New Life الخميس 2 يونيو 2011 - 1:03 | | حكايـات وأساطير عالمية . حكايـات وأساطير عالمية ترجمة : أحمد يعقوب *
الإهداء: إلى الطفولة التي أمعنوا في الاعتداء عليها ...!! إلى الطفولة كي تحلق في تخيلات لا تنتهي إلا بالإنسانية الحالمة والمبدعة ..
أحمد يعقوب
العنوان بالإسبانية : Oros Viejos Hermino Almendros
صادر عن: Editorial Gente Nueva La Habana Cuba
دار النشر: مؤسسة عبد المحسن القطان رام الله
مقدمة
حكايات وأساطير عالمية التي نقدمها هنا للطفولة العربية بشكل عام وللفلسطينية على وجه الخصوص ، هي نصوص في غاية الروعة والجمال . وهذه الغاية في الروعة تتأتى من جمالية مواضيعها ، وثراء ثيماتها ، وتنوع تواريخ ومكان حدوثها ومصادرها الجغرافية ، فتشمل القارات القديمة والجديدة . فعن شعوب الهنود الحمر في القارة الأمريكية تتحدث هذه الأساطير والحكايات عن التاريخ الشفاهي لتلك الشعوب التي تمت إبادتهم من قبل الاستعمار القديم وكانوا قوماً لم يعرف الكتابة بعد فتنقلنا حكاياتهم وأساطيرهم إلى الذاكرة الساحرة للهندي الأحمر عن تاريخ المكان و دلالته الأسطورية وربما فلسفته كما عن معتقداتهم الغيبية وطقوسهم في الحياة وتحدثنا عن الحب العذري وعن الفروسية والبطولة. وعن أساطير النار فثمة إضافة تاريخية كبيرة في تنوع الأسطورة فإضافة إلى الأسطورة الإغريقية المعروفة بأسطورة بروميثيوس فإننا نجد هنا أسطورة من أمريكا الشمالية ومن نيوزيلاندا تتحدثان بسحرية فائقة و مخيلة طفولية خصبة. وفي جانب آخر تحدثنا هذه النصوص عن الهند والصين القديمة واليابان وعن الحكمة التي وسمت شعوب تلك البلدان وكذلك عن أفريقيا وعن شعوب الفايكنغ والجزر البريطانية والأراضي المنخفضة (هولندا)
هذه المختارات من الحكايات والأساطير العالمية ، جاء عنوانها الأصلي باللغة الإسبانية : VIEJOS هي الجمع لكلمة ذهب ، أما OROS و OROS VIJOS . فهي الجمع لكلمة عتيق أو قديم . لهذا ستكون الترجمة الحرفية: مجموعة ذهب عتيق !! وعندما أتدخل في الترجمة فإنني أكتبها كنوزّ عتيقة علماً أن مفردة كنز باللغة الإسبانية هي : TESORO وليست ORO ، مع أن مفردة ORO تدخل في نسيج كلمة الكنز !! وهنا يتضح مقدار تدخل المترجم في النص الأصلي. حقاً إنّ هذه النصوص هي لقيا أثرية بل إنها كنوز تاريخية . نقدمها إلى أطفالنا بكل المحبة والإخلاص للمخيلة البريئة وهي تحلم بمستقبل أفضل.
أحمد يعقوب
الكتاب الأول الأزتيــــــــك
من شواطئ المحيط الأطلسي الدافئة في الأرض المكسيكية، يمكن صعود الأدراج الحجرية للجبال ،حتى الوصول إلى الهضبة المعروفة باسم "أنهواك/Anahuac". هذه الأرض المرتفعة والمحاطة بجبال جرداء ، وبقمم تغطيها الثلوج، كانت مأهولة بالسكان في غابات شاسعة عند وصول الغزاة الإسبان. وذاك الوادي الكبير الذي توجد فيه مدينة المكسيك اليوم كان المركز الرئيس لحضارة الهنود الحمر، المعروفة بحضارة شعب الأزتيك.وهو شعب عريق وغني جدا برجاله المكافحين ،وأصحاب الكفاءة والطقوس الدينية الحازمة. عند وصول الغزاة في القرن السادس عشر كانت إمبراطورية الأزتيك في أوج ازدهارها، إذ كانت قد تمددت إلى ابعد من تلك الجبال، وفي البلاد كانت هناك قصور رائعة مزخرفة بشكل جميل، و كانت هناك هياكل ومعابد للحكمة، على شكل أهرامات وتماثيل آلهة وحيوانات مقدسة. ان أثار تلك الحضارة لا تزال قائمة حتى أيامنا الحالية: أثار مدن ،أثار معابد، ودلائل على تلك الحضارة الأصيلة وحكاياتها الجميلة والبطولية.
حبّ البراكين
عظيمة كانت سلطة الإمبراطور الجبّار إمبراطور الأزتيك. أما مدينة" تينوتش تي تيتلان" العاصمة المستقلة لأرض "أنهواك" الشاسعة فكانت مدينة كبيرة وغنية بالخيرات. كانت قبائل أخرى ومدن أخرى، قد نمت هنا وهناك، منزرعة بين الغابات، وشيوخ القبائل الصغيرة والكبيرة والعظيمة ،كانوا في خدمة الإمبراطور الأزتيكي. فكانوا يدفعون الضرائب ،التي كانت تتعاظم بها "تينوتش تي تيتلان" مدينة الإمبراطورية. ومع أن إمبراطورية الأرض الشاسعة لـ" أنهواك" كانت عظيمة وغنية, لكن لم تكن جميع الشعوب سعيدة ، فالذهب الكثير والرجال الكثيرون كانوا يذهبون إلى المعبد ، كفرضٍ كان على "تينوش تي تيتلان"العظيمة أن تقدمه. كانت الشعوب متعبة من تلك العبودية ، وشيوخ القبائل كانوا بصمت يكظمون تذمرهم ، لخوفهم من عقاب الإمبراطور العنيف سيد الجميع. لكن إرادة السماء كانت قد أعدّت شيئا ما، وما قُدّر أن يكون فقد كان. فالشيخ العظيم لمملكة" تلاكس كالا" كان قد قرأ ذلك، قرأه في ضوء النجوم. ومنذ ذلك اليوم وضع إرادته إلى جانب إرادة الزعماء الآخرين وشيوخ القبائل من كل الممالك والقبائل وقال: سيمضي شعبي في الطريق الذي تقوله الإرادة العليا لنا جميعا. فلنتحد لنتحرر من تلك العبودية.لا ذهب بعد اليوم ، ولا فتية من أجل مذبح الأزتيكيين.لكن، الخوف أوقف الكثيرين.
أمّا الزعيم الشجاع والمتمرد فلقد بقي وحيدا مع شعبه. وبدأت الحرب بين رجال" تلاكس كال" اللإندومابالس , والأزتيكين الشجعان، الذين انضم إليهم آخرون من سبع ممالك. كان الصراع مكتوبا هناك في رسومات النجوم ،صراع الزعيم الشجاع، لكن، كاهناً ساحراً تمكن أيضا من قراءة المغامرة الكبيرة ، التي ستحدث.فهو أيضا استطاع أن يقرأ ،ويفهم،لكنه، لم يقل ذلك. فلقد حدث أن أسرت فتاة بحبها شيخ القبيلة ، الزعيم "فوفوكاتيفيتي" ، سيد وملك "تلاكس كال" . كانت الفتاة رائعة ،مثل حبات الذرة الناضجة ، وجميلة وبهية ،مثل الصباح. وكل العيون كانت تنظر بحب إلى الأميرة الجميلة "اكستاك سيهوات" ، لكن، الأكثر شجاعة من بين المحاربين وضع عينيه البراقتين وقلبه عليها. وعندما خرج المحاربون ،"التلاكس كاليين" إلى خوض المعركة مع الممالك السبع التي كانت قد اتحدت مع الأزتيكيين ، فلقد أعطيت القيادة إلى الربان الأكثر قوة وشراسة. أما الشجاع" فوفوكاتيفيتي" صاحب الحب الصامت للأميرة ، والذي لا يخضع ولا يركع ، فلقد طلب أمنية واحدة فقط : "يا سيدي، إذا عدتُ منتصرا فاجعل لي "اكستاك سيهوات" زوجة فأنا أهيم بها بصمت ". والسيد العظيم وعد ،والوعد كان احتفالا عظيما على شرف انتصارك ، وعلى شرف الزوجة الرائعة مثل الشمس. ومضى "فوفوكاتيفيتي" الذي لا يهزم أمام رجاله المحاربين ،يأخذه الأمل الجميل لقلبه. اجتاز الغابات، صعد التلال، اجتاز السيول الجارفة والبحيرات, يقاتل ضد مئات ومئات من الجنود،يصارع وينتصر ، ويحارب دون هوادة ،لا يهزمه الوهم، وبعد مئات المعارك فها هو بطل عظيم ومنتصر.
