالا" .. الذي كان يعيش في كوخ كبير شديد الضخامة .. أمامه ساحة واسعة اصطف فيها آلاف من الجنود مدججين بالرماح والدروع، وقفوا جامدين كما لو كانوا قد نحتوا من صخور صلبة .. وجلسنا على بعض المقاعد أمام بوابة الكوخ الملكي انتظاراً لظهور الملك وحاشيته.
وعندما فُتحت بوابة الكوخ، ظهر رجل ضخم الجثة كالعملاق، وخلفه صبي صغير هو "سكراجا"، ومخلوق آخر غريب يبدو كما لو كان قرداً مجففاً يرتدي ملابس من فراء الحيوانات.
كان الملك "توالا" ذا وجه مخيف يثير الرعب .. وله شفتان غليظتان وأنف ضخم مفلطح وعين واحدة يطل منها الشر .. وكان يزين رأسه بعديد من الريش الأبيض، وجسمه كله مغطى بدرع لامع، ويمسك في يده اليمنى رمحاً ضخماً، وحول رقبته حلقة سميكة من الذهب .. وفي منتصف جبهته تتلألأ ماسة ضخمة لم نر من قبل مثلها.
ولكي يرينا الملك قوته وجبروته، أمر بإعدام جندي لا يحمل درعه بطريقة جيدة .. فتقدم ابنه "سكراجا" وغرس رمحه في قلب الجندي المسكين .. وهنا سمعنا صوتاً حاداُ يخرج من المخلوق الذي يشبه القرد المجفف: خذوا هذا القتيل بعيداً .. وغطوا آثار الدماء .. قال الملك أوامره .. وأطيعت أوامر الملك!
أوشك "السير هنري" أن ينهض محتجاً على تلك القسوة الظالمة .. ولكن أشرت إليه بأن يلزم الصمت حتى لا نتعرض للمشاكل .. وأخيراً تحدث إلينا الملك قائلاً: هى جئتم حقاً من النجوم البعيدة؟ .. هل تعرفون إني قادر على جعل مصيركم مثل هذا الجندي الذي مات في لحظة خاطفة..؟
وعندئذ قلت للملك وأنا أضحك ساخراً: ألم يخبروك بأننا قادرون على القتل ونحن نقف في مكان بعيد ..؟!
قال الملك: لقد أخبروني بذلك ولكني لا أصدقه .. أروني كيف تقتلون رجلاً من هؤلاء الجنود الواقفين هناك.
قلت: نحن لا نقتل الرجال إلا إذا كان ذلك من أجل عقاب عادل .. أحضر لنا فيلاً أو أي حيوان آخر ودعه يقف عند تلك البوابة البعيدة .. وسترى بنفسك أني سأسقطه ميتاً وأنا واقف في مكاني هنا.
وأمر الملك بإحضار فيل .. وهمست إلى "السير هنري" بأن عليه أن يطلق النار على الفيل فور ظهوره عند البوابة حتى يعرف الجميع أنني لست الساحر الوحيد في جماعتنا .. وما أن ظهر الفيل عند مدخل البوابة البعيدة، حتى صوب "السير هنري" بندقيته نحوه، وأطلق النار فسقط الفيل صريعاً .. وانطلقت على الفور همهمات التعجب من آلاف الجنود ومن جميع الموجودين الذين شاهدوا ما حدث.
وظهرت ملامح الخوف على وجه الملك، فانتهزت هذه الفرصة وقلت له: أنظر الآن .. إني أستطيع أن أكسر رمحك وأنا واقف في مكاني .. وصوبت بندقيتي نحوه وأطلقتها فتناثر سن الرمح إلى قطع صغيرة .. وانطلقت همهمات الدهشة والتعجب مرة أخرى.
وهنا رأينا المخلوق الذي يشبه القرد المجفف يزحف على أربع من مكانه في الظل، واتجه إلى حيث كان الملك .. وعندئذ هب هذا المخلوق الغريب واقفاً على قدميه الخلفيتين وأزاح الغطاء عن وجهه .. وكم كانت دهشتنا حين رأينا وجه امرأة عجوز معمرة، كله تجاعيد متغضنة، وليس في رأسها شعرة واحدة .. كانت هذه المرأة هي "جاجول" الساحرة الشهيرة الشريرة التي لا يعرف عمرها أحد .. والحقيقة أن الخوف قد اعترانا جميعاً بسبب منظرها المرعب .. ومدت "جاجول" عظام يدها حيث تظهر أصابعها ذات الأظافر الطويلة ووضعتها على كتف الملك "توالا" وقالت:
"اسمع أيها الملك .. اسمعوا يا كل الموجودين هنا .. إني أرى أنهاراً من الدم ستسيل في كل مكان .. وأنتم أيها الرجال البيض القادمون من النجوم البعيدة .. هل تبحثون عن شخص مفقود كما تقولون؟ .. لن تجدوه هنا .. فمنذ آلاف السنين لم تطأ هذه الأرض قدم بيضاء .. وإذا كنتم قد جئتم من أجل الأحجار البيضاء فسوف تعثرون على تلك الأحجار بعد أن يجف الدم .. (ثم تقدمت إلى "أمبوبا" وقالت له) .. وأنت يا صاحب الوجه الأسمر الفخور .. من أنت؟ .. إني أعرفك وأستطيع أن أشم رائحة الدماء التي تجري في قلبك وعروقك .. اخلع ملابسك لأرى!" .. وعلى الفور سقطت الساحرة العجوز مغشياً عليها ..
وقام الملك وكل عضو فيه يرتعش .. وأصدر أمراً بانصراف الجنود .. وقال لنا في صوت خافض: اذهبوا في سلام .. الليلة ستقام حفلة رقص أدعوكم لمشاهدتها .. وغداً سوف أفكر ..!
وقام "إنفادوس" بمصاحبتنا حتى وصلنا إلى كوخنا ..
تلاحقت بعد ذلك أحداث هامة .. وقال لنا "إنفادوس" بصراحة أن الملك "توالا" مستبد ظالم .. وأن الأرض تصرخ من قسوته وشهوته للقتل .. وأن حفلة الرقص التي سيقيمها الليلة ستشترك فيها الساحرات الصيّادات .. وستقوم الساحرات بِشَمِّ بعض الحاضرين لاختيارهم للقتل .. فإذا كان الملك يريد أن يستولي على القطيع المملوك لأحد الرجال .. أو يريد أن يستولي على زوجة أحد الرجال .. أو إذا كان يخشى من سلطة رجل معين، فإن الساحرات الصيّادات اللواتي درّبتهن "جاجول" سيقمن بشم هؤلاء الرجال .. وهذا معناه أن الساحرات قد اختارت هؤلاء الرجال للقتل فيقتلون في الحال .. إن الأرض كلها تعاني من ظلم "توالا" وأساليبه الدموية.
وعندما سألت "إنفادوس" لماذا لا تتخلصون من هذا الملك الظالم .. قال: إننا إذا قتلنا "توالا" فسوف يتولى العرش ابنه "سكراجا" وهو يحمل قلباً أكثر سواداً من قلب أبيه .. (ثم قال بعد فترة صمت قصيرة) .. لو لم يقتل الملك "إيموتو" .. أو لو كان ابنه "أجنوسي" ما زال حياً، لكان الأمر مختلفاً .. ولكن "إيموتو" و "أجنوسي" قد ماتا ولم يعد هناك أمل.
وهنا هب "أمبوبا" واقفاً وتقدم إلى "إنفادوس" وقال له وسط دهشتنا جميعاً: لا يا عمي "إنفادوس" .. إن "أجنوسي" لم يمت .. إنه ما زال حياً .. أنا "أجنوسي" يا عمي .. لقد هربت أمي بعد مقتل زوجها الملك "إيموتو" وحملت معها ابنها .. واستطاعت أن تعبر به الجبال والصحاري .. وعاشت في أرض تنبت فيها الأعشاب والأشجار .. ولقنت ابنها كل المعلومات عن وطنه الأصلي وعن مكانته في هذا الوطن .. لقد عشت يا عمي واستطعت أن أكسب عيشي بنفسي .. عملت خادماً .. وعملت جندياً واشتركت في معارك وحروب كثيرة .. وكنت أحلم دائماً بالعودة إلى وطني لأطالب بحقي حتى ولو لقيت حتفي .. وعندما تقابلت مع هؤلاء الرجال البيض الشجعان، وعلمت أنهم سيذهبون إلى وطني في تلك الأرض البعيدة، التحقت بخدمتهم وجئت معهم .. !
كان "إنفادوس" ينصت إلى هذا الكلام وهو مذهول لا يستطيع أن يصدق نفسه .. ولكنه تماسك وقال: إذا كنت أنت "أجنوسي" كما تقول .. فهيا اخلع ملابسك لأرى شيئاً ..
وقام "أمبوبا" وخلع جميع ملابسه وأصبح عارياً كما ولدته امه .. وأشار إلى وشم "الوحش الزاحف" الذي كان مرسوماً حول خصره .. وعندما تأكد "إنفادوس" من هذا الوشم، خر راكعاً على ركبتيه وصاح في فرح: أنت ابن أخي .. أنت "أجنوسي" .. أنت الملك!
وقال "أمبوبا": انهض يا عمي .. فأنا لم أصبح بعد ملكاً .. ولكن بمساعدتك، ومساعدة هؤلاء الرجال البيض الشجعان من أصدقائي .. سأصبح ملكاً على تلك البلاد وأستعيد عرشي الذي اغتصبه "توالا" .. فهل ستضع يدك في يدي، وتصبح رَجُلي الذي اعتمد عليه ..؟!
فتقدم "إنفادوس" إلى "أمبوبا" (أو بالأحرى إلى أجنوسي) وخر على ركبتيه مرة أخرى ووضع يده في يدي "أجنوسي" وقال: أعاهدك على أن أكون رجلك حتى آخر حياتي!
كنا نستمع إلى تلك الحكاية ونحن في غاية الدهشة .. لقد جاء "سير هنري" إلى هذه البلاد البعيدة ليبحث عن أخيه المفقود .. وجئنا معه لهذا الغرض وللبحث أيضاً عن كنوز الملك سليمان .. فإذا بنا الآن أمام عملية لم تكن في الحسبان، ولكنها مغامرة لا بأس من الاشتراك فيها.
وتداولنا الأمر مع "أمبوبا" (أجنوسي) ومع عمه "إنفادوس" في كيفية تنفيذ عملية التخلص من "توالا" وتولِّي "أجنوس" عرش "كوكوانا" .. فقال "إنفادوس": الليلة سيقام حفل الساحرات الصيّادات .. وستمتلئ قلوب الكثيرين بالغضب ضد الملك "توالا" .. وعندما ينتهي الحفل، سأتكلم مع بعض الرؤساء الكبار .. وسأحضرهم معي ليتأكدوا بأنفسهم أنك يا "أجنوسي" الملك الحقيقي .. وغداً سيكون لدينا عشرون ألف رمح تحت أمرنا.