لقد قاتل "فوفوكاتيفيتي" , وهو المحارب الأعظم ، وقد انتصر ، و يعود مكللا بريش طيور النسور، يعود ليبحث عن الجائزة التي حلم بها كثيرا. وفي شوارع مدينته يجد الموسيقى وأفراح النصر، لكن، في القصر الكبير للملك كان هناك صمت يجمد القلب. عندها خرج سيد "تلاكسكال" بخطوة صامتة ، ونظرة فاجعة ، واخذ "فوفوكاتيفيتي" من يده ، وجعله يمضي معه في أروقة ظليلة ، حتى وصلوا إلى سرداب محفور في الصخر. وهناك رأى الأميرة "إكستاك سيهوات" ملفوفة بكفن الموت الأبيض. قال الملك الكبير بالسن بصوت مخنوق بالحشرجات: " لقد خبأتها لك يا ولدي لكن الموت خطفها " . لكن ،البطل الذي هزم ستة ملوك، وجعلهم يوقعون معاهدة مع الأزتيكيين ، البطل لم يتكلم ، فهو يشعر أن انتصاراته قد أحبطت, وأن سيده الأعظم قد أهانه. أحس بقوة خفقان دمه، اهتز قوس النشاب بين يديه، نادى على الظلال، ظلال أسلافه ،أطلق صوته إلى السماء التي أعطته النصر لكنها خذلت حبه. وفي الليل يجيء البطل ، ويذهب في مكانه ، كأنه يهذي, و على ضوء القمر بدى وكأنه قد أصبح عملاقا ضخما جدا. فينطلق، ويأمر، ويصرخ ، و يحرك آلاف المحاربين, ثم ينطلقون عظماء جميعهم تحت ضوء القمر, فيجتازون الغابات, ويرفعون التراب ، ويحركون الأرض ، ويجمعون الجبال في مدرج هائل ، ويكومون الصخور، ويرفعونها قبالة النجوم.
عندها، يأخذ "فوفوكاتيفيتي" بين ذراعيه الشابة الحبيبة ، ويقفز بها مدرجات الجبال، ويمضي بها. وهناك في القمم يضعها ممددة و بيضاء تحت ضوء القمر والى جانبها ينحني المحارب ، يضيىء بقبعته شعلة الحلم الأبيض للأميرة الهندية الرائعة الجمال. لقد صار الحبيبان "إكستاك سيهوات" و " فوفوكاتيفيتي" صارا جبلين ترعى قمتيهما الثلوج تحت شمس "أناهواك" كخاتمة حب خالد.
إله الهواء والحياة
إنها حكاية من حكايات الآلهة ،عند الهنود الحمر، "كيتزا لوكاتل" إله الهواء والحياة ، الذي هبط إلى العالم من أجل أن يفتدي الناس ، ويساعدهم ، ويعيش معهم, حيث شعر جميعهم بحبه لأنه كان إلهاً طيبا ولا يمكن أن يأتي منه أي سوء. وعنه يروون :
عندما ولد البشر لم يكن هناك شمس، ولا قمر في العالم. عندها اجتمعت الآلهة في "تيوتيهواكان " ليفكروا بالطريقة التي يمكن بها إنارة السماء والأرض ، وبذلك يمكن للبشر أن ترى . قالت الآلهة كلمات كثيرة في ذلك المجلس. وفي الختام قرروا أن يقوم إلهٌ بالتضحية بنفسه وأن يتحول إلى شمس. اثنان من الآلهة تطوعا للتضحية. الأول كان إلهاً غنيا وجباراً والثاني كان إلهاً فقيراً ومريضاً. هناك بالضبط، في" تيوتيهواكان" رفعت الآلهة ميزاناً ، من الحجر، والى جانبه أضرموا ناراً كبيرة. استعدت الآلهة طيلة أربعة أيام متتالية ، و لقد صام الذين سيذهبون إلى التضحية، وفي اليوم الخامس اصطف الألهة الآخرون ،في صفين طويلين ، وأمامهم كانت تشتعل المحرقة ضخمة وبراقة.. الإله الفقير والإله الغني كانا جاهزين. صعد الغني ثلاث مرات إلى الميزان وفي المرات الثلاث كان يخاف من الوهج ومن لون الوميض. أما الإله الفقير فقد صعد لمرة واحدة. أغمض عينيه وقفز إلى اللهب مسببا بذلك الخجل للإله الغني والذي بدوره قذف بنفسه إلى النار أيضا.. أطبق صمت طويل كانت الآلهة فيه تنتظر وتنتظر وانتظرت أياما أربعة حتى خمدت النار . وفي اليوم الرابع بدأت السماء تتحول إلى الحمرة, وأخيرا ظهرت الشمس. وفي الوقت نفسه تقريبا وفي الجهة المقابلة في السماء ظهر القمر رائعًا وبرّاقاً كالشمس تماماً.
اعتقدت الآلهة أن ذلك كان مجردَ وهمٍ فامتعضوا. أخذ أحدهم أرنباً ، وقذف به نحو القمر، فبدى بياض الأرنب ، وقد تعرض إلى بقعٍ من الظل، ولم يبق أكثر من النظر لمعرفة أنّ ذلك قد حصل. كان الآلهة مذهولين، وهم ينظرون إلى الحدث الغريب، لكن، كانت الشمس في صفحة السماء لا تتحرك وكذلك القمر. وعندما نظروا وهم يتساءلون بعيونهم قالت الشمس:" القوا بأنفسكم أيضاً علكم تصيرون نجوماً في السماء ". وأيقظت الشمس ريحاً قويةً وغريبةً ضربت الأرض وخطفت الآلهة وحوّلتها إلى نجوم ، سمّرتها في السماء . وعندئذ دار كل شيءٍ في الفضاء بفضل قوة الرياح تلك . ومن ذلك الوقت تتقد النجوم عندما تنطفئ الشمس.. وتنطفئ عندما تضيىء . كل هذا قاله "كيتزا لكوتال" إلى الرجال في مدينة "تويان" العظيمة. لكن ماذا يقول الناس عن الإله الطيب اله الحياة اله العطاء ، عن "الحيّة ذات الريش" ؟ أي معنى الاسم الرائع لـ"كيتزا لكوتال" الذي عاش في "توييان" ،حيث كان الناس سعداء, فلقد علّمهم كيتزا لكوتال أن يكونوا سعداء، لأنه علّمهم أن يعملوا وأن يتمتعوا بالعمل. في "توييان" كان الناس يعملون في الأرض وكان نبات الذرة ينمو في عرانيس كأنها من ذهب. والقطن كان ينبت بكل الألوان كي لا يضطر الناس لصبغه بعصير جذور الأعشاب . في "توييان" سبك الناس الفضة والذهب. وقد صقلوا الأحجار الكريمة ، و صنعوا التماثيل والبيوت من الحجارة. زخرفوا فسيفساءات بريش طائر كيتزال* ، وريش طائر "الكوليبري"** وطائر ال "غواكامايو"***، وكتبوا الشمس والقمر بإشارات، وكذلك حركة الأفلاك..
لقد علّم "كيتزالكوتال" كل هذا إلى ناس "توييان". ما عدا فن الحرب ، لهذا لم تصبغ حقولهم أية دماء بشرية أبدا ..ولهذا فإن ناس "توييان" وقّّـروا كيتزالكوتال. ولهذا السبب شيّدوا له قصراً ومذابحَ مغطاة دائماً بالخبز والورود والمسك. فقبل مجيىء "كيتزال كوتال" لم يكن ذرة في توييان ، إذ كان الناس يعيشون على جذور النباتات والصيد. فقد كانت الذرة مختبئة بين الجبال ولم يكن بمقدور أحد أن يجلبها إلى الناس. آلهة كثيرون حاولوا أن يفصلوا الجبال التي كانت تغلق الممر إلى حقول الذرة ولم يتمكنوا من ذلك.وفي أحد الأيام جاء "كيتزا لكوتال" وعرف كيف يصنع الأشياء بطريقة ثانية أفضل من طريقة القوة. فلقد حوّل نفسه إلى نملة سوداء ونملة حمراء. وبدأ يصعد الجبل الذي كان نبات الذرة ينبت خلفه. كان الجبل شاهقا تكاد قمته تصل إلى السماء ، وحوافه حادة ومنحدرة ، و كان الوادي عميقاً، لهذا ، كان جباراً ذلك الجهد الذي يجب بذله لاجتياز كل تلك المعيقات الخطيرة، لكن كيتزا لكوتال كان يشعر بحب الناس في قلبه ، ولهذا لم يسمح للتعب أن يهزمه، فنجت النملتان من المعيقات. صعدت النملتان صخورا حادة وشاهقة ، وعبرتا الحواف الصاعدة باتجاه السماء ، وفي النهاية وصلتا إلى المكان الذي تنبت فيه الذرة. أخذ كيتزالكوتال بـ"فكّييه" كنملة حبة ذرة ناضجة جدا وعاد إلى توييان.وهناك زرعها الناس لأول مرة. ومن ذلك الوقت تخلوا عن الصيد ، وبدأو ببناء المدن والمعابد تغمرهم السعادة. منذ ذلك الوقت ,وقّّر واحترم جميعهم كيتزال كوتال ، الإله الطيب صديق الناس ، إله الهواء والحياة .