وبعد أن غربت الشمس وحل الظلام، أشعلت آلاف المشاعل لتضيء المكان .. ثم ظهر القمر وكان بدلاً كاملاً .. وتجمع في الساحة الكبرى أكثر من عشرين ألفاً من الأهالي .. وكانوا مقسمين إلى مجموعات صغيرة تفصل بين كل مجموعة وأخرى طرقات ضيقة لكي تسمح بتجول الساحرات الصيّادات حين يبدأ العمل
ودقت الطبول، وظهر الملك "توالا" ومع ابنه "سكراجا" والساحرة العجوز "جاجول"، وخلفهم فرقة مكونة من اثني عشر جلاداً .. وهم الذين سيتولون قتل كل من سوف تختاه الساحرات .. ثم حل الصمت والوجوم .. وبدأ ظهور الساحرات واحدة بعد أخرى .. ثم بدأت كل ساحرة منهن ترقص رقصاً عنيفاً يشبه حالة الهياج والجنون ..
ورأينا الساحرة التي كانت قريبة منا وهي تشم أحد الرجال .. فأخرجوه من الجمع وتقدم إليه الجلادون فقتلوه بطريقة سريعة بشعة .. ثم بدأت الساحرات الأخريات في شم العديد من الرجال الذين كانوا يُقتلون في لمح البصر واحداً بعد الآخر .. وتكومت الجثث غارقة في دمائها .. وحاولنا من جانبنا أن نوقف هذه المذبحة ونتشفع لهؤلاء القتلى لدى الملك لكي يعفو عنهم .. ولكن الملك استبدت به شهوة القتل وقال وهو يتمتع برؤية الدماء: من الأفضل لمثل هؤلاء الكلاب أن يموتوا ..
وأخيراً هبت الساحرة العجوز "جاجول" واقفة، وقفزت إلى الساحة وأخذت تجري وتهرول وترقص بحركات عنيفة أثارت فزعنا وفزع الأهالي .. وفجأة توقفت أمام رجل طويل القامة وضخم الجثة كان واقفاً أمام جماعته وبدأت تشمه .. وسمعنا صرخات قوية أطلقتها الجماعة التي كان يرأسها الرجل الذي تم اختياره للقتل .. وقد علمنا فيما بعد أن هذا الرجل يمتلك ثروة كبيرة كان الملك يريد الاستيلاء عليها.
ثم عاودت "جاجول" رقصها العنيف واتجهت نحونا .. ثم توقفت وبدأت تشم "أمبوبا" (أجنوسي) في كتفه .. وصرخت بصوتها الحاد: لقد شممته .. شممت رائحة الشر التي تملأ قلبه .. أقتله .. أقتله أيها الملك .. أقتل هذا الغريب قبل أن تسيل الدماء بسببه ..
وساد الصمت والوجوم .. ولكني وقفت وصحت بالملك قائلاً: أيها الملك .. إن هذا الشخص يعمل خادماً لدينا .. ونحن ضيوفك .. وأي شيء يؤذيه سيؤذينا نحن أيضاً .. ونحن نعلن حمايتنا لهذا الرجل ..!
ولكن الملك "توالا" أجاب بغضب: لقد شَمَّته ولمسته أُمُّنا "جاجول" بنفسها .. وهي أم الساحرات الصيّادات جميعهن .. لذلك فلا بد أن يقتل الآن فوراً ..!
وعندئذ أشهرنا بنادقنا ومسدساتنا وقلت: إذا حاول أحد أن يقتله، فسوف نقتله قبل أن يفعل ذلك.
ومع ذلك أشار الملك إلى الجلادين الذين كانوا يقفون خلفه وقد تغطت ملابسهم وأيديهم وأجسامهم كلها بدماء الضحايا، وأمرهم بصوت مرتفع غاضب: أمسكوه .. واقتلوه!
عندئذ قفزتُ إلى المنصة وصوبت مسدسي نحو رأس الملك .. وصوب "مستر هنري" مسدسه نحو رئيس الجلادين .. بينما صوب "الكابتن جود" مسدسه نحو "جاجول" .. وقلت للملك محذراً: سنقتلكم جميعاً وسنقتل الملك إذا حاول أي منكم أن يمس شعرة واحدة من شعر رأسه!
وتراجع الملك عن موقفه وقال مغتاظاً: لأنك قلت أن هذا الرجل يعتبر أيضاً من ضيوفي .. وليس خوفاً من تهديدكم .. فقد عفوت عنه.
فقلت بهدوء وما زلت مصوباً مسدسي نحو رأسه: والآن .. لقد تعبنا من مشاهدة الموت والقتل .. ونريد أن نذهب لكي ننام .. فهل انتهت حفلة الرقص؟
فقال بصوت ينم عن الغضب: لقد انتهت!
ثم أشار إلى جثث القتلى التي كانت مكومة أمامه وقال للجلادين: خذوا جثث هؤلاء الكلاب وألقوها للكلاب!
وانصرفنا في هدوء وحذر إلى كوخنا ..
قرب الفجر سمعنا وقع أقدام خارج الكوخ .. ودخل "إنفادوس" ومعه ستة من الرؤساء .. وقال باحترام شديد: سادتي .. سيدي "أجنوسي" .. أيها الملك الحقيقي لشعب "كوكوانا" .. لقد أحضرت معي هؤلاء الرجال الرؤساء .. إنهم من أصحاب السلطة والنفوذ بيننا .. وتحت إمرة كل واحد منهم ثلاثة آلاف من الجنود الأشداء .. والآن .. دعهم يا "أجنوسي" يروا بأنفسهم وشم "الوحش الزاحف" المرسوم على خصرك .. واسمعهم قصتك حتى يقرروا انضمامهم إلينا ضد الملك "توالا".
قام "أجنوسي" وخلع ملابسه وأراهم الوشم .. وحكى لهم قصته التي سمعناها من قبل .. وسأل "إنفادوس" الرؤساء عن رأيهم .. فقال أكبر الرؤساء سناً: حقاً إن الأرض تصرخ من ظلم "توالا" وقسوته وجبروته .. لقد كان أخي أحد الذين قتلهم الملك هذه الليلة .. ولكن الموضوع شديد الخطورة .. فسوف تسيل دماء كثيرة .. وسينضم الكثيرون إلى "توالا" .. فالناس ينحنون للشمس المضيئة في السماء ولا ينحنون للشمس التي لم تشرق بعد .. وهؤلاء الرجال البيض الذين جاءوا من النجوم لديهم قوة سحر عظيمة .. وهم يضعون "أجنوسي" في حمايتهم .. ولا بد أن يقدموا للناس علامة سحرية .. وعندما يرى الشعب هذه العلامة، سيعرفون أن سحر هؤلاء البيض يقف في صف "أجنوسي" باعتباره الملك الحقيقي .. وعندئذ سينضمون جميعاً إلينا ضد الملك "توالا".
وعندما شرحت لرفاقي ما قاله هؤلاء الرؤساء .. قال "الكابتن جود" بثقة وكأنه يقول شيئاً هاماً: اعتقد أننا نستطيع أن نقدم لهم العلاقة السحرية التي طلبوها .. وعليهم أن يتركونا لنفكر بعض الوقت ..
وأخرج الكابتن كتاباً كان يحمله ضمن أمتعتنا، وأخذ يقلب صفحاته بسرعة وقال: إن غداً هو اليوم الرابع من شهر يونيو .. وسوف يحدث للقمر كسوف كلي يبدأ في الساعة الثامنة والربع بتوقيت "جرينتش" .. وسيشاهد هذا الكسوف في جنوب أفريقيا .. إذن هذه هي العلامة السحرية .. ولنخبرهم بأننا سنطفئ القمر مساء الغد!
كانت فكرة عظيمة اقتنعنا بها فوراً .. فقلت "لإنفادوس" وللرؤساء الذين معه: إننا لا نحب أن نستعرض قوتنا .. ولكن نظراً لأن الموضوع هام وخطير .. ولأننا سنعمل معاً على إزاحة الملك "توالا" فقد قررنا أن نعطيكم العلامة السحرية التي طلبتموها .. وهي علامة سيراها الناس جميعاً .. غداً في منتصف الليل .. سنخفي القمر ونطفئه تماماً لمدة ساعة ونصف .. وسيغطي الظلام الأرض كلها .. هذه هي العلامة السحرية التي تؤكد أن "أجنوسي" هو الملك الحقيقي لشعب "كوكوانا" ..
وهنا قال كبير الرؤساء وهو يبتسم: تكفينا هذه العلامة إذا قمتم بها حقاً .. وأريد أن أخبركم بأن الملك "توالا" سيدعوكم بعد ساعتين من غروب شمس الغد لمشاهدة حفلة "رقص بنات" وسيقوم "توالا" باختيار أجمل الفتيات وأكثرهن فتنة وأحسنهن رقصاً .. وسيأمر ابنه "سكراجا" بقتل هذه الفتاة ليقدمها قرباناً للآلهة الصامتين الذين يحرسون الجبال .. وعندما تطفئون القمر .. ستنقذون الفتاة من القتل .. وسيقتنع بكم الناس جميعاً ..!
وقال "إنفادوس" موجهاً كلامه إلينا وللرؤساء الذين معه: هناك خارج مدينة "لوو" .. يوجد تل يأخذ شكل هلال .. وهناك سيجتمع جنودي وكل الجنود التابعين لهؤلاء الرؤساء .. وسنضع خطة لينضم إلينا جنود آخرون .. وإذا استطعتم أن تطفئوا القمر فعلاً، فسوف أسحبكم في الظلام إلى خارج المدينة لتصبحوا في أمان وسط الجنود .. وفي صباح اليوم التالي سنبدأ معركتنا ضد "توالا".
وبعد أن تم هذا الاتفاق مع الرؤساء خلدنا إلى النوم لنستريح .. وقضينا النهار التالي في هدوء وترقب .. ووصلتنا دعوة الملك "توالا" لحضور حفلة "رقص البنات" التي ستقام في المساء .. وعندما حل الموعد ارتدينا الدروع تحت ملابسنا، وحملنا بنادقنا وأسلحتنا .. وذهبنا إلى الحفل.
كان هناك جموع غفيرة من البنات وكل واحدة منهن كانت تضع على رأسها تاجاً من الزهور، وتحمل ورقة كبيرة من أوراق الشجر في إحدى يديها، وتحمل في يدها الأخرى زهرة بيضاء.
وعلى دقات الطبول بدأت البنات في رقصة جماعية جميلة .. ثم بدأت البنات الجميلات في الرقص منفردات .. ووقع اختيار الملك على فتاة منهن كانت أكثرهن جمالاً وأحسنهن رقصاً .. وقالت الفتاة ببراءة أن اسمها "فولاتا" .. وتقدمت إليها الساحرة العجوز "جاجول" وقالت لها بصوتها الكريه: سنقدمك أيتها الفتاة قرباناً للآلهة الصامتين عند الجبال .. إن نوم الليل أفضل للإنسان من تعب النهار .. والموت أفضل كثيراً من الحياة .. وستحصلين على شرف الموت بيد ملكية .. سيقتلك إبن الملك بنفسه!
أصيبت الفتاة بذعر شديد لدى سماعها هذا الكلام البغيض .. فصاحت بأعلى صوتها: يا متوحشون .. يا غلاظ القلوب .. إني ما زلت صغيرة .. وماذا جنيتُ حتى تحرموني من رؤية الشمس وهي تولد من بطن الليل .. ومن رؤية النجوم في السماء بعد أن تغرب الشمس وتذهب .. ومن قطف الزهور التي يبلِّلها الندى .. ومن سماع ضحكات المياه وهي تترقرق .. ومن عودتي إلى كوخ أبي .. ومن قبلات أمي .. ومن رعاية الخراف الصغيرة حين تمرض .. ومن ذراع حبيب وهو ينظر في عينيّ شغوفاً مولعاً .. ومن أطفال أولداهم فيصبحون رجالاً .. أنتم متوحشون .. قساة .. وقلوبكم غليظة !