* طائر الكيتزال طائر من طيور أمريكا الوسطى (المترجم ) ** طائر الكوليبري طائر أمريكي حجمه صغير جدا له منقار طويل ومدبب له ريش كثيف يسمونه العصفور الذبابة ( المترجم ) *** طائر العواكامايو طائر ببغاء كبير ريشه أحمر و أزرق و أصفر ( المترجم )
المايا *
أرض ماياب"Mayab"هي الاسم القديم جدا لما يسمى اليوم " يوكاتان ،Yucatan " . أرضٌ يبابٌ ووعرةٌ تحت السماء، لكنها من الداخل، تحت التربة الصخرية ، فهي تفيض بصمت الكهوف الكبيرة وعيون الماء الهادئ ، حيث تأتي إليها الأفاعي والخراف المخملية ، لتشرب. في تلك الأراضي التي يمنحها الندى بريقاً في الصباح قبل أن تبدأ الشمس بحرقها، هناك ، يمر الهندي بسحنته التي لوّحتها الشمس.ويمضي صامتاً بطيئاً ، يثبّت نظراته في المشهد الذي يخبئ ذكريات هنود المايا وحضارتهم القديمة. شيءٌ قليلٌ هو ما يُعرف عن ذلك الشعب العريق ،كباقي شعوب العالم القديم. وعن الرجال الذين في روابي السهول الصفراء شيّدوا قصوراً رائعة ومعابدَ من حجرٍ ، تمتزج فيها منحوتات وجه الهندي مع الزخارف والنقوش البديعة المدهشة. يُعرف القليل، لكن، يمكن تخمين القوة النادرة والعظيمة لتلك الحضارة من خلال إيماءات وروح الهندي الحالي ،الذي يعرف التاريخ الشعري والمعاني العميقة لكل شيء في سماء وأرض شعب المايس.
* شبه جزيرة "يوكاتان،”Yucatan
وردة الماياب البيضاء
كلّ الذين عاشوا في أرض الماياب كانوا قد سمعوا عن الاسم العذب للأميرة الجميلة.جميعهم يعلمون أن ساكنيكت تعني الوردة البيضاء. كانت مثل القمر العالي الذي يسكن الليالي الهادئة. وكانت "حبّابة" مثل حمامة مطوقة بالهديل العذب ، حمامة بهية وعذبة مثل قطرات الندى ،كانت جميلة مثل الوردة التي تملأ الحقل بالسعادة المعطّرة، ورائعة مثل ضياء الشمس الذي يضم كلّ الألوان، وناعمة مثل النسمة التي تأخذ بين ذراعيها كلّ الأغنيات. هكذا كانت الأميرة ساكنيكت التي ولدت في المدينة الشامخة لـ"مايافان". كان السلام يوّحد المدن الثلاث الكبرى كشقيقات على أرض ماياب . والمدن هي: " مايافان الجديدة والغالية و "أوكسمال" الرائعة و"تشي تشين إتزا" التي كان فيها المذبح ومعبد الحكمة. لم يكن هناك جيش ، لأن ملوك تلك المدن كانوا قد قطعوا عهداً بان تعيش المدن مثل شقيقات. كل الذين عاشوا في ماياب سمعوا أيضا اسم الأمير "كانيك" ؟ الذي يعني "الأفعى السوداء" .و كان مقداما، وقوي القلب، وعندما أتمّ لثلاث مرات سبع سنوات، تم تنصيبه ملكاً لمدينة " تشي تشيت إتزا". في ذلك اليوم كان الأمير "كانيك "القوي القلب ،قد رأى ساكنيكت.وفي تلك الليلة لم ينم الأمير الشجاع والقوي القلب ومنذ ذلك الوقت بدأ يشعر بالحزن طيلة أيامه.
كان عمر الأميرة ساكنيكت ثلاث مرات خمس سنوات عندما رأت الأمير "كانيك" ،وهي تجلس في عرش مدينة " إتزا" ، فخفق قلبها بالسعادة ، ولما حلّ الليل نامت وثغرها مشتعل بابتسامة مضيئة. وعندما استيقظت ساكنيكت عرفت أنّ حياتها وحياة الأمير "كانيك" قد أصبحتا مثل نهرين يجريان معا ليقبّلا البحر. وهذا ما حدث. وهكذا يغنّي أولئك الذين عرفوا ولم ينسوا ذلك التاريخ. في اليوم الذي تم فيه تنصيب الأمير "كانيك" ملكا للإتزيين سكان مدينة "اتزا", صعد إلى معبد مدينة"اتزمال" المقدسة ليقدم نفسه أمام الإله. اصطكت قدماه قدمي صياد عندما نزل المدرجات الستة والعشرون للمعبد و ارتخت ذراعاه ذراعى محارب , كل ذلك لأنه رأى الأميرة الوردة البيضاء. كانت الساحة الكبيرة للمعبد محتشدة بالناس ، الذين وصلوا من جميع أنحاء ماياب ليشاهدوا الأمير. وكل الذين كانوا قريبين منه لاحظوا ما حدث . لاحظوا ابتسامة الأميرة ،وشاهدوا الأمير يغلق عينيه ، ويشدّ على صدره بيديه الباردتين. كان هناك ملوك و أمراء المدن الأخرى, جميعهم شاهدوه لكنهم لم يعرفوا أنه اعتبارا من تلك اللحظة بدأت الحياة الجديدة للملك ، و الحياة الجديدة للأميرة بدأتا تركضان مثل نهرين معا ليكملا إرادة القدر في الأعالي. وهذا ما لم يفهموه لأنه كان من الضروري العلم أن والد الأميرة ساكنيكت الملك الجبار لأرض "ماياب" كان قد منحها إلى الفتى "أوليل" . الأمير الذي يرث مملكة أوكسمال. كانوا هناك جميعهم ملوكا وأمراء, والأميرة "الوردة البيضاء" اختارت الأمير "الأفعى السوداء" لتجعل حياتها تركض معه ، كما يركض نهران معا إلى البحر.
انتهى اليوم الذي تنصب الأمير "كانيك" فيه ملكا على "تشي تشين إتزا". وبدأ العدّ للأيام السبعة والثلاثين المتبقية لزواج الأمير" أوليل" من الأميرة " ساكنيكت". جاء مبعوثون ورسل من مدينة" مايافان" إلى ملك "إتزا " الشاب وقالوا له: " ملكنا، ادع الصديق والحليف إلى حفل زواج ابنتك " . فأجاب الملك كانيك بعينين تشتعلان: " قولوا لسيدكم إنني سأحضر ". و جاء مبعوثون ورسل من مدينة " أوكسمال " إلى الملك "كانيك" وقالوا له: " أميرنا "أوليل" يطلب من ملك الإتزانيين المعظم أن يأتي للجلوس إلى "قداس" زواجه من الأميرة ساكنيكت " . فأجاب الملك كانيك و كانت جبهته مليئة بالعرق ويداه مشدودتان: " قولوا لسيدكم إنه سيراني في ذلك اليوم ". وفيما كان ملك الإيتزانيين وحيدا ينظر إلى النجوم في الماء ليسألها، جاءه سفير عند منتصف الليل. جاءه قزم غامق وشائخ وقال على مسمعه: " الوردة البيضاء تنتظرك بين الأوراق الخضراء، هل ستدع رجلا أخر ليذهب ويقطفها "؟ واختفى القزم مع الهواء أو تحت الأرض ، لم يكن قد رآه أحد سوى الملك, ولم يعلم بذلك أحد. في أوكسمال العظيمة كانت تجري التحضيرات لزفاف الأميرة "الوردة البيضاء" والأمير"أوليل". ومن مدينة "مايافان" خرجت الأميرة رفقة والدها والسادة العظماء في موكب مهيب ،ملأ الطريق بالغناء. وإلى أبعد من بوابة مدينة "أوكسمال" خرج الأمير "أوليل" يرافقه العديد من النبلاء والمحاربين لاستقبال الأميرة، لكنه، عندما شاهدها كانت تبكي.