ويبدو أن هذا الاستعطاف لم يغير شيئاً من شعور الساحرة "جاجول" ولا شعور الملك "توالا" .. بالرغم من أني رأيت ملامح التأثر واضحة في وجوه الحراس ووجوه الرؤساء الذين شهدوا المواقف وسمعوا كل كلمة .. ورأيت "الكابتن جود" وقد هب واقفاً وتأهب لمساعدة تلك الفتاة البريئة .. ويبدو أن الفتاة قد لمحته وأحست بمشاعره، فألقت بنفسها على الأرض عند قدميه مستجيرة به وقالت: إنقذني أيها الأب الأبيض الذي جاء من النجوم .. إنقذني من "جاجول" ومن هؤلاء المتوحشين!
انحنى "الكابتن جود" وأمسك بذراع الفتاة وأنهضها من الأرض وقال يطمئنها: أنهضي يا فتاة .. سوف أحميك وأدافع عن حياتك .. ولن يمسّك أحد بسوء!
في تلك اللحظة، رأيت قوساً من ظل الأرض وقد بدأ يقترب من وجه القمر .. لقد بدأ الكسوف فعلاً .. فصحت في وجه الملك قائلاً: اننا لن نسمح لك بقتل هذه الفتاة البريئة ..
فقال الملك للحراس: إقبضوا على هؤلاء الرجال واقتلوهم!
واندفع نحونا بعض الرجال المسلحين الذين كانوا يقفون وراء الكوخ استعداداً لتنفيذ مؤامرة دبرها الملك ضدنا .. فرفعنا بنادقنا وصوبناها .. وأطلقنا في الهواء طلقة أصابتهم بالذعر .. وصحت فيهم بأعلى صوتي: قفوا عندكم .. وإياكم أن تتحركوا .. إذا تقدمتم خطوة واحدة، فنحن أبناء النجوم سنطفئ القمر ونجعل الأرض في ظلام دامس!
وازداد زحف ظل الأرض على وجه القمر فخفت نوره .. وبدأ الظلام يخيِّم وتختفي ملامح الوجوه الواجمة .. فصاح "سكراجا": إن القمر يموت .. هؤلاء السحرة البيض سيقتلون القمر!
وبحركة هي مزيج من الخوف والغضب .. رفع "سكراجا" رمحه وصوّبه نحو صدر "السير هنري" الذي تحاشى الضربة، والتقط الرمح، وقذفه بأقصى قوته نحو "سكراجا" فاخترق صدره، وسقط "سكراجا" ميتاً..
وأخذ الظلام يزداد ويزداد .. وازداد بالتالي هلع الفتيات وخوفهن من هذا الظلام الزاحف .. واستولى عليهن نوع من الجنون، فأخذن يجرين نحو البوابة وهن يصرخن صرخات مرعبة .. وهرب الملك وحراسه .. وهربت "جاجول" ودخلوا جميعاً إلى كوخ الملك طلباً للحماية .. وقلت للرؤساء الذين كانوا يقفون مشدوهين من هول الموقف: والآن أيها الرؤساء .. إذا كنتم قد اقتنعتم بالعلامة السحرية .. فهيّا بنا نذهب جميعاً إلى المكان الذي حددناه واتفقنا عليه بالأمس!
وقبل أن نصل إلى بوابة الخروج، كان القمر قد اختفى كلية، وخل ظلام دامس .. وتلمسنا طريقنا في هذا الظلام، وكل منا يمسك بيد الآخر .. وصحبنا معنا الفتاة الجميلة البريئة ..
وصلنا إلى التل الهلالي الشكل الذي تجمّع عنده كل الجنود التابعين "لإنفادوس" وللرؤساء الستة .. وكان الكسوف قد انتهى وعاد القمر ينشر نوره على ساحة المعركة المرتقبة .. كان الجنود متناثرين في السهل وعلى سفوح التل من الجانبين .. وكانت حرابهم ورماحهم تلمع وتتلألأ في ضوء المقر .. وكانت رياح الليل الرطبة تحرك الريش الذي كان يزين رؤوسهم .. وتساءل "السير هنري" قائلاً: ترى .. مَن مِن هؤلاء الجنود سيظل حياً حتى مثل هذا الوقت من مساء الغد ..؟!
هززت رأسي ولم أحر جواباً .. غداً ستكون المعركة .. وسيسقط الآلاف والآلاف .. وربما سنسقط نحن أيضاً ونموت .. ولكن الشيء المؤكد الذي سيبقى دائماً .. هو أن الشمس ستسطع على هذا المكان في كل نهار .. وستبعث الرياح بالأعشاب وسيقان الشجر .. وستظل هذه الأرض الواسعة كما كانت قبل أن نوجد .. وكما ستكون بعد أن ننتهي وينسانا الزمن..
إن الإنسان يولد ويعيش ويموت ويدفن في الأرض ويتلاشى ويُنسى اسمه .. ولكن الهواء الذي دخل إلى رئتيه وخرج منهما سيظل باقياً، يهب مع النسيم ومع الرياح .. وستظل الكلمات التي نطق بها تدور وتدور كالموجات، يتردد صداها في فضاء لا نهائي تملأه الكواكب والنجوم.
ومع تباشير الفجر ونور الصباح .. بدأ الجنود ينتظمون في المواقع المحددة لهم .. وكانت الخطة هي أن نطبق على جيش "توالا" من الأمام ومن الجهتين اليمنى واليسرى .. تماماً كحركة الكماشة .. وكان "أجنوسي" و "إنفادوس" و "سير هنري" واقفين على رأس جيش "الرماديين".. ووقف "الكابتن جود" على رأس الجيش المتمركز في الجهة اليمنى .. ووقفت أنا على رأس جيش الجهة اليسرى .. وانتظرنا وصول جيش "
ضع تعليقك :///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////
.
للكاتب هنري رايدر هكارد
منذ ثمانية شهور، حصلت على ثروة طائلة، وقد قضيت نحو خمسة عشر شهراً في سبيل الحصول على تلك الثروة، التي عرضتني إلى أحداث وأهوال جسام .. ولكني أحب أن أعرفكم بنفسي أولاً:
أنا "آلان كوترمين" .. وأعيش في مدينة "دربان" بإقليم "ناتال" في جنوب شرق أفريقيا .. وأنا في الخامسة والخمسين من عمري .. وبدأت حياتي العملية في سن مبكرة .. حيث عملت كبائع متجول .. ثم اشتغلت في أعمال صيد الحيوانات والأعمال الحربية .. كما اشتغلت أيضاً كعامل مناجم.
وفي يوم ما تعرفت على رجلين جاءا من إنجلترا إلى جنوب أفريقيا في مهمة خاصة .. الرجل الأول هو "سير هنري كيرتيس" .. وهو شاب في حوالي الثلاثين، وأعتقد أنه أضخم وأقوى رجل رأيته في حياتي .. أما الرجل الثاني فهو "الكابتن جون جود" .. وهو يتميز بحسن مظهره وشدة نظافته ولطفه .. وكان يضع على عينه اليمنى "مُونُوكل" .. وهي عدسة زجاجية مفردة توضع أمام العين لتقوية نظرها .. كما كان يضع في فمه طقماً من الأسنان الصناعية.
دارت بين وبين هذين الرجلين أحاديث طويلة .. عرفت منها أن "سير كيرتيس" قد جاء إلى جنوب أفريقيا للبحث عن أخيه "نيفيل" الذي هاجر من إنجلترا إلى جنوب أفريقيا بحثاً عن ثروة، ولكنه اختفى منذ فترة طويلة وانقطعت أخباره .. وقد علم "سير هنري كيرتيس" أني أعرف كثيراً من أخبار أخيه، ولذلك فقد لجأ إلي لمساعدته في العثور على أخيه المختفي .. أما الكابتن "جون جود" فهو صديق "لسير هنري" تطوع لمصاحبته في تلك المهمة.
تذكرت بصعوبة كل ما كنت أعرفه عن "مستر نيفيل" .. وقلت لهما إني عرفت بعض أخباره عن طريق خادم أسود اسمه "جيم" كان يعمل في خدمته، وصاحبه في آخر رحلة قام بها قبل انقطاع أخباره .. وعلمت من "جيم" هذا أن سيده يزمع القيام برحلة خطرة للحصول على "كنوز الملك سليمان".
ولما كنت أعرف بعض الحكايات التي يتوارثها الأهالي من قبائل "الزولو" عن هذه الكنوز المخبأة في الجبال البعيدة الواقعة خلف صحراء شاسعة قاحلة، فقد حذّرت "جيم" من المشاركة في تلك الرحلة التي قد لا يعود منها أبداً .. إلا أنه لم يسمع كلامي واختفى هو أيضاً.
اندهش "سير هنري" وصديقه "كابتن جود" لدى سماعهما عن "كنوز الملك سليمان" وسألاني هل هي موجودة فعلاً .. فقلت لهما إني لحسن الحظ أعرف الكثير عن تلك الكنوز ولدي أسرار لا يعرفها أحد.
أذكر مثلاً أن أحد النبلاء البرتغاليين واسمه "جوزيه سيلفستر" قد جاء الى هذه البلاد منذ نحو عشرين عاماً بقصد الوصول إلى تلك الجبال الواقعة خلف الصحراء .. وهي الجبال التي يقال أن الملك سليمان قد أخفى فيها كنوزه من الماس .. وقد تصادف لي أن قابلت هذا النبيل البرتغالي قبل قيامه بتلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر، وكان يتمتع بصحة جيدة.
وبينما كنت أقوم برحلة صيدٍ في الصحراء، فوجئت ذات يوم بشبح يزحف على يديه وركبتيه ولا يقوى على النهوض .. وكان هذا الشبح هو "جوزيه سيلفستر" بنفسه .. كان عبارة عن عظام مكسوة بالجلد .. أصفر الوجه من شدة المرض .. وأوشكت عيناه أن تخرجا من رأسه .. وكان يهمهم في ضعف: ماء .. شربة ماء بحق الله!
وبطبيعة الحال فقد أعطيته ما طلبه من ماء حتى ارتوى .. وبعد أن استراح قليلاً واستعاد وعيه .. أشار إلى قمم جبال سليمان الواقعة خلف الصحراء والتي تبدو باهتة عند خط الأفق وقال لي بصوت واهن ضعيف: يبدو يا صديقي أني أشعر باقتراب الموت .. ولقد كنتَ طيباً معي وأسديتَ إلي صنيعاً جميلاً .. لذلك فسوف أعطيك "الوثيقة" .. ربما تستطيع في يوم ما أن تقهر هذه الصحراء المترامية وتصل إلى تلك الكنوز
ومد "جوزيه سيلفستر" يده إلى داخل قميصه، وأخرج كيساً صغيراً مصنوعاً من جلد الغزال، وأعطاني إياه وطلب مني أن أفتحه .. فوجدت بداخله قطعة ممزقة من قماش قديم أصفر اللون، كتبت عليها بضع كلمات بلون أحمر يميل إلى البُنِّي .. وبداخل القماش وجدت قطعة من الورق.
وعندئذ قال لي "سيلفستر" بصوت أصبح أكثر ضعفاً .. إن هذه الورقة تتضمن ما كتب على قطعة القماش .. وأنه قضى عدة سنوات حتى تمكن من معرفة ما كان مكتوباً على القماش .. واعترف لي بأنه من أحفاد أحد النبلاء البرتغاليين الذي كان يعيش منذ نحو ثلاثمائة عام .. وكان من أوائل البرتغاليين الذين وصلوا إلى تلك المناطق بقارة أفريقيا .. وكان اسمه أيضاً "جوزيه دي سيلفستر".
وأخبرني أيضاً أن جده هذا هو الذي كتب هذه الكلمات بينما كان يحتضر على سفح أحد هذه الجبال التي لم يصل إليها من قبل رجل أبيض .. وبعد موته أحضر خادمه هذه "الكتابة" وسلمها للعائلة .. وظلت هذه الوثيقة في حيازة العائلة دون أن يهتم أحد بقراءتها إلى أن قام "جوزيه سيلفستر" بقراءتها وفك رموزها وطلاسمها .. وقرر أن يقوم بنفسه بما فشل فيه جده منذ ثلاثمائة عام .. وهو الحصول على كنوز الملك سليمان ليصبح أغنى رجل في العالم.
وبعد أن أعطاني "جوزيه سيلفستر" هذه الوثيقة وأخبرني بقصتها، تلاشت أنفاسه ومات في هدوء .. وحفرت له قبراً عميقاً دفنته فيه.
كان "سير هنري كيرتيس" وصديقه "الكابتن جون جود" ينصتان إلى ما رويته لهما بدهشة .. وسألاني عما كان مكتوباً في تلك الوثيقة .. فأخبرتهما بأنها كانت مكتوبة باللغة البرتغالية، وقد استعنت برجل برتغالي كان مخموراً لمساعدتي في ترجمة ما جاء في تلك الوثيقة إلى اللغة الانجليزية .. وهذا هو نص الوثيقة بالكامل:
"أنا جوزيه دي سيلفستر .. أموت الآن من شدة الجوع بداخل كهف في الجانب الشمالي من الجبل التي أطلقت عليها اسم "جَبَلَىْ صدر شيبا" .. ويقع الكهف في الجبل الجنوبي من هذين الجبلين .. وأنا أكتب هذه الوثيقة في سنة 1590م .. واستخدم قلماً مصنوعاً من قطعة من العظام .. أكتب به على قطعة من القماش التي مزقتها من قميصي .. أما الحبر الذي أكتب به فهو قطرات من دمي .. وعلى من يعثر على هذه الوثيقة فعليه أن يقدمها إلى ملك البرتغال لعله يأمر بارسال جيش للقيام بالمهمة .. وإذا استطاع هذا الجيش أن يجتاز فيافي الصحراء ويهزم قبيلة "كوكوانا" فسوف يصبح ملك البرتغال أغنى ملك على ظهر الأرض .. ويجب على الملك أن يرسل مع الجيش بعض رجال الدين، لأن رجال قبيلة "كوكوانا" يعرفون السحر وأساليب الشيطان وفنونه .. ولقد رأيت بعيني ملايين من أحجار الماس الثمينة، مخزّنة في غرفة كنوز الملك سليمان التي تقع خلف "الموت الأبيض" .. ولكن الساحرة الصيَّادة العجوز "جاجول" خدعتني، ولم أستطع الحصول من هذه الكنوز على شيء، سوى أن أخرج بحياتي سالماً .. وعلى كل من سوف يذهب إلى هذا المكان بناءً على نصيحتي وطبقاً لخريطتي، أن يتسلق القمة الجليدية للجبل الأيسر من جَبَلَىْ صدر شيبا حتى يصل إلى ذروتها وأعلى مكان فيها .. وعند الجانب الشمالي سيجد الطريق العظيم الذي مهده سليمان بنفسه .. وعلى مبعدة مسيرة ثلاثة ايام في هذا الطريق، سيصل إلى "قصر الملك" .. وعليه حينئذ أن يقتل الساحرة "جاجول" وأن يصلِّي من أجلي .. وداعاً .. جوزيه دي سيلفستر".
وبعد أن قرأت عليهما نص تلك الوثيقة .. سألني "سير هنري كيرتيس" عما إذا كنت أعرف الطريق إلى تلك الجبال التي ذهب إليها أخوه .. فأجبته بالإيجاب .. وهنا طلب مني أن أكون دليله في رحلة البحث عن أخيه في تلك الجبال البعيدة .. وقال لي بصراحة أنه لا يطمع في تلك الكنوز .. وأننا إذا عثرنا عليها فسوف تكون مناصفة بين وبين "الكابتن جود" .. وأنه سيتكفل بجميع مصاريف ونفقات الرحلة.
وقبل أن أوافق على هذا الطلب، حذرت "سير هنري" وصديقه من أن الرحلة حافلة بالمخاطر .. وقد لا نعود منها أبداً .. وأننا قد نلقى نفس المصير البائس الذي وقع فيه "جوزيه دي سيلفستر" منذ ثلاثمائة عام .. وحفيده "جوزيه سيلفستر" منذ نحو عشرين عاماً .. كما وقع فيه "مستر نيفيل" الذي انقطعت أخباره ..
ولكن "سير هنري" قال في هدوء: علينا أن نجرب حظنا ..
وعندئذ بدأت الاستعداد للقيام بتلك المهمة الخطرة ..
اشترينا عربة وبعض المعدات الأخرى .. وكان "سير هنري" قد أحضر معه من إنجلترا عدداً كبيراً من البنادق والمسدسات، فأخذنا معنا عشرة بنادق وثلاثة مسدسات وكمية مناسبة من الذخيرة.
وأتفقت مع سائق ودليل من قبائل الزولو هما "جوزا" و "توم" .. وكنت أريد الاستعانة أيضاً بثلاثة من الخدم الأشداء الأقوياء الشجعان .. ولكني عثرت على اثنين فقط تتوافر فيهما هذه الشروط وهما "خيفا" و "فنتفوجل".
وفي مساء اليوم السابق على السفر جاءني رجل من الزولو اسمه "أمبوبا"، وهو شاب طويل القامة قوي الجسم لطيف المظهر، ويبلغ نحو الثلاثين من عمره .. وذكرني هذا الرجل بنفسه حيث اشترك معي في إحدى المعارك الحربية التي قادها "اللورد شملز فورد" وكنت أعمل كدليل يصاحب تلك الحملة العسكرية.
قال "أمبوبا" إنه سمع أننا ننوي القيام برحلة عظيمة نحو الشمال .. وهو يريد أن يصحبنا في تلك الرحلة ولو دون أجر .. لأنه كما قال رجل شجاع يحب مواجهة الصعاب والمخاطر.
كان "أمبوبا" ذا جسم ضخم يماثل جسم "سير هنري" .. لذلك فقد أعجب به "سير هنري" وقرره أن يتخذه كخادم خاص له أثناء الرحلة .. وقبل "أمبوبا" هذا العرض.
***********
كانت رحلة طويلة .. شاقة ومجهدة .. قطعنا فيها نحو ثلاثة آلاف ميل .. بدأناها من مدينة "دربان" في نهاية شهر يناير .. حتى وصلنا إلى مشارف قرية "سيتاندا" في الأسبوع الثاني من شهر مايو ..
وأنا لا أريد أن أصف هنا جميع التفاصيل والأحداث التي صادفتنا خلال تلك الرحلة، ولكني أذكر أن "كابتن جود" كاد أن يلقى مصرعه تحت أقدام فيل هائج، لولا أن سارع "خيفا" الشجاع بغرس رمحه في خرطوم الفيل، فازداد هياج الفيل المتوحش، وأمسك "بخيفا" وداسه بقدميه حتى مات المسكين مضحياً بحياته في سبيل إنقاذ الكابتن. وبعد أن أطلقنا بنادقنا على الفيل الهائج حتى أرديناه قتيلا، قال "أمبوبا" أن "خيفا" قد مات ميتة الرجال الشجعان.
وكانت قرية "سيتاندا" تقع على حافة الصحراء الشاسعة التي تمتد وكأنها بلا نهاية .. وهي قرية صغيرة تتناثر فيها أكواخ الأهالي مع بعض حظائر الماشية، وبعض الحقول المزروعة بالحبوب.
وعند حافة تلك الصحراء، تذكرت ما حدث منذ عشرين عاماً حينما شاهدت المسكين "سيلفستر" وهو يزحف على يديه وقدميه وقد ساءت حاله بعد محاولته الفاشلة في الوصول إلى "كنوز الملك سليمان"
كان الجو صافيا، ولذلك فقد استطعت أن أرى التكوينات الزرقاء الباهتة لقمم جبال سليمان عند الأفق البعيد .. وعندئذ أشرت إلى تلك القمم البعيدة وقلت "لسير هنري": ها هي الجبال عن الأفق .. إنها تبدو كجدار عالٍ يحيط بكنوز الملك سليمان .. ويعلم الله إذا كنا سنستطيع أن نتسلق هذا الجدار أم سنرجع خائبين.
ونظر "سير هنري" إلى تلك الجبال البعيدة التي تقع في آخر تلك الصحاري القاحلة، وقال إن أخاه هناك ولا بد أن يعثر عليه. وهنا قال "أمبوبا" إن الصحراء واسعة جداً وليست فيها قطرة ماء .. وإن الجبال عالية جداً ومغطاة بالثلوج .. ثم وجه كلامه إلى "سير هنري" وقال: إذا كنت يا سيدي تنوي اجتياز تلك الصحراء وتصعد فوق قمم تلك الجبال لتبحث عن أخيك .. ربما سأبحث أنا أيضاً عن أخ لي وراء تلك الجبال ..
لم أفهم ما كان يقصده "أمبوبا" بهذا الكلام .. وسألته إن كان يعرف شيئاً عن تلك الجبال البعيدة، فقال إنه يعرف القليل .. فنهاك أرض غريبة تعيش فيها الساحرات والأشياء الجميلة .. وفيها رجال شجعان وأشجار وجداول مياه وثلوج .. وهناك أيضاً طريق عظيم أبيض اللون.
**************
وفي اليوم التالي أعددنا عدتنا وجهزنا أنفسنا لبدء الرحيل .. آملين في اجتياز تلك الصحراء القاحلة حتى نصل إلى جبال سليمان .. وكانت خطتنا أن نواصل السير أثناء طراوة الليل، وأن نستريح أو ننام خلال قيظ النهار. وقبل أن نخطو الخطوة الأولى في رحلتنا، صاح بنا "سير هنري" بصوته العميق وقال: أيها الرجال .. نحن مقدمون على رحلة من أغرب رحلات الإنسان على وجه الأرض .. وعلينا أن نصلي لله الذي بيده مقادير البشر، لكي يرشدنا ويبارك خطانا.
وهكذا تحركنا وبدأنا نخوض في الرمال ..
لم يكن معنا دليل يرشدنا سوى قمم تلك الجبال البعيدة، والخريطة القديمة التي رسمها "جوزيه دي سيلفستر" منذ ثلاثمائة عام .. وإذا قدر لنا ألا نعثر على "البئر ذي المياه الفاسدة" الذي يتوسط الصحراء طبقاً لما هو مرسوم بالخريطة، فسوف يكون هذا معناه أننا سنموت عطشاً .. وأنا شخصياً كنت أعتقد أن العثور على مثل هذا البئر وسط هذا البحر من الرمال الممتد بلا أول ولا آخر يعتبر أمراً بعيد الاحتمال.