كانت المدينة بأسرها مزينة بالرايات وبريش الديك البري وبالفضة وبأقواس ألوان برّاقة وكان الجميع يرقصون ، سعيدين وهم لا يدرون ماذا سيحدث. أقيمت الاحتفالات الكبيرة طيلة أيام ثلاث ،أقيمت للمدعوين في مدينة "أوكسمال" و كانت المدينة تهتز بالسعادة، فلا أحد كان يدري ماذا سيجري , وفي اليوم الثالث من الاحتفالات والقمر كان بدرا مدورا كالشمس ، كان ذلك هو اليوم الطيب لزفاف الأمير حسب طالع السماء. لقد وصل إلى أوكسمال ملوك وأبناء ملوك ،من كل الممالك القريبة والبعيدة ، و جلبوا جميعهم الهدايا للعروسين الجديدين. جاء بعضهم بخراف بيضاء, لها قرون لولبية من ذهب. آخرون جاءوا بأقحاف سلاحف ضخمة معبأة بريش كيتزال البرّاق.جاء محاربون بزيوت الطيب وعقود من الذهب والياقوت. كما جاء موسيقيون بطيور مدربة على الشدو كموسيقى السماء. ومن كل الأماكن جاء سفراء مع هدايا ثمينة ما عدا الملك كانيك ملك "تشي تشين إتزا". لقد انتظروه حتى اليوم الثالث لكنه لم يصل ولم يرسل أي مبعوث له. كان الاستغراب والقلق يسيطران على الجميع. لأنهم لم يعرفوا السبب . لكن قلب الأميرة كان يعلم وينتظر. لقد انتهى اليوم الثالث للاحتفالات وتم تحضير المذبح المخصص للقرابين، لكن، سيد الإتزانيين الأعظم لم يصل. لهذا كفّ الذين لا يعرفون السبب عن انتظاره وقالوا: " في حفل زفاف الأميرة ساكنيكت من الأمير أوليل تم انتظار سيّد تشي تشين ثلاثة أيام متتالية لكنه لم يصل ". كانت الأميرة ساكنيكت تقف قبالة المذبح وهي ترتدي الألوان الصافية والمزدانة بالورود, بينما يقترب الرجل الذي ستقدم نفسها له كزوجة . وردة ماياب تنتظر تتخيل الطرقات التي سيأتي منها الملك الذي وهبته قلبها.
تنتظر وردة ماياب البيضاء بينما كانيك الملك الشاب الحزين والصياد القوي يبحث يائسا في الظلال عن الطريق الذي سيسلكه ، ليكمل مشيئة السماء. ففي حفل زفاف الأميرة ساكنيكت من الأمير أوليل تم انتظار سيد تشي تشين ثلاثة أيام متتالية لكنه لم يصل. لكن، الملك كانيك وصل في الساعة التي كان عليه أن يصل فيها. قفز فورا وسط ساحة أوكسمال يرافقه ستون من رجاله المحاربين المهمين، وصعد إلى المذبح حيث كانت النار تتوهج والكهنة ينشدون. لقد وصل بلباس الحروب وعلى صدره شارة إتزا ،وبدأوا يصرخون: إتزالانا! إتزالانا ! كما يفعلون في ميادين الحروب. لم ينهض أحد ضدهم. حدث كل هذا في لحظة ، دخل الملك كانيك كالريح الحارقة, وأخذ الأميرة بين ذراعيه على مرأى من الجميع. لم يقو أحد على منعه, وعندما أرادوا النظر إليه ،عندها، كان قد اختفى. وأمام المذبح بقي الأمير أوليل مع الكهنة فقط. لقد ضاعت الأميرة أمام عينيه يحملها الملك الذي مرّ مثل البرق.وهكذا انتهت احتفالات الزفاف وفجأة قُرعت القواقع ، ودُقت الصنوج، وانطلقت صرخة غضب أوليل في الشوارع لتجمع رجاله المحاربين. كان الأمير كانيك قد ذهب من مدينته تشي تشين إلى أوكسمال العظيمة، دون أن يراه أحد, لقد ذهب عبر الطرقات المظلمة ، حيث يوجد ممرات بين الحجارة, تحت التربة، في أرض الماياس المقدسة. هذه الطرقات لم يكن يعرفها أحد سوى أولئك الذين كان عليهم أن يعرفوها. وهكذا وصل الأمير كانيك دون أن يراه أحد ليسرق اليمامة العشيقة الحلوة جدا على أشعة قمر قلبه.
لكن نصال الأسلحة تُسنّ ثانية في ماياب ، وتُرفع رايات الحروب, ويتوحد الأوكسماليين والمايابيل ضد الإتزيين. آه من الانتقام !! سوف يسقط على رأس تشي تشين, وهي لم تنم إلا القليل وقد هدّها التعب وألعاب الأفراح. أخذت الطرقات تمتلئ بغبار المسير والهواء بالصرخات وتقرع القواقع وتضرب صنوج الحرب!! ماذا سيحل بك يا مدينة تشي تشين المتعبة والنائمة من سعادة أميرك ؟ كيف غادر الإيتزانييون بيوتهم ومعابدهم في "تشي تشين" وتركوا مدينتهم الجميلة مضطجعة على ضفاف المياه الزرقاء؟ جميعهم كانوا يمضون في الليل ، وهم يبكون على أنوار حملة المشاعل. كلهم مضوا على شكل أرتال ، لينفّذوا تعاليم الآلهة وحياة الملك ، والأميرة نور ومجد ماياب. أمام أبناء إيتزا كان الملك كانيك يمضي بين حملة المشاعل وسط الجبال , كان ملتفا برداء أبيض وبلا تاج من ريش على جبهته. إلى جانبه كانت الأميرة ساكنيكت ، وكانت ترفع يدها وتشير إلى الطريق والجميع يسيرون في الخلف. وأخيرا وصلوا إلى مكان هادى وأخضر, إلى جانب بحيرة ساكنة, بعيدا عن جميع المدن. هناك وضعوا سدة المملكة وبنوا البيوت البسيطة في سلام.وهكذا نجا الإيتزانييون بفضل حب الأميرة ساكنيكت ،التي كانت قد دخلت إلى قلب الأمير الأخير لتشي تشين ، لينقذها من العقاب ، ولكي يصنعوا حياتهما الصافية والبيضاء.
وحيدة وصامتة بقيت تشي تشين وسط الغابة بلا عصافير ، لأنها طارت جميعها خلف الأميرة ساكنيكت. وصل إليها أعداد كبيرة من جيوش أوكسمال ومايابان لكنهم لم يعثروا فيها على شيء ، ولا على الأصداء في القصور أو في المعابد الفارغة. عندها، أشعل حنقهم النيران في المدينة الرائعة ، وبقيت تشي تشين وحيدة وميتة مهجورة إلى جانب المياه الزرقاء. بقيت وحيدة وميتة يعطّر أنقاضها عبير ناعم يشبه البسمة والضوء الأبيض للقمر. ففي كل ربيع تنبت الوردة البيضاء في ماياب ، تزيّن الأشجار وتملأ الهواء بأنفاسها الطيبة. وابن أرض المايا ينتظرها ليحيّيها بكل حنان قلبه، وعندها يتم ذكر اسم الأميرة ساكنيكت.