وواصلنا المسير صامتين في ضوء القمر .. يغمرنا إحساس كثيف بالوحدة والشعور بالانعزال عن العالم .. ومرت الأيام والليالي .. ولم يكن هناك أي أحياء غيرنا في كل هذا الاتساع الشاسع .. لا حيوان ولا طير .. سوى أسراب الذباب التي كانت تهجم علينا كالجيوش الجرارة.
ونفذ كل ما حملناه معنا من المياه .. وأصبحنا نعاني من العطش الشديد وحرارة الشمس تكاد تشوي لحم أجسادنا .. ولا أدري كيف تحملنا كل هذا العذاب دون أن نموت .. وأخيراً ارتمينا على الرمال ممددين .. ومصيرنا معلق بين الحياة والموت.
وفجأة .. هب "فنتفوجل" واقفاً، ورفع أنفه نحو السماء، وأخذ يتشمم الهواء في مختلف الأنحاء، ثم قال بصوت واثق: إني أشم رائحة الماء .. هناك ماء في مكان قريب من هنا!
ونظرنا حولنا في كل الاتجاهات .. فلم نر سوى "جَبَلَىْ صدر شيبا" اللذين يبعدان عنا بنحو خمسين ميلاً .. ويبعد كل جبل منهما عن الجبل الآخر مئات الأميال ويحصران بينهما سلسلة جبال سليمان .. وأخيراً قال "سير هنري": ربما يوجد الماء على قمة هذا التل القريب.
وصعدنا صاغرين إلى أعلى التل .. وكم كانت المفاجأة مذهلة .. لقد عثرنا على ماء يملأ فجوة عميقة من شقوق التل .. فشربنا وارتوينا وملأنا بطوننا عن آخرها، واستعدنا قدرتنا على مواصلة الرحيل عند شروق القمر.
وفي الثالث والعشرين من شهر مايو، وصلنا إلى سفح الجبل الذي تشير إليه الخريطة .. ولحسن حظنا عثرنا على بعض أشجار الفواكه البرية .. ثم بدأنا الصعود إلى قمة الجبل .. وكلما صعدنا كانت البرودة تزداد وتزداد، حتى أصبحنا نعاني من شدة البرد القارس عندما وصلنا إلى منطقة الجليد .. وهنا قال "الكابتن جود" بصوت واهن: اعتقد أننا الآن بالقرب من الكهف الذي كتب فيه "جوزيه دي سيلفستر" رسالته ورسم خريطته.
وكان من الواضح أننا إذا لم نعثر على هذا الكهف قبل حلول الظلام، فسوف نموت متجمدين في تلك الثلوج .. وفجأة صاح "أمبوبا" بفرح: هذا هو الكهف .. هاهو مدخله هناك ..!
كانت الشمس قد غربت ولم تترك سوى ظلام دامس حين وصلنا زاحفين إلى فتحة الكهف .. وتسللنا إلى الداخل واحداً بعد الآخر، وبدأنا نستريح ونلتقط أنفاسنا .. وحتى نلتمس بعض الدفء، تجاورنا وتلاصقت أجسادنا، وشرعنا في النوم.
وعندما بدأ ضوء الشمس يتسلل إلى داخل الكهف، اكتشفنا أن "فنتفوجل" قد مات من شدة البرد .. فتركناه حيث كان راقداً، والحزن عليه وعلى أنفسنا يكاد يمزقنا.
ثم اكتشفنا شيئاً محزناً آخر .. رأينا جثة "جوزيه دي سيلفستر" الذي مات منذ ثلاثمائة عام .. كان يبدو جالساً مستنداً إلى جدار الكهف، ورأسه مائل على صدره، وذراعاه الطويلتان مسترخيتان إلى جانبيه .. وكانت بشرته الصفراء قد التصقت بعظامه، وكان جسده كله مجمداً وجافاً ..
تركنا الجثتين في مكانيهما داخل الكهف، ليبقيا هناك إلى ما لا نهاية .. وبدأنا نزحف خارجين إلى ضوء الشمس الساطع، ونحن نسأل أنفسنا: ترى .. بعد كم من الساعات سنلقى نحن مثل هذا المصير التعس ..؟!
**********************
بدأت الشبورة تنقشع وتتلاشى رويداً .. وبدأت الأشياء تبدو بوضوح .. ونظرنا إلى أسفل الجبل فرأينا مجرى صغيراً من الماء الرائق .. ومساحة هائلة مغطاة بالعشب الأخضر .. وعلى جانب غدير الماء، رأينا مجموعة من الغزلان الجبلية الكبيرة وقد وقفت تشرب.
وبطبيعة الحال، فقد اصطدنا غزالاً وأقمنا وليمة فاخرة .. وشربنا حتى ارتوينا واستعدنا أرواحنا، وعادت إلينا قوانا وحيويتنا، وبدأت معالم المكان تتضح أمامنا أكثر وأكثر .. فهناك الوادي الأخضر الواسع .. وهناك غابة كثيفة .. ونهر كبير ينساب في مجراه الفضي .. ومراع خضراء شاسعة ترعى فيها مواشٍ وأبقار لا حصر لها .. وحقول مزروعة بالحبوب .. وكان المنظر جميلاً لم أرَ مثله في حياتي!
وكانت المفاجأة حينما رأينا طريقاً رائعاً في صخر الجبل، ويبلغ اتساعه نحو خمسين قدماً .. أخيراً .. عثرنا على طريق سليمان!
كانت بعض أجزاء الطريق منحوتة في صخر الجبل .. وقد نحتت على الجدران من الناحيتين مناظر غريبة لرجال مسلحين يقودون مركبات حربية .. ومناظر معركة .. ومناظر لجماعات من الأسرى.
وسرنا في طريق سليمان حتى وصلنا إلى غابة صغيرة يتخللها غدير من الماء الرائق .. وهناك جلسنا لنستريح ولنتاول طعامنا .. ثم أشعلنا الغلايين وبدأنا ندخن ..
وكان "الكابتن جود" جالساً على شاطئ الغدير يجفف جسمه بعد أن أخذ حماماً .. ولم يكن يرتدي سوى قميصه بعد أن خلع جميع ملابسه الأخرى ليغسلها في ماء الغدير .. وفجأة، رأينا سهماً ينطلق مثل خط من الضوء مر بجانب رأسه .. ثم ظهرت أمامنا مجموعة من الرجال!
كانوا طوال القامة بشكل أكثر من المعتاد، تلمع بشرتهم السوداء كالذهب، وفي مقدمتهم يقف فتى صغير لا يتجاوز سبعة عشر عاماً .. وكان ما زال ممسكاً بالقوس الذي رمى به سهمه الطائش.
وفي الحال أمسك كل من "السير هنري" و "الكابتن جود" ببندقيته وصوبها نحو صدور الأهالي الذين بدوا كما لو كانوا لا يعرفون ما هي البنادق، فقد ظلوا يتقدمون نحونا بلا خوف من إطلاق النار .. وعندئذ صحت في رفاقي: أخفضوا بنادقكم ودعوني أتصرف!
وبدأت التفاهم مع هؤلاء الرجال بلغة الزولو .. وقلت لهم إننا غرباء وقد جئنا نريد السلام .. ولكن رجلاً عجوزاً قال على الفور: هذا كذب .. فالغرباء لا يستطيعون اجتياز الجبال وعبورها .. والغرباء غير مسموح لهم بأن يعيشوا على أرض "كوكوانا" .. هذا هو قانون الملك .. وعليكم أن تستعدوا للموت!
وتقدموا نحونا وهم يشهرون سكاكينهم ..
وكعادته حين تضطرب أعصابه .. أخرج "الكابتن جود" من فمه طاقم أسنانه العلوي، ثم أدخله إلى فمه مرة أخرى .. وكانت هذه الحركة ضربة حظ لا مثيل لها .. فقد صاح الرجال المهاجمون صيحة رعب وتراجعوا إلى الخلف وقد جحظت عيونهم من شدة الخوف والذعر!
وأدركنا أن المهاجمين قد خافوا من طاقم أسنان الكابتن، فطلبت منه أن يعيد إخراج طاقم الأسنان وإدخاله إلى فمه مرة أخرى .. وعندما فعل الكابتن ذلك ازداد رعب الرجال وأخذوا ينتفضون خوفاً وهلعاً .. وصرخ الفتى الصغير الذي كان يتقدم الرجال صرخة مدوية .. وتحامل الرجل العجوز على نفسه وسألني وهو يرتجف: إنكم لستم من البشر .. هل يمكن أن تلد النساء رجلاً له عين مستديرة {مشيراً إلى المونوكل} تلمع في ضوء الشمس .. وله أسنان تخرج من فمه وتدخل .. ؟!
وعندئذ انتهزت هذه الفرصة فقلت لهم فوراً: لقد جئنا من عالم آخر .. جئنا من النجم الكبير الذي يلمع في السماء ليلاً! .. وسوف نقيم عندكم لفترة قصيرة ولنمنحكم البركة أيضاً .. والآن .. دعونا نعاقب اليد التي رمت السهم على هذا الرجل الذي تخرج أسنانه من فمه وتدخل!
فقال الرجل العجوز: نرجوكم أن تعفوا عن .. إنه ابن الملك!
وانتهزت هذه الفرصة أيضاً لأبين لهم مدى قوتنا .. فأشرت إلى "أمبوبا" وقلت له: إعطني الماسورة المسحورة التي تتكلم .. فأعطاني البندقية التي كان يحملها، وقلت لهم وأنا أشير إلى حيوان كان يقف على بعد نحو سبعين متراً: هل يستطيع رجل ولدته امرأة أن يقتل هذا الحيوان البعيد بمجرد احداث صوت ..؟!
قال المحارب العجوز: لا يمكن .. هذا مستحيل يا سيدي!
وعندئذ صوبت البندقية نحو الحيوان وأطلقتها فخر صريعاً على الفور .. فازداد الرجال رعباً وخوفاً .. وعلت الدهشة وجوههم المذعورة .. وقال العجوز في النهاية: لق اقتنعنا بكم .. إن جميع الساحرات في قبيلتنا لا يستطعن أن يفعلن شيئاً كهذا .. والآن .. اسمعوا يا أبناء النجم الساطع .. يا أبناء العيون التي تلمع في صوء الشمس والأسنان التي تخرج منلافم وتدخل .. يا من تستطيعون القتل بهذا الصوت المرتفع كالرعد .. أنا اسمي "إنفادوس" .. وأنا ابن "كافا" الذي كان ملكاً على شعب "كوكوانا" .. أما هذا الشاب فاسمه "سكراجا" .. وهو ابن "توالاط الملك العظيم .. سيد "كواكوانا" وحارس الطريق العظيم .. وباعث الرعب في قلوب أعدائه .. وقائد مائة ألف من الجنود الشجعان .. "توالا" المرعب .. صاحب لاعين الواحدة!
قلت للرجل العجوز إننا نريد أن نقابل الملك "توالا" .. فالتفت الرجل العجوز إلى رفاقه وأمرهم بحمل جميع أمتعتنا وحاجياتنا فيما عدا البنادق التي لم يجسروا على الاقتراب منها أو لمسها .. وحملوا أيضاً ثياب "الكابتن جود" التي كان قد خلعها ليغسلها .. ولكن الكابتن صاح بهم أن يتركوا ملابسه ليرتديها .. ولكن الرجل العجوز قال في دهشة: لا يا سيدي .. هل يريد سيدي أن يغطي ساقيه البيضاوين؟ .. هل فعلنا شيئاً شريراً حتى يقوم سيدي بتغطية ساقيه؟!
وهنا تقدم "سير هنري" إلى "الكابتن جود" وقال له: لقد ظهرت في هذه البلاد بشخصية خاصة متميزة .. ويجب عليك أن تستمر في تمثيل هذه الشخصية .. ومن الآن فصاعداً يجب أن تبقى هكذا .. لا تلبس سوى القميص والحذاء .. وتظل محتفظاً بالمونوكل فوق عينك .. لأنك إذا غيرت أي شيء من مظهرك هذا .. فسوف يتوقفون عن تصديقنا .. وسيقتلونا جميعاً في لحظة واحدة!
وفي أثناء الطريق دار بيني وبين "إنفادوس" العجوز حديث طويل بلغة الزولو .. سألته: من ذا الذي بنى هذا الطريق يا "إنفادوس"؟ فقال: لقد بُني في عصور قديمة يا سيدي .. ولا أحد يعرف كيف ولا متى بُني .. حتى الساحرة العجوز "جاجول" التي عاشت مئات السنين وظلت تعيش حتى الآن لا تعرف ذلك.
وَظَلَلْتُ أوجه أسئلتي إلى "إنفادوس" حتى عرفت منه الكثير من الأسرار .. عرفت أن جنود الملك "توالا" يعدون بالآلاف .. وأن حرباً أهلية قد دارت رحاها بين العائلة المالكة في قبيلة "كوكوانا" .. وكان سبب هذا النزاع هو عادات وتقاليد القبيلة التي تقضي بأن أية أمرأة إذا ولدت طفلين توأمين فيجب أن يُقتل الطفل الأضعف.
وكان للملك السابق "كافا" أخ توأم ولد معه .. ولكن أم الملك أخفت وليدها الآخر حتى لا يتعرض للقتل .. وعندما مات الملك "كافا" تولى العرش أخوه الأصغر "إيموتو" .. ولكن "جاجول" الساحرة العجوز المرعبة، أيدت "توالا" الأخ التوأم للرجل الميت .. وقام "توالا" بقتل الملك "إيموتو" وتولّى العرش بدلاً منه .. ولكن أرملة "إيموتو" هربت وحملت معها طفلها الرضيع "أجنوسي" .. ومنذ ذلك الحين لم يرها أحد.
فسألته باهتمام: معنى ذلك إذا كان "أجنوسي" لم يزل حياً .. فسوف يكون هو الملك الحقيقي لشعب "كوكوانا" ..؟
فأجاب على الفور: هذا صحيح .. وهناك علامة "الوحش الزاحف" التي نوشم بها الابن الأكبر للملك حين يولد .. فإذا كان "أجنوسي" حياً فسوف يصبح الملك صاحب الحق الشرعي على شعب "كوكوانا" .. ولكن من المؤكد أن "أجنوسي" قد مات.
كان "أمبوبا" يسير خلفي مباشرة .. وسمع كل هذ الحديث الذي دار بين وبين "إنفادوس" .. ولاحظت أنه مهتم بسماع هذا الحديث كلمة كلمة ..
ونظراً لأن "إنفادوس" كان قد أرسل بعض الرسل للإعلان عن قدومنا .. فقد لاحظنا ونحن نقترب من القرية أن هناك فرقاً كثيرة من الرجال كانت تتجمع على جانبي الطريق وهم يحملون في أيديهم حراباً ذات سنون لامعة ودروعاً رمادية اللون .. وأفهمني "إنفادوس" أن هؤلاء الجنود إسمهم "الرماديون" وهم من خيرة الجنود في شعب "كوكوانا" .. وأنه هو القائد الآمر لهؤلاء الرماديين.
واجتزنا القرية حتى أصبحنا على مشارف مدينة "لوو" عاصمة أرض "كوكوانا" .. وهي مدينة صغيرة تقع بالقرب من تل له شكل غريب يشبه حدوة الحصان أو شكل هلال القمر .. وخلف المدينة كانت هناك ثلاثة من الجبال لها شكل وتكوين غريب، وتتوج قممها الثلوج .. ولاحظ "إنفادوس" أننا نركز أنظارنا على تلك الجبال .. فقال يوضح لنا أمرها: إنها جبال مملوءة بالكهوف .. وعندها ينتهي الطريق .. وجميع ملوكنا الذين ماتوا مدفونون هناك .. في أرض الموت!
وهنا قلت لرفاقي باللغة الإنجليزية: إن كنوز الملك سليمان مخبأة في تلك الجبال ..
وكان "أمبوبا" واقفاً بالقرب مني وهو مستغرق في تفكير عميق، ولكنه قال فجأة: نعم .. الكنوز موجودة هناك .. وما دمتم تحبون هذه الأشياء فسوف تحصلون عليها.
واستمر سيرنا وسط صفوف لا حصر لها من الأكواخ .. إلى أن وصلنا إلى مجموعة صغيرة من الأكواخ بنيت على شكل دائرة تتوسطها ساحة واسعة .. وأعدوا لنا كوخاً مستقلاً لكل واحد منا .. وزودونا بالطعام وبالماء .. ولكننا آثرنا أن نبقى جميعاً في كوخ واحد حتى نكون مجتمعين سوياً عند حدوث أي خطر .. ثم استغرقنا بعد ذلك في نوم عميق لأننا كنا في غاية الارهاق والتعب.
وفي صباح اليوم التالي، ذهبنا لمقابلة الملك "توالا" .. الذي كان يعيش في كوخ كبير شديد الضخامة .. أمامه ساحة واسعة اصطف فيها آلاف من الجنود مدججين بالرماح والدروع، وقفوا جامدين كما لو كانوا قد نحتوا من صخور صلبة .. وجلسنا على بعض المقاعد أمام بوابة الكوخ الملكي انتظاراً لظهور الملك وحاشيته.
وعندما فُتحت بوابة الكوخ، ظهر رجل ضخم الجثة كالعملاق، وخلفه صبي صغير هو "سكراجا"، ومخلوق آخر غريب يبدو كما لو كان قرداً مجففاً يرتدي ملابس من فراء الحيوانات.
كان الملك "توالا" ذا وجه مخيف يثير الرعب .. وله شفتان غليظتان وأنف ضخم مفلطح وعين واحدة يطل منها الشر .. وكان يزين رأسه بعديد من الريش الأبيض، وجسمه كله مغطى بدرع لامع، ويمسك في يده اليمنى رمحاً ضخماً، وحول رقبته حلقة سميكة من الذهب .. وفي منتصف جبهته تتلألأ ماسة ضخمة لم نر من قبل مثلها.
ولكي يرينا الملك قوته وجبروته، أمر بإعدام جندي لا يحمل درعه بطريقة جيدة .. فتقدم ابنه "سكراجا" وغرس رمحه في قلب الجندي المسكين .. وهنا سمعنا صوتاً حاداُ يخرج من المخلوق الذي يشبه القرد المجفف: خذوا هذا القتيل بعيداً .. وغطوا آثار الدماء .. قال الملك أوامره .. وأطيعت أوامر الملك!
أوشك "السير هنري" أن ينهض محتجاً على تلك القسوة الظالمة .. ولكن أشرت إليه بأن يلزم الصمت حتى لا نتعرض للمشاكل .. وأخيراً تحدث إلينا الملك قائلاً: هى جئتم حقاً من النجوم البعيدة؟ .. هل تعرفون إني قادر على جعل مصيركم مثل هذا الجندي الذي مات في لحظة خاطفة..؟
وعندئذ قلت للملك وأنا أضحك ساخراً: ألم يخبروك بأننا قادرون على القتل ونحن نقف في مكان بعيد ..؟!
قال الملك: لقد أخبروني بذلك ولكني لا أصدقه .. أروني كيف تقتلون رجلاً من هؤلاء الجنود الواقفين هناك.
قلت: نحن لا نقتل الرجال إلا إذا كان ذلك من أجل عقاب عادل .. أحضر لنا فيلاً أو أي حيوان آخر ودعه يقف عند تلك البوابة البعيدة .. وسترى بنفسك أني سأسقطه ميتاً وأنا واقف في مكاني هنا.
وأمر الملك بإحضار فيل .. وهمست إلى "السير هنري" بأن عليه أن يطلق النار على الفيل فور ظهوره عند البوابة حتى يعرف الجميع أنني لست الساحر الوحيد في جماعتنا .. وما أن ظهر الفيل عند مدخل البوابة البعيدة، حتى صوب "السير هنري" بندقيته نحوه، وأطلق النار فسقط الفيل صريعاً .. وانطلقت على الفور همهمات التعجب من آلاف الجنود ومن جميع الموجودين الذين شاهدوا ما حدث.
وظهرت ملامح الخوف على وجه الملك، فانتهزت هذه الفرصة وقلت له: أنظر الآن .. إني أستطيع أن أكسر رمحك وأنا واقف في مكاني .. وصوبت بندقيتي نحوه وأطلقتها فتناثر سن الرمح إلى قطع صغيرة .. وانطلقت همهمات الدهشة والتعجب مرة أخرى.
وهنا رأينا المخلوق الذي يشبه القرد المجفف يزحف على أربع من مكانه في الظل، واتجه إلى حيث كان الملك .. وعندئذ هب هذا المخلوق الغريب واقفاً على قدميه الخلفيتين وأزاح الغطاء عن وجهه .. وكم كانت دهشتنا حين رأينا وجه امرأة عجوز معمرة، كله تجاعيد متغضنة، وليس في رأسها شعرة واحدة .. كانت هذه المرأة هي "جاجول" الساحرة الشهيرة الشريرة التي لا يعرف عمرها أحد .. والحقيقة أن الخوف قد اعترانا جميعاً بسبب منظرها المرعب .. ومدت "جاجول" عظام يدها حيث تظهر أصابعها ذات الأظافر الطويلة ووضعتها على كتف الملك "توالا" وقالت:
"اسمع أيها الملك .. اسمعوا يا كل الموجودين هنا .. إني أرى أنهاراً من الدم ستسيل في كل مكان .. وأنتم أيها الرجال البيض القادمون من النجوم البعيدة .. هل تبحثون عن شخص مفقود كما تقولون؟ .. لن تجدوه هنا .. فمنذ آلاف السنين لم تطأ هذه الأرض قدم بيضاء .. وإذا كنتم قد جئتم من أجل الأحجار البيضاء فسوف تعثرون على تلك الأحجار بعد أن يجف الدم .. (ثم تقدمت إلى "أمبوبا" وقالت له) .. وأنت يا صاحب الوجه الأسمر الفخور .. من أنت؟ .. إني أعرفك وأستطيع أن أشم رائحة الدماء التي تجري في قلبك وعروقك .. اخلع ملابسك لأرى!" .. وعلى الفور سقطت الساحرة العجوز مغشياً عليها ..
وقام الملك وكل عضو فيه يرتعش .. وأصدر أمراً بانصراف الجنود .. وقال لنا في صوت خافض: اذهبوا في سلام .. الليلة ستقام حفلة رقص أدعوكم لمشاهدتها .. وغداً سوف أفكر ..!
وقام "إنفادوس" بمصاحبتنا حتى وصلنا إلى كوخنا ..