طائر الفوهوي *
الرجل الذي يمشي أو يكمن ليلا في طرقات أرض الهنود الحمر/ المايا. يمكنه أن ينتظر سماع صرخة تقول :" فواهو" ، صرخة قوية تخرج من الصمت . وسرعان ما يسمعها إلى جانبه: فواهو ! فواهو! تنطلق الصرخة في الليل مثل سهم من قوس نشّاب. تأتي من هناك من الطريق الأمامي التي على العابر أن يمرّ بها. وفيما بعد يُسمع طيران يخمد بعيدا في الدرب ، وعندما يقترب الرجل ، يعاود الصمت إطلاق الصرخة الحادة: فواهو! فواهو! هكذا، يمضي المسافر تخرج له الصرخة مع كل خطوة ، و يجفل ، وتتكرر الجفلات نفسها وربما حتى الشفق . ترى من يكون هذا المرافق الخفي للرجل؟ هذا الذي يمضي ويكمن ليلا في دروب أرض المايا؟ ولماذا يعتقد أن الرجل قريب ليقبض عليه بصرخته ؟ ومرة ثانية يبتعد ، ويعود ويحطّ في الطريق ثانية لينتظر ، ولا ييئس؟ لا أحد يمكنه توضيح ذلك إذا لم يكن أحد الهنود الصامتين والعارفين بأسرار الألغاز و التاريخ وروح الأشجار والأحجار وكل شيء من السماء حتى الأرض في المايا. إنها حكاية فوهوي العصفور البريىء وفاقد الثقة الذي يخرج في الطرقات ، ليبحث عن أحد ما ، يخبره شيئا عن ذاك الذي منذ سنوات عدة سخر من نيته الطيبة وخدعه بلا شفقة. والمسكين فوهوي لا يفقد الأمل بالعثور على ذلك الخدّاع. وعن ذلك يقول الهنود الحمر في المايا:
أراد الرب الأعظم إيقاف العداوة والخصومة بين الطيور ، فحاول أن يضع لها ملكا يحكمها بسلام،أعلن الرب الأعظم اقتراحه لكل الطيور ، ودعاها جيمعا كي تختار في يوم محدد الطير صاحب الحسنات الأكثر بينها. فاحتشدت الطيور جميعها ، وبدأت تفكر بإظهار صفاتها الحميدة ، وكل منها يكاد يكون متأكدا انه سيكون هو الملك. قال البلبل جازما وهو الطير صاحب التغريد الأكثر حلاوة : " يجب اختيار الطير صاحب الشدو الأجمل ". وبكل الثقة والمباهاة جرّب موسيقاه بعد أن حطّ على أعلى أغصان الغابة. فكّرت البومة في داخلها ، :" بالتأكيد فإن الرب الأعظم سيختار الطير الذي ينظر ، ولكن أي من الطيور لا تمتلك النظر مثلي"! وثبتت عينيها الدائريتين في الليل ،وبدأت تتخيل الملوك. قال الطاووس: " بالتأكيد سيتم اختيار الأكثر قوة ، وسأكون أنا المسمى لأصدر الأوامر بين المحتشدين الكثيرين". وهزّ جناحيه العريضتين ، وكذلك الغصن السميك الذي كان يقف عليه. قال النسر : " بالتأكيد من أجل حكم جيد يجب رؤية العالم من مكان مرتفع ". وانطلق النسر في الهواء بطيران عال جدا عبر الغيوم. قال الديك المكسيكي : " بالتأكيد فإن الملك سيكون من يصرخ بقوة أكبر فيجب إعطاء الأوامر بالشكل الذي يجعل الجميع يسمع وأنا !أنا ! الديك المكسيكي أنا قادر على ذلك فإذا صحت، فإني أسْمِعُ حتى القمر". أمّا طائر الكاردينال** فقد قال : "بالتأكيد سأكون أنا الملك , فمن الملوكية أن تُلبس فروة من الأرجوان القرمزية فكأن ريشاتي شعلة متقدة ". وهكذا شعر كل واحد من الطيور بالاطمئنان من فوزه. كان الطاووس قد سمع ما قاله الآخرون من الطيور ، عندئذ كان للطاووس ريشات متسخة وشعثة وكئيبة. لم يكن قادرا على التفكير في إمكانية اختياره ، لأن بدنه كان ضخما ، وزيـّه كان بشعا وبائسا ، لم يكن كالطاووس الذي نعرفه اليوم. بدأ الطاووس يفكر دون أن يفقد الأمل ، وجاء ليتفق مع صديقه الفواهوي الذي كان له ريش رائع. فقال الطاووس له: " يا صديقي تعال أحادثك بشيء يهمنا جدا نحن الاثنين: الرب الأعظم سيفكر بالتأكيد في تسمية الطير الأكثر جمالا والأكثر هيبة ملكا على الطيور،فأنت لك ريش وفير جدا، لكنك صغير ، وتنقصك العجرفة أمّا أنا فعلى العكس لدي بدن له حضور كبير وريشات أكثر وفرة . لكنني لا أقدر أن أعطيك بدني أما أنت فيمكنك إعارتي ريشاتك. كان الفواهوي يستمع إلى صديقه ، فقال الطاووس له: "اسمع تعال ، نعقد صفقة, أنت تعيرني الريش إلى أن يتم اختياري من قبل الرب الأعظم ، وعندما أصبح ملكا أردّ الريشات لك ، وأكثر من ذلك سأتقاسم معك كل خيرات و تشريفات منصبي ". فكر العصفور فواهوي في ذلك للحظة ، لكن الطاووس عاد يغريه بالوعود ، والعصفور الطيب والواثق لم يقو على الرفض. وهكذا بدأ الفواهوي بخلع ريشه ، وبوضعها لصديقه فيما الطاووس يثبتها جيدا حسب مقاسه. وبدأت تنمو وتنمو حتى صارت غطاءاً بديعا بذيلٍ رائعٍ تخرج منه ألوان الفضة والذهب.
: "أيها الصديق فواهوي ، سوف ترى الخيرات التي سنتقاسمها معا " . قال ذلك الطاووس وهو يختال بالجمال والبهرجة. وبقي المسكين فواهوي منزوع الريش تقريبا ويرتجف من البرد. ولما رأى طيوراً أخرى تأتي في الطريق تقترب منه أحس بالخجل واختبأ بين الأعشاب كي لا يرونه. حلّ يوم الموعد أمام الرب الأعظم ، وحضرت جميع الطيور واثقة متأكدة ، لكنها عندما شاهدت الطاووس بحلّته الجديدة المذهلة فلقد بقيت مناقيرها مفتوحة من العجب والدهشة. فاختار الرب الأعظم الطاووس ملكا وسيدا للطيور. ومضى الطاووس بعجرفته و بنكرانه للجميل بعد تلك اللحظة التي حقق فيها مبتغاه فلم يعد يتذكر فواهوي الطيب ، الذي ساعده وضحّى من أجله. وفي يوم من الأيام عثرت الطيور على فواهوي المسكين مختبئا بين الأعشاب الطويلة ، فاستغربت لنحافته وحزنت لذلك ، عندها أعطاه كل واحد منهم ريشة من ريشاته،لهذا السبب للفوهويو ريش قليل ، ولهذا السبب و منذ ذلك الوقت يمضي خجولا لأنه فقد ريشه. ولهذا السبب وكي لا يرونه بهذه الحالة فإنه لا يخرج إلاّ في الليل, يخرج ليبحث عن الصديق النذل الذي خدعه !!ولأن الفواهوي طيب للغاية ، فإنه يظن أن الطاووس سيفي بوعده يوما ما. الفوهوي الطيب لا يفقد الأمل أبدا ، ويخرج إلى الطرقات وعندما يرى الإنسان ، فإنه يقترب منه ويصرخ به :فواه!! فواه!! مرة وثانية يسأله إن كان قد شاهد الطاووس. الرب الأعظم لا يترك الأفعال السيئة دون عقاب, لهذا لم يعد الطاووس يشدو كما كان يفعل سابقا بصوت عذب. فلقد علم الرب بالفعلة الشائنة التي فعلها فأمر أن لا يشدو الطاووس أبدا. ومنذ ذلك الحين وفي كلّ مرة يحاول الطاووس فيها أن يطلق صوته للريح ، فإنه لا يجد سوى الزعيق والكركرة التي تجعل الطيور الأخرى تسخر منه.
* طائر صغير جاء اسمه من طبيعة الصوت الذي يطلقه (المترجم) ** طائر الكاردينال طائر أمريكي لون ريشه رمادي له خصلة شعر سوداء حول المنقار وغرة مرتفعة ( المترجم ) أمريكا الجنوبية
في بلاد غووايانا تتكثف الغابات ، وتقل وحيدة وبعيدة عن العالم كأن أدغالها الرطبة شبك محكم حيث الأنهار العريضة تجري ، تلفها ظلال الغابة. والجبال العملاقة والقمم الشاهقة كأنها تنهض من السهول الخضراء الشاسعة وفي المنحدر تكون الأرض دافئة ورطبة ، لكثرة الخضراوات وما تنضح من رذاذ بعض الأنهار ، تفرّ من الشبك الأخضر المحكم وتخرج إلى النور طويلة وعريضة وتقفز من القمم العالية والشاهقة. في داخل الغابة توجد أماكن خلابة ، يروي زائروها الكثير عن تلك الأنهار ، وعن الشلالات وعن الغابة المسكونة بالببغاوات وبأفاعي الكوبرا وبآلاف أصناف الطيور والحيات والنمور وحيوان التابير* والخرفان والقرود الرمادية اللون** ويروون عن قبائل الهنود التي تعيش حياة بائسة وسط الأدغال الهادئة والبعيدة والمنعزلة ، يروون الكثير عن تلك الحياة البدائية القاسية ويروون حكايات حزينة وجميلة حكايات كهذه التي تتحدث عن سلسلة جبال ايوان في أراضى قبائل الكاريبي.