تلاحقت بعد ذلك أحداث هامة .. وقال لنا "إنفادوس" بصراحة أن الملك "توالا" مستبد ظالم .. وأن الأرض تصرخ من قسوته وشهوته للقتل .. وأن حفلة الرقص التي سيقيمها الليلة ستشترك فيها الساحرات الصيّادات .. وستقوم الساحرات بِشَمِّ بعض الحاضرين لاختيارهم للقتل .. فإذا كان الملك يريد أن يستولي على القطيع المملوك لأحد الرجال .. أو يريد أن يستولي على زوجة أحد الرجال .. أو إذا كان يخشى من سلطة رجل معين، فإن الساحرات الصيّادات اللواتي درّبتهن "جاجول" سيقمن بشم هؤلاء الرجال .. وهذا معناه أن الساحرات قد اختارت هؤلاء الرجال للقتل فيقتلون في الحال .. إن الأرض كلها تعاني من ظلم "توالا" وأساليبه الدموية.
وعندما سألت "إنفادوس" لماذا لا تتخلصون من هذا الملك الظالم .. قال: إننا إذا قتلنا "توالا" فسوف يتولى العرش ابنه "سكراجا" وهو يحمل قلباً أكثر سواداً من قلب أبيه .. (ثم قال بعد فترة صمت قصيرة) .. لو لم يقتل الملك "إيموتو" .. أو لو كان ابنه "أجنوسي" ما زال حياً، لكان الأمر مختلفاً .. ولكن "إيموتو" و "أجنوسي" قد ماتا ولم يعد هناك أمل.
وهنا هب "أمبوبا" واقفاً وتقدم إلى "إنفادوس" وقال له وسط دهشتنا جميعاً: لا يا عمي "إنفادوس" .. إن "أجنوسي" لم يمت .. إنه ما زال حياً .. أنا "أجنوسي" يا عمي .. لقد هربت أمي بعد مقتل زوجها الملك "إيموتو" وحملت معها ابنها .. واستطاعت أن تعبر به الجبال والصحاري .. وعاشت في أرض تنبت فيها الأعشاب والأشجار .. ولقنت ابنها كل المعلومات عن وطنه الأصلي وعن مكانته في هذا الوطن .. لقد عشت يا عمي واستطعت أن أكسب عيشي بنفسي .. عملت خادماً .. وعملت جندياً واشتركت في معارك وحروب كثيرة .. وكنت أحلم دائماً بالعودة إلى وطني لأطالب بحقي حتى ولو لقيت حتفي .. وعندما تقابلت مع هؤلاء الرجال البيض الشجعان، وعلمت أنهم سيذهبون إلى وطني في تلك الأرض البعيدة، التحقت بخدمتهم وجئت معهم .. !
كان "إنفادوس" ينصت إلى هذا الكلام وهو مذهول لا يستطيع أن يصدق نفسه .. ولكنه تماسك وقال: إذا كنت أنت "أجنوسي" كما تقول .. فهيا اخلع ملابسك لأرى شيئاً ..
وقام "أمبوبا" وخلع جميع ملابسه وأصبح عارياً كما ولدته امه .. وأشار إلى وشم "الوحش الزاحف" الذي كان مرسوماً حول خصره .. وعندما تأكد "إنفادوس" من هذا الوشم، خر راكعاً على ركبتيه وصاح في فرح: أنت ابن أخي .. أنت "أجنوسي" .. أنت الملك!
وقال "أمبوبا": انهض يا عمي .. فأنا لم أصبح بعد ملكاً .. ولكن بمساعدتك، ومساعدة هؤلاء الرجال البيض الشجعان من أصدقائي .. سأصبح ملكاً على تلك البلاد وأستعيد عرشي الذي اغتصبه "توالا" .. فهل ستضع يدك في يدي، وتصبح رَجُلي الذي اعتمد عليه ..؟!
فتقدم "إنفادوس" إلى "أمبوبا" (أو بالأحرى إلى أجنوسي) وخر على ركبتيه مرة أخرى ووضع يده في يدي "أجنوسي" وقال: أعاهدك على أن أكون رجلك حتى آخر حياتي!
كنا نستمع إلى تلك الحكاية ونحن في غاية الدهشة .. لقد جاء "سير هنري" إلى هذه البلاد البعيدة ليبحث عن أخيه المفقود .. وجئنا معه لهذا الغرض وللبحث أيضاً عن كنوز الملك سليمان .. فإذا بنا الآن أمام عملية لم تكن في الحسبان، ولكنها مغامرة لا بأس من الاشتراك فيها.
وتداولنا الأمر مع "أمبوبا" (أجنوسي) ومع عمه "إنفادوس" في كيفية تنفيذ عملية التخلص من "توالا" وتولِّي "أجنوس" عرش "كوكوانا" .. فقال "إنفادوس": الليلة سيقام حفل الساحرات الصيّادات .. وستمتلئ قلوب الكثيرين بالغضب ضد الملك "توالا" .. وعندما ينتهي الحفل، سأتكلم مع بعض الرؤساء الكبار .. وسأحضرهم معي ليتأكدوا بأنفسهم أنك يا "أجنوسي" الملك الحقيقي .. وغداً سيكون لدينا عشرون ألف رمح تحت أمرنا.
وبعد أن غربت الشمس وحل الظلام، أشعلت آلاف المشاعل لتضيء المكان .. ثم ظهر القمر وكان بدلاً كاملاً .. وتجمع في الساحة الكبرى أكثر من عشرين ألفاً من الأهالي .. وكانوا مقسمين إلى مجموعات صغيرة تفصل بين كل مجموعة وأخرى طرقات ضيقة لكي تسمح بتجول الساحرات الصيّادات حين يبدأ العمل
ودقت الطبول، وظهر الملك "توالا" ومع ابنه "سكراجا" والساحرة العجوز "جاجول"، وخلفهم فرقة مكونة من اثني عشر جلاداً .. وهم الذين سيتولون قتل كل من سوف تختاه الساحرات .. ثم حل الصمت والوجوم .. وبدأ ظهور الساحرات واحدة بعد أخرى .. ثم بدأت كل ساحرة منهن ترقص رقصاً عنيفاً يشبه حالة الهياج والجنون ..
ورأينا الساحرة التي كانت قريبة منا وهي تشم أحد الرجال .. فأخرجوه من الجمع وتقدم إليه الجلادون فقتلوه بطريقة سريعة بشعة .. ثم بدأت الساحرات الأخريات في شم العديد من الرجال الذين كانوا يُقتلون في لمح البصر واحداً بعد الآخر .. وتكومت الجثث غارقة في دمائها .. وحاولنا من جانبنا أن نوقف هذه المذبحة ونتشفع لهؤلاء القتلى لدى الملك لكي يعفو عنهم .. ولكن الملك استبدت به شهوة القتل وقال وهو يتمتع برؤية الدماء: من الأفضل لمثل هؤلاء الكلاب أن يموتوا ..
وأخيراً هبت الساحرة العجوز "جاجول" واقفة، وقفزت إلى الساحة وأخذت تجري وتهرول وترقص بحركات عنيفة أثارت فزعنا وفزع الأهالي .. وفجأة توقفت أمام رجل طويل القامة وضخم الجثة كان واقفاً أمام جماعته وبدأت تشمه .. وسمعنا صرخات قوية أطلقتها الجماعة التي كان يرأسها الرجل الذي تم اختياره للقتل .. وقد علمنا فيما بعد أن هذا الرجل يمتلك ثروة كبيرة كان الملك يريد الاستيلاء عليها.
ثم عاودت "جاجول" رقصها العنيف واتجهت نحونا .. ثم توقفت وبدأت تشم "أمبوبا" (أجنوسي) في كتفه .. وصرخت بصوتها الحاد: لقد شممته .. شممت رائحة الشر التي تملأ قلبه .. أقتله .. أقتله أيها الملك .. أقتل هذا الغريب قبل أن تسيل الدماء بسببه ..
وساد الصمت والوجوم .. ولكني وقفت وصحت بالملك قائلاً: أيها الملك .. إن هذا الشخص يعمل خادماً لدينا .. ونحن ضيوفك .. وأي شيء يؤذيه سيؤذينا نحن أيضاً .. ونحن نعلن حمايتنا لهذا الرجل ..!
ولكن الملك "توالا" أجاب بغضب: لقد شَمَّته ولمسته أُمُّنا "جاجول" بنفسها .. وهي أم الساحرات الصيّادات جميعهن .. لذلك فلا بد أن يقتل الآن فوراً ..!
وعندئذ أشهرنا بنادقنا ومسدساتنا وقلت: إذا حاول أحد أن يقتله، فسوف نقتله قبل أن يفعل ذلك.
ومع ذلك أشار الملك إلى الجلادين الذين كانوا يقفون خلفه وقد تغطت ملابسهم وأيديهم وأجسامهم كلها بدماء الضحايا، وأمرهم بصوت مرتفع غاضب: أمسكوه .. واقتلوه!
عندئذ قفزتُ إلى المنصة وصوبت مسدسي نحو رأس الملك .. وصوب "مستر هنري" مسدسه نحو رئيس الجلادين .. بينما صوب "الكابتن جود" مسدسه نحو "جاجول" .. وقلت للملك محذراً: سنقتلكم جميعاً وسنقتل الملك إذا حاول أي منكم أن يمس شعرة واحدة من شعر رأسه!
وتراجع الملك عن موقفه وقال مغتاظاً: لأنك قلت أن هذا الرجل يعتبر أيضاً من ضيوفي .. وليس خوفاً من تهديدكم .. فقد عفوت عنه.
فقلت بهدوء وما زلت مصوباً مسدسي نحو رأسه: والآن .. لقد تعبنا من مشاهدة الموت والقتل .. ونريد أن نذهب لكي ننام .. فهل انتهت حفلة الرقص؟
فقال بصوت ينم عن الغضب: لقد انتهت!
ثم أشار إلى جثث القتلى التي كانت مكومة أمامه وقال للجلادين: خذوا جثث هؤلاء الكلاب وألقوها للكلاب!
وانصرفنا في هدوء وحذر إلى كوخنا ..
قرب الفجر سمعنا وقع أقدام خارج الكوخ .. ودخل "إنفادوس" ومعه ستة من الرؤساء .. وقال باحترام شديد: سادتي .. سيدي "أجنوسي" .. أيها الملك الحقيقي لشعب "كوكوانا" .. لقد أحضرت معي هؤلاء الرجال الرؤساء .. إنهم من أصحاب السلطة والنفوذ بيننا .. وتحت إمرة كل واحد منهم ثلاثة آلاف من الجنود الأشداء .. والآن .. دعهم يا "أجنوسي" يروا بأنفسهم وشم "الوحش الزاحف" المرسوم على خصرك .. واسمعهم قصتك حتى يقرروا انضمامهم إلينا ضد الملك "توالا".
قام "أجنوسي" وخلع ملابسه وأراهم الوشم .. وحكى لهم قصته التي سمعناها من قبل .. وسأل "إنفادوس" الرؤساء عن رأيهم .. فقال أكبر الرؤساء سناً: حقاً إن الأرض تصرخ من ظلم "توالا" وقسوته وجبروته .. لقد كان أخي أحد الذين قتلهم الملك هذه الليلة .. ولكن الموضوع شديد الخطورة .. فسوف تسيل دماء كثيرة .. وسينضم الكثيرون إلى "توالا" .. فالناس ينحنون للشمس المضيئة في السماء ولا ينحنون للشمس التي لم تشرق بعد .. وهؤلاء الرجال البيض الذين جاءوا من النجوم لديهم قوة سحر عظيمة .. وهم يضعون "أجنوسي" في حمايتهم .. ولا بد أن يقدموا للناس علامة سحرية .. وعندما يرى الشعب هذه العلامة، سيعرفون أن سحر هؤلاء البيض يقف في صف "أجنوسي" باعتباره الملك الحقيقي .. وعندئذ سينضمون جميعاً إلينا ضد الملك "توالا".