بالنسبة للهنود الأركوانوس فان جبل "إيوان تيفوا" يعتبر جبلا مقدسا ، حيث تعيش الآلهة فيه وهي ترعى صحة البشر فكأن سلسلة الجبال قد نهضت من الأرض ، وحطمت السور العظيم للغابة ، وصعدت من الأدغال الخضراء وفجأة انطلقت منها صخرة عارية بخط مستقيم شكّلت لاحقا سورا هائلا ، تبرز جوانبه المهشمة والحادة باتجاه السماء . في أوقات المطر تختفي قمة ايوان بين الغيوم ، وتنفلت الشلالات من القمم ، تقفز ، تصطدم ، تتحطم بين الصخور وترشح في الهاوية بينما الجبل العملاق تحيطه أصوات عالية هي إضاءات الغيوم ، وعندما تنير الشمس ذروة جبل "ايوان" فإنه يبدو جليلا ومثيرا للدهشة !! هناك في الأعلى تنقسم من الصخور قمم متباعدة منشطرة في أشكال هندسية ، كأنها فصّلت على مقاسات خيالية ، وكأن الايادي الخفية للآلهة امتدت لتضع على قمة الجبل العملاق سورا من الأحجار ، وكأنها بقايا كائنات حية وأشياء غريبة جدا. فمن يقدر على الصعود إلى هناك حيث الإنسان يعجز عن التسلق ، ومن المستحيل عليه الوصول إلى هناك؟ ومن هو الذي وضع هناك الأكوام العشوائية لتلك الأعمدة المقطوعة في الساحات المهدمة ؟ ووضع بقايا تماثيل؟ و سقوف أكواخ؟ ووحوشاً في حالة ترقب؟ ونسوراً بأجنحة مفتوحة؟؟ لكن ، لم تكن هذه حالة قمم ايوان دائما وعند الهنود الارواكانوس الشرح والتوضيح عن الأيوان جبلهم المقدس ،و الذي يقولون عنه التالي:
* حيوان التايبير من الثديات يشبه الخنزير البري لكن ساقاه أطول وأنفه متطاول على شكل بوق له شعر قصير يغطي جسمه وذيل يكاد لا يرى يعيش في مناطق مدارية في أسيا وأمريكا اللاتينية وهناك من يأكل لحمه(المترجم )
** من الثديات اللاحمة، سريع، يشبه الفهد ،لكن، جلده أصفر محمر ببقع سوداء، يعيش في غابات أمريكا قريبا من الأنهار(المترجم )
جبل أيوان
عند ضفة نهر "الكاراو El Carao” الذي يجري قريبا من خاصرة جبل الأيوان كانت هناك مدينة في الزمان الغابر ، اسمها "تي كوفاي Tey Cupay" وكانت الأكثر غناء وازدهارا بين جميع المدن يتوافد الناس إليها من القبائل النائية بكثرة ، ليروا الجبل الذي تسكنه الآلهة الذين يعيدون الصحة والسلامة المفقودة . ومن بين الأكواخ العديدة لمدينة تيي تظهر قمم الإيوان بوضوح. عندما كانت الصاعقة تطلق الرعد ليدوّي ثم ينتهي متبخرا في الوديان العميقة للجبال ،كان الهنود يبعدون النظر خائفين من غضب الآلهة الطيبين ،يخشون أن تحل عليهم الويلات ، لأن الألم والمرض يقهران البشر دائما . لهذا كانت نظرات الجميع تتجه متوسلة نحو قمم الجبلة ، كي تنحدر العطايا منها كمواساة حلوة وتهدئة طيبة. منذ سنوات كثيرة جدا وفي ظهيرة ربيعية دافئة وصافية، وصلت عدة قوارب إلى الميناء الصغير للنهر، قوارب من قبائل اخرى بعيدة ،جاءت تحمل رجالا ونساء مرضى، ومعهم رجال كثيرون ليساعدوهم في الوصول إلى جبل الأيوان المقدس. خرج الناس في مدينة "تي كوفي" لاستقبالهم وليقدموا لهم أغطية لأكواخهم وفي قلب الهنود الاريكوناس Arecunas كانت السعادة تقفز من رؤيتهم للعدد الكبير جدا من القبائل المتعددة.
في اليوم التالي نظموا الحفلات على شرف المسافرين، احضر الرجال من الغابات كميات كبيرة من لحم الماشية والأسماك ،جمعوها وقدموها مشوية مع فطائر الذرة والأناناس والموز في مركز البلد وسط الاكواخ الكبيرة .وحولها كانت أواني عريضة مليئة بشراب الكاتشيري*Cachiri الخمر الذي يجعلهم ينتشون ويمرحون. اجتمع كل الهنود ، وخيمت عليهم السعادة ، فالمزامير والطنابير أعطت موسيقاها الإذن لبدء الرقص. وبدأت تسمع الأغاني وحفيف أوراق الأشجار اليابسة من سعف النخيل الذي كان يضعه الراقصون عليهم .وهكذا تواصلت ساعات وساعات من الغناء والرقص ، كان يقطعها فقط ذهاب الرجال والنساء إلى الأواني ، ليشربوا رشفات كبيرة من شراب الحفلة, لكن هناك في الجانب الأخر بقي المرضى وحيدين مع آلامهم متروكين في أكواخ خوص صغيرة ،ومن جميعها كانت تنطلق نفس الحسرات ونفس التوسلات في طلب المساعدة : تعالوا تعالوا أيها الاخوة ...خذونا إلى جبل المعجزات ايوان!! لكن لا أحد كان يسمع التوسلات أو يتذكر الآلام فالحفلة تستمر بالغناء ، وبالصرخات والجرار يعاد ملؤها بالشراب ، وعندما اختبأت الشمس خلف قمم ايوان استمرت الرقصات ، ومن تأثير شراب الكاتشيري كانت صرخات الفرح تنطلق ، وهيجانات الحفلة ترتفع وتمتزج بأنين المنسيين والمهملين . وبسرعة اغمقت الشمس ، وقمة الأيوان اختفت خلف غيوم كبيرة و رصاصية اللون ، وفجاة شق السماء برق كبير ، ورعد بعيد صار يقترب حتى جعل الأرض تهتز. جاءت عاصفة محمولة على رياح هائجة ، وتوقفت تهدد فوق مدينة "كوفاي" وبدأت العاصفة تجول في المدينة يرافقها هدير الرعد ،وغيوم تحولت إلى شلالات . كبرت العاصفة وجعلت الأكواخ تهتز و تنتفض !! وكذلك الأحجار!! وازدادت الرياح بصفيرها ، وخرج الهنود مذعورين إلى الساحات فالأشجار الغليظة قد اقتلعت من جذورها ، والقي بها بعيدا ،وبعضها كان يتدحرج ويقفز. فرت الحيوانات هائجة من الغابة ، دفعتها غريزتها نحو السفوح والمروج ، لتختبئ في المكان الذي يحيا فيه الإنسان . حيوان الجغوار والمواشي وحيوانات البفري الشاحمة عبرت وأعادت الركض في المرج تزمجر من الهلع .. حيوانات التبري وحيوانات الباكه** كانت تبحث عن مخبأ في مياه النهر . والطيور الكبيرة كانت تجاهد بأجنحتها المضروبة ضد الإعصار. قعقعة الصاعقة ودويها وصرخات الناس وعواء الوحوش كانت تختلط جميعها في صخب واحد ووحيد ، لقد اهتز وادي "تاي كوفاي" ،والإعصار اقتلع الأشجار ، وطارت الأكواخ والخوص في الهواء. ومثل الريش كانت تعلو الناس والدواب، وتدور في الهواء السقوف المصنوعة من سعف النخيل ، وكذلك الطيور الكبيرة التي تكسرت أجنحتها ، لكن جبل الأيوان فقط بقي ثابتا ومحافظا على مكانته وشموخه.
فلقد حاول الإعصار أن يلفه في حلقات زوابعه ، لكن قوة الإعصار خارت وتفتت ، لكنها رفعت حتى الذروة إلى هناك بين الغيوم ، وجمعت كل ما تم اقتلاعه وتخريبه في السهل . في اليوم التالي أشرقت الشمس ، وقمة ايوان التي كانت من قبل نظيفة بدت مغطاة بمزركشات نادرة وغريبة مقلوبة ، فكان هناك سقوف الأكواخ والخوص ،أشجار مقطعة، جثامين هنود مقطوعة ، أنصاف نساء جميلات ،بلاعيم وزلاقيم وحوش وطيور مفتوحة و مخالب متشنجة في الصخور، صقور بأجنحة مفتوحة للقفز إلى الجرف. لقد جمّع الإيوان المقدس في قمته كل تلك الأنقاض ، وهناك بقيت مخزونة ومحفوظة بين الأحجار كتذكار لمدينة تي كوفاي وغضب الآلهة.
* Cachiri مشروب شائع في فنزويلا ( المترجم )
** حيوان الباكة ثدي قارض جنوب أمريكي يؤكل لحمه ( المترجم )
ضع تعليقك ://///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////// |
| |
New Life الخميس 2 يونيو 2011 - 1:04 | | حكايـات وأساطير عالمية . عذراوات الشمس
هناك في أعلى هضاب الأنديس المحاطة بقمم ثلجية توجد وديان خصبة و فاترة المناخ وهي المكان الذي أقام هنود "الكيتشواس" عليه احدى الحضارات الأكثر غناء وإثارة للفضول في أمريكا القديمة هي حضارة الاينكا*. هناك في أراضى البيرو وبوليفيا توجد بحيرة "تيتكاكا /Titicaca" ، البحيرة الكبيرة على ارتفاع اكثر من 4 آلاف متر فوق سطح البحر ، وبقربها توجد آثار وبقايا مدن طاعنة في القدم ، عمرها آلاف السنين ، كما توجد آثار قلاع وحصون وهياكل ومعابد تثير الإعجاب . هناك في البحيرة يوجد المكان الذي تتحدث عنه الأسطورة عن الأب رب الشمس ، الذي أرسل اثنين من أبنائه : رجل وامرأة ليقيما أول إمبراطورية الإنكا . فلقد أرسل أبناءه ليعملوا ويحكموا الهنود الـ "كيتشوواس " في ذلك الوادي. وكانوا هم الذين بنوا مدينة الـ"الكوزكو" العاصمة والتي منها، وخلال قرون، امتد نطاق الإمبراطورية ، وتوسع في حكومة جبارة لإمبراطورية الاينكا . لقد أرسل الرب أبناءه ، ليصنعوا الخير للإنسان ،ولكي يحيا بالعمل والنظام والسلام حسب مشيئة الرب الشمس الإله الطيب الذي لم يفرض تقديم القرابين البشرية ، بل أراد أن يرى الناس سعداء.
و"الاينكا" أ كثر قدما من "الكيتشواس" الذين طوّروا ثقافتهم في هضبة بوليفيا و البيرو، وكذلك في منطقة "تيتيكاكا" حيث لا تزال سلالة ذاك الشعب العريق تعيش هناك. كان في مدينة كوزكو عاصمة الإمبراطورية قصور اً ضخمة ورائعة بمثابة معابد تعيش فيها أجمل العذراوات اللواتي يكرسن حياتهن لعبادة الشمس. عاشت العذراوات المقدسات من غير أن يرين أحداً أو يتحدثن مع أي شخص ما عدا الملكة زوجة الاينكا فقط التي يمكنها أن تزورهن .فلقد كانت عقوبة الموت تنتظر كل من يجرؤ على حب احدى تلك النساء ، و من أجل أن لا يقدر أحد على الدخول إلى مكان سكناها فلقد تم إحاطة المكان بحصون عالية وحراس أوفياء يحيطون الأديرة حيث كانت عذراوات الشمس .
* الهنود الحمر /الاينكاقبائل الكيتشواس و أيما راس
الراعي وعذراوات الشمس
على خاصرة خضراء للجبل الذي تغطيه الثلوج كان يخبئ الماشية البيضاء ، لتقديمها كأضحيات وقرابين كان شعب الـ"اينكا" يقدمها إلى إله الشمس.. كان الراعي الشاب يدعى "اكويا نافا" لطيفا وله مظهر لائق وحسن ، يمضي خلف ماشيته ، وعندما كان يجلس والقطيع يرعى كان سعيداً ، يخرج الناي الذي كان يرافقه دائما ، ويبدأ بعزف موسيقى هادئة وحلوة تجعله يزداد سعادة . وفي يوم كان فيه منشرحا جدا ،وهو يعزف ، جاءته اثنتان من بنات الشمس اللاتي كن يعشن في أحد قصور المدينة المجاورة , اذ كان قد سمح لهما بالخروج في النهار كي تتسليان في الحقل ، لكن لم يكن مسموحا لهما الغياب في الليل عن مسكنهما المحروس جيدا من قبل حراس صارمين .. وصلت العذراواتان إلى الراعي وسألتاه عن الرعي وعن قطيع أغنامه ، فبقي "كويا نافا" مذعورا ً، ثم أراد أن يطلق ساقيه للهرب ، فهما إضافة إلى انهما مقدستان وابنتان للشمس فهما فائقتا الجمال ، لكنهما طلبتا منه ألاّ يخاف ، وعاودتا السؤال عن أغنامه ، ثم آخذتاه من ذراعه لينهض . وقف الراعي أخيراً و قبّل يد كل واحدة منهما، وهو مندهش من روعتهما. العذراء الكبيرة فيهما واسمها "تشوكي ييانتو" انجذبت للكلام مع "اكويا نافا" بعد أن بانت خفة دمه وبعد لحظات ودعتاه. بدأت "تشوكيبيانتو" تتحدث مع أختها عن لطافة وبهجة ذلك الراعي ، واستمرتا بذلك طوال الطريق حتى وصلتا إلى قصرهما حيث رآهما حراس البوابة ، وفتشوهما إذ انهم يقولون في تلك الأيام إنهم وجدوا إحداهن وقد خبّأت رجلا حبيبا على قلبها وجعلته يمر مخفيا بين الملابس !!
دخلت العذراواتان إلى قصر بنات الشمس وزوجاتها _ الشمس _ اللواتي كن ينتظرن أطيب الأكلات المطبوخة في قدور من الذهب الناعم، لكن تشوكي ذهبت مباشرة إلى مخدعها ليكون بمقدورها التفكير منفردة بالراعي ، الذي بدأ قلبها يخفق بالحب تجاهه . وفي تلك الأثناء كان "اكويا نافا" قد دخل إلى خصّه ليفكر منفردا في المفاجأة العظيمة لتشوكو الرائعة ، لكنه بدأ يشعر بحزن شديد ، فأخذ الناي وعزف ألحانا شديدة الحزن ، جعلت حتى الحجارة تشفق عليه ، ثم غنّى وهو يبكي: " آه ! آخ! منك ! آيها الراعي البائس ! أيها العاجز عن كل شيء .. أه! منك! لا تقدر على رؤية حبيبة قلبك ، ولو رأيتها فإن حبك سينفضح ، وسيقضى عليك وعلى حبك ، وسينتهي الحب بالموت" ..واستمر يغنى بحزن كبير جدا حتى غفى. لكن أمه العجوز البعيدة عنه فلقد حدست بسبب عذاب ابنها ، وراحت تهيء نفسها للسفر إليه ، فحملت معها سلة مزركشة وفاخرة ، وبدأت تمشي في الجبال حتى وصلت إلى الزريبة التي يسكن فيها ابنها. ثارت عواطف الراعي عندما شاهد أمه ، وأخذت هي تواسيه وتقول له إن أحزانه ستزول خلال بضعة أيام ، ومن أجل ذلك ذهبت تحضّر له طبخة السلاحف ، الأكلة الموصوفة للحزن عند الهنود ،وبينما هي تطبخ رأت بنات الشمس قادمات باتجاه الزريبة ، ثم جلست الاثنتان عند المدخل ترتاحان من التعب وعندما شاهدتا المرأة العجوز في الداخل طلبتا منها شيئا للأكل فقدمت لهما صحنا من السلاحف ، أكلتاه بشهية كبيرة.
بدأت تشوكو تنظر حوالي الزريبة وإلى داخلها برغبة كبيرة علّها تعثر على"اكويا نافا" ، لكنها لم تجده لأنه في لحظة وصولهما أمرته أمه أن يدخل في السلة التي أحضرتها معها ، ( يقول الهنود إن ذلك كان ممكنا في تلك الأزمان). ظنت تشوكو أن حبيبها الراعي يحرس القطيع ، لهذا لم تسأل أمه عنه وعندما رأت السلة قالت:" ما أجملها "!! وسألت : لمن هذه السلة؟فأجابتها العجوز : إنها لها وقد تركها لها والداها كميراث ، فهي سلة فاخرة جداً ،وأضافت العجوز إنها تقدمها وبنفس طيبة كهدية لها ، وبإمكانها أخذها معها إلى القصر . وبعد قليل ودعت بنات الشمس أمّ الراعي ، واتجهن نحو المرج تحمل تشوكي السلة بيدها وفي عينيها شوق لرؤية راعيها هنا أو هناك فهي لم تره في زريبته. وصلتا إلى القصر، وعند المدخل فتشهما حراس البوابة ولم يجدوا شيئا معهما عدا السلة التي لم يكن يخفيانها . وبعد العشاء أخذت تشوكي سلّتها الجديدة وذهبت إلى مخدعها ، وهناك بدأت تبكي ، وتتذكر الراعي الذي أحبه قلبها ، لكنه لم يدعها تذرف الكثير من الدموع عندما أخذ "اكويا نافا" يناديها باسمها ، فارتعبت وهلعت ، لكنها صارت تذرف دموع الفرح عندما رأت حبيبها الراعي ، وراحت تسأله كيف دخل إلى هناك؟ فأجابها بالحقيقة عن دخوله في السلة التي جاءت تحملها. عانقته تشوكو و وضع "اكويا نافا" رأسه على رجل تشوكي ، التي راحت تمسّد له شعره بلطف وحنان ، وتنظر إليه بعينيها الرائعتين الساحرتين حتى مطلع الفجر ، عندها دخل الراعي مرة ثانية إلى السلة ، وحبيبته ابنة الشمس تنظر إلى تلك المعجزة .