وعندما شرحت لرفاقي ما قاله هؤلاء الرؤساء .. قال "الكابتن جود" بثقة وكأنه يقول شيئاً هاماً: اعتقد أننا نستطيع أن نقدم لهم العلاقة السحرية التي طلبوها .. وعليهم أن يتركونا لنفكر بعض الوقت ..
وأخرج الكابتن كتاباً كان يحمله ضمن أمتعتنا، وأخذ يقلب صفحاته بسرعة وقال: إن غداً هو اليوم الرابع من شهر يونيو .. وسوف يحدث للقمر كسوف كلي يبدأ في الساعة الثامنة والربع بتوقيت "جرينتش" .. وسيشاهد هذا الكسوف في جنوب أفريقيا .. إذن هذه هي العلامة السحرية .. ولنخبرهم بأننا سنطفئ القمر مساء الغد!
كانت فكرة عظيمة اقتنعنا بها فوراً .. فقلت "لإنفادوس" وللرؤساء الذين معه: إننا لا نحب أن نستعرض قوتنا .. ولكن نظراً لأن الموضوع هام وخطير .. ولأننا سنعمل معاً على إزاحة الملك "توالا" فقد قررنا أن نعطيكم العلامة السحرية التي طلبتموها .. وهي علامة سيراها الناس جميعاً .. غداً في منتصف الليل .. سنخفي القمر ونطفئه تماماً لمدة ساعة ونصف .. وسيغطي الظلام الأرض كلها .. هذه هي العلامة السحرية التي تؤكد أن "أجنوسي" هو الملك الحقيقي لشعب "كوكوانا" ..
وهنا قال كبير الرؤساء وهو يبتسم: تكفينا هذه العلامة إذا قمتم بها حقاً .. وأريد أن أخبركم بأن الملك "توالا" سيدعوكم بعد ساعتين من غروب شمس الغد لمشاهدة حفلة "رقص بنات" وسيقوم "توالا" باختيار أجمل الفتيات وأكثرهن فتنة وأحسنهن رقصاً .. وسيأمر ابنه "سكراجا" بقتل هذه الفتاة ليقدمها قرباناً للآلهة الصامتين الذين يحرسون الجبال .. وعندما تطفئون القمر .. ستنقذون الفتاة من القتل .. وسيقتنع بكم الناس جميعاً ..!
وقال "إنفادوس" موجهاً كلامه إلينا وللرؤساء الذين معه: هناك خارج مدينة "لوو" .. يوجد تل يأخذ شكل هلال .. وهناك سيجتمع جنودي وكل الجنود التابعين لهؤلاء الرؤساء .. وسنضع خطة لينضم إلينا جنود آخرون .. وإذا استطعتم أن تطفئوا القمر فعلاً، فسوف أسحبكم في الظلام إلى خارج المدينة لتصبحوا في أمان وسط الجنود .. وفي صباح اليوم التالي سنبدأ معركتنا ضد "توالا".
وبعد أن تم هذا الاتفاق مع الرؤساء خلدنا إلى النوم لنستريح .. وقضينا النهار التالي في هدوء وترقب .. ووصلتنا دعوة الملك "توالا" لحضور حفلة "رقص البنات" التي ستقام في المساء .. وعندما حل الموعد ارتدينا الدروع تحت ملابسنا، وحملنا بنادقنا وأسلحتنا .. وذهبنا إلى الحفل.
كان هناك جموع غفيرة من البنات وكل واحدة منهن كانت تضع على رأسها تاجاً من الزهور، وتحمل ورقة كبيرة من أوراق الشجر في إحدى يديها، وتحمل في يدها الأخرى زهرة بيضاء.
وعلى دقات الطبول بدأت البنات في رقصة جماعية جميلة .. ثم بدأت البنات الجميلات في الرقص منفردات .. ووقع اختيار الملك على فتاة منهن كانت أكثرهن جمالاً وأحسنهن رقصاً .. وقالت الفتاة ببراءة أن اسمها "فولاتا" .. وتقدمت إليها الساحرة العجوز "جاجول" وقالت لها بصوتها الكريه: سنقدمك أيتها الفتاة قرباناً للآلهة الصامتين عند الجبال .. إن نوم الليل أفضل للإنسان من تعب النهار .. والموت أفضل كثيراً من الحياة .. وستحصلين على شرف الموت بيد ملكية .. سيقتلك إبن الملك بنفسه!
أصيبت الفتاة بذعر شديد لدى سماعها هذا الكلام البغيض .. فصاحت بأعلى صوتها: يا متوحشون .. يا غلاظ القلوب .. إني ما زلت صغيرة .. وماذا جنيتُ حتى تحرموني من رؤية الشمس وهي تولد من بطن الليل .. ومن رؤية النجوم في السماء بعد أن تغرب الشمس وتذهب .. ومن قطف الزهور التي يبلِّلها الندى .. ومن سماع ضحكات المياه وهي تترقرق .. ومن عودتي إلى كوخ أبي .. ومن قبلات أمي .. ومن رعاية الخراف الصغيرة حين تمرض .. ومن ذراع حبيب وهو ينظر في عينيّ شغوفاً مولعاً .. ومن أطفال أولداهم فيصبحون رجالاً .. أنتم متوحشون .. قساة .. وقلوبكم غليظة !
ويبدو أن هذا الاستعطاف لم يغير شيئاً من شعور الساحرة "جاجول" ولا شعور الملك "توالا" .. بالرغم من أني رأيت ملامح التأثر واضحة في وجوه الحراس ووجوه الرؤساء الذين شهدوا المواقف وسمعوا كل كلمة .. ورأيت "الكابتن جود" وقد هب واقفاً وتأهب لمساعدة تلك الفتاة البريئة .. ويبدو أن الفتاة قد لمحته وأحست بمشاعره، فألقت بنفسها على الأرض عند قدميه مستجيرة به وقالت: إنقذني أيها الأب الأبيض الذي جاء من النجوم .. إنقذني من "جاجول" ومن هؤلاء المتوحشين!
انحنى "الكابتن جود" وأمسك بذراع الفتاة وأنهضها من الأرض وقال يطمئنها: أنهضي يا فتاة .. سوف أحميك وأدافع عن حياتك .. ولن يمسّك أحد بسوء!
في تلك اللحظة، رأيت قوساً من ظل الأرض وقد بدأ يقترب من وجه القمر .. لقد بدأ الكسوف فعلاً .. فصحت في وجه الملك قائلاً: اننا لن نسمح لك بقتل هذه الفتاة البريئة ..
فقال الملك للحراس: إقبضوا على هؤلاء الرجال واقتلوهم!
واندفع نحونا بعض الرجال المسلحين الذين كانوا يقفون وراء الكوخ استعداداً لتنفيذ مؤامرة دبرها الملك ضدنا .. فرفعنا بنادقنا وصوبناها .. وأطلقنا في الهواء طلقة أصابتهم بالذعر .. وصحت فيهم بأعلى صوتي: قفوا عندكم .. وإياكم أن تتحركوا .. إذا تقدمتم خطوة واحدة، فنحن أبناء النجوم سنطفئ القمر ونجعل الأرض في ظلام دامس!
وازداد زحف ظل الأرض على وجه القمر فخفت نوره .. وبدأ الظلام يخيِّم وتختفي ملامح الوجوه الواجمة .. فصاح "سكراجا": إن القمر يموت .. هؤلاء السحرة البيض سيقتلون القمر!
وبحركة هي مزيج من الخوف والغضب .. رفع "سكراجا" رمحه وصوّبه نحو صدر "السير هنري" الذي تحاشى الضربة، والتقط الرمح، وقذفه بأقصى قوته نحو "سكراجا" فاخترق صدره، وسقط "سكراجا" ميتاً..
وأخذ الظلام يزداد ويزداد .. وازداد بالتالي هلع الفتيات وخوفهن من هذا الظلام الزاحف .. واستولى عليهن نوع من الجنون، فأخذن يجرين نحو البوابة وهن يصرخن صرخات مرعبة .. وهرب الملك وحراسه .. وهربت "جاجول" ودخلوا جميعاً إلى كوخ الملك طلباً للحماية .. وقلت للرؤساء الذين كانوا يقفون مشدوهين من هول الموقف: والآن أيها الرؤساء .. إذا كنتم قد اقتنعتم بالعلامة السحرية .. فهيّا بنا نذهب جميعاً إلى المكان الذي حددناه واتفقنا عليه بالأمس!
وقبل أن نصل إلى بوابة الخروج، كان القمر قد اختفى كلية، وخل ظلام دامس .. وتلمسنا طريقنا في هذا الظلام، وكل منا يمسك بيد الآخر .. وصحبنا معنا الفتاة الجميلة البريئة ..
وصلنا إلى التل الهلالي الشكل الذي تجمّع عنده كل الجنود التابعين "لإنفادوس" وللرؤساء الستة .. وكان الكسوف قد انتهى وعاد القمر ينشر نوره على ساحة المعركة المرتقبة .. كان الجنود متناثرين في السهل وعلى سفوح التل من الجانبين .. وكانت حرابهم ورماحهم تلمع وتتلألأ في ضوء المقر .. وكانت رياح الليل الرطبة تحرك الريش الذي كان يزين رؤوسهم .. وتساءل "السير هنري" قائلاً: ترى .. مَن مِن هؤلاء الجنود سيظل حياً حتى مثل هذا الوقت من مساء الغد ..؟!
هززت رأسي ولم أحر جواباً .. غداً ستكون المعركة .. وسيسقط الآلاف والآلاف .. وربما سنسقط نحن أيضاً ونموت .. ولكن الشيء المؤكد الذي سيبقى دائماً .. هو أن الشمس ستسطع على هذا المكان في كل نهار .. وستبعث الرياح بالأعشاب وسيقان الشجر .. وستظل هذه الأرض الواسعة كما كانت قبل أن نوجد .. وكما ستكون بعد أن ننتهي وينسانا الزمن..
إن الإنسان يولد ويعيش ويموت ويدفن في الأرض ويتلاشى ويُنسى اسمه .. ولكن الهواء الذي دخل إلى رئتيه وخرج منهما سيظل باقياً، يهب مع النسيم ومع الرياح .. وستظل الكلمات التي نطق بها تدور وتدور كالموجات، يتردد صداها في فضاء لا نهائي تملأه الكواكب والنجوم.
ومع تباشير الفجر ونور الصباح .. بدأ الجنود ينتظمون في المواقع المحددة لهم .. وكانت الخطة هي أن نطبق على جيش "توالا" من الأمام ومن الجهتين اليمنى واليسرى .. تماماً كحركة الكماشة .. وكان "أجنوسي" و "إنفادوس" و "سير هنري" واقفين على رأس جيش "الرماديين".. ووقف "الكابتن جود" على رأس الجيش المتمركز في الجهة اليمنى .. ووقفت أنا على رأس جيش الجهة اليسرى .. وانتظرنا وصول جيش "
ضع تعليقك :///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////
الموضوع الأصلي : رواية كنوز الملك سليمان للكاتب هنري رايدر هكارد // المصدر : Cairo9 // الكاتب: New Life