وبعدما خرجت الشمس وقبّلت الأراضي كلها ، خرجت تشوكو من القصر إلى المروج وحيدة ، تحمل السلة، وفي أحد الكهوف في الجبال جلست مع حبيبها مرة ثانية، لكن حدث أن رآهما أحد حراس القصر الذي كان يتبعها ، وشاهد كل شيء فبدأ يطلق الصيحات ، يستدعي الحراس الآخرين فهرب الراعي وحبيبته إلى الجبال القريبة من مدينة "كالكا" ، ومن شدة التعب نام الحبيبان وعندما استيقظا كانا مرعوبين من الموت المحتم الذي ينتظرهما كعقاب ، فنهض الاثنان يرتعدان خوفا. أخذت هي في يدها فردة من صندلها ، ونظرا إلى الناس في "كالوكا" وصارا يشعران انهما يتجمدان في مكانهما ، ثم صارا كتلة صلبة كبيرة وضخمة لقد أخذا بالتحول إلى حجارة.. اليوم يمكن رؤيتهما من "كالكو" ومن مناطق أخرى , لقد صارا جبلين كأنهما تمثالان يذكران بالحبيبين الراعي وابنة الشمس .
Oyallanty أويانتي
من بعيد يأتي المحاربون منتصرين.كانوا قد حاربوا وسيطروا على أولئك المتمردين في المحافظات التي تشكل إمبراطورية الإينكا. يأتون من بعيد إلى " كوزكو" المدينة العظيمة ، ليهدوا انتصارهم إلى الإنكا ابن الشمس. وفي مقدمتهم يأتي "أويّانتي" بطل الأنديز، القائد المحارب القوي والشاب الطويل و المنتصر . في مدينة " كوزكو" تمّ تزيين القصر الإمبراطوري من أجل استقبال أويانتي المنتصر ، وفي العرش الذهبي ينتظر الإنكا محاطا بهدايا عظيمة إلى القائد المحارب. هناك والى جانب العرش كانت زوجة الإنكا والأميرة "كويّيور" ، ومع أن اسمها يعني"نجمة" فان عينيها كانتا حزينة وخافتة مثل الفوانيس عندما يشرق عليها نور الصباح . تقترب الحاشية ، وتقترب معها أصوات النايات المصنوعة من قصب السكر و من العظام، و كذلك تقترب أصوات الطبول الكبيرة ، وتسمع الجوقات وصرخات الشعب الذي يهتف للأبطال. وإلى صالة العرش يدخل الموسيقيون والمغنّون والمحاربون ، الذين ينقلون هدايا الذهب والأحجار الكريمة. يعلن المنادي إلى الربان الكبير ابن الأنديز ظهور أويانتي بثياب ملونة ، وهو عاري الذراعين والفخذين ، وفأسه في الخصر ، والخوذة مزركشة برأس النسر .
يصل أويانتي، ويتقدم وينحني أمام العرش ،يتكلم وصوته رصين: _:"سيدي يا ابن الشمس لقد انتصرت كما أردت أنت ، وهنا عند قدميك كما الشعوب التي هزمتها ، أضع الفأس التي أخذتها إلى المعركة، قل لي إن كنت استحق فضلك ؟ وإن كنت اقدر أن أقول لك رغباتي كما وعدتني، عندما خرجت إلى الحرب"؟. فنهض الإينكا واخذ أويانتي بين ذراعيه. ورفع أويانتي رأسه ونظر إلى الأميرة" كوييور" ، فبقيت عيناها ثابتة في عيني المحارب القوي كوعد حب صامت. قال الإنكا: =: " اطلب!! اطلب أيها الشجاع أويانتي ستجدني جاهزا لأكرّم النصر البطولي لأفضل رجالي المحاربين.. تكلم ولا تصمت.. فكل الخيرات تبدو لي أنها لا تكفي لتكريمك ". وبقي أويانتي صامتا ، تتجه نظراته ثانية لتتقاطع مع نظرات العيون الثابتة لكوييور اسم النجمة.. =:" تكلم اطلب يا أويانتي "..ألحّ الإنكا,:" قل ما تشاء". فتحدث أويانتي : _: "أيها السيد يا سيدي أريد نجمة ..لكن الإينكا لم يفهم ، وعبّر عن ذلك بنظراته إلى المحارب . -:" نعم أيها السيد العظيم أريد نجمة ، أريد كوييور ابنتك التي تهب الحب لقلبي" . فارتعد الإينكا ، واشتعلت عيناه كالجمر وبدأ فمه يرتعش قبل أن يتكلم :
=: " مستحيل هذا أبدا يا أويانتي ..فأنت بذلك تطلب تدمير الأعراف السماوية للإينكا ، ففي جسد الأميرة تجري الدماء المقدسة للشمس ، وكذلك دماء القمر ، ولا يمكن خلطها بدماء الإنسان. هذه هي قوانين الإينكا ابن الشمس التي تريد أن تنتهكها. كيف يمكن أن يتسع قلبك لهكذا رغبة مرعبة "؟ رفع أويانتي نظراته عالياً وقال: _: " أنا ابن الأرض الأقدم من القمر، وبخفقان من نار الجبال انولد في قلبي حبّ النجمة القوي، الحب الذي لا ينهزم ، وهكذا تحبني كوييور، ولن تكون هناك قوة في العالم يمكنها أن تعارض ملكا من الأنديز ". =: "لا أيها المتشامخ أويانتي ! لا أريد سماعك ! ابتعد من هنا ".. وفي الوقت الذي تمكن أويانتي فيه من الوصول إلى البوابة، ويهرب ، تابع ملك الإينكا صراخه: =: "أيها الجند ، يا جنودي اتبعوه! لا تدعوه يخرج من مدينة كوزكو ،فليمت قبل أن يصل إلى قمم جبال الأنديز. أعلنوا الحرب عليه وعلى أتباعه، ولتطبّق قوانين أبناء الشمس والقمر ". وفيما بعد ثبت الإينكا نظراته في "كوييور" الجميلة ، وفي عينيه سؤال ملييء بالحسرة .لكن كوييور تحدثت بصوت واثق: *: "سيدي ابن الشمس .. أنت والدي الإينكا مالك كل الإمبراطورية ، لكن قلبي سليل القمر والشمس قد احتله "أويانتي" نعم لقد احتله ". =: "لا ! "، صرخ الاينكا مزمجراً، :" أبدا يا ابنة الدم المسمم بحب إنسان, لن تمزقي قانون القدر. أنا سأمنعك. ستكونين مدفونة في بيت العذراوات المنذورات للشمس. وسوف تنتظرين هناك ساعات حياتك لتكوني عروساً لها. هذه هي قوانيننا.القوانين المقدسة لأبناء الشمس ". ماذا سيحل بك, يا كوييور الجميلة والحزينة يا اسم النجمة!؟ ماذا سيحل بك بين عذراوات الشمس في ذاك المحفل المحاط بأسوار مغلقة وعالية!؟ ماذا سيحل بك بغير حب أويانتي!؟ سوف يقدّمونك إلى الشمس كزوجة ، بحسب معتقدات الإينكا.. وبينما أنت تحلمين ببطلك فهم يطاردونه ، وهو يهرب ، يريد الاجتماع بمحاربيه في الجبال . انك يائسة من غير أمل. الليل والشفق سيفاجآنك بعينيين مليئتين بالحب الضائع. أيتها الجميلة والحلوة يا "كوييور" ! الحب قريب و يحيط بك مع الأسوار العالية. انك لا تعلمين أيتها العذراء الشاحبة ، انك ستمضين إلى لقائه هذه الليلة في الحقل الذي تتمشين فيه مع أحزانك تحت النجمات. انك لا تعلمين،لكن، "أويانتي" قريب منك وسيأتي ،لأنه لاشيء يمنع رغبته ، فلقد دخل إلى حيث الأبواب قد أغلقت وها هو قريب جدا منك وأنت الآن تستمعين إلى قلبه في صدرك. الآن ستشعرين أنك مأخوذة كما لو كنت تطيرين على الذراعين الجبارتين لأويانتي ، يحملانك بحلاوة كما لو كنت ملتفة بغيمة تحت القمر الذي يرانا. أنت لا تعلمين إلى أين تذهبين لكنك ستشعرين بالأمان بين الذراعين اللتين تحملانك ، وترفعانك إلى الجبال ، وسوف تشعرين بالنسيم العليل والنقي في القمم الشاهقة التي يصلها نسر الكوندور.وهناك سوف ترتاحين في خيمة "أويانتي" التي شيدها من الجلود القوية, ستكون قلعة من قلاع الأنديز ، يحميك فيها آلاف المحاربين ، يحرسون القمم والطرقات والأعناق تحت النجوم. وأنت أيها البطل المقدام ، سوف تشعر بالسعادة لأنك تحديت قوانين الآلهة. إنها قلعة الصخور في أعلى الجبال ، يحرسها آلاف المحاربين الأوفياء لأويانتي. وفي كل مكان توجد عيون يقظة في القمم وفي النهر الذي يجري في الوادي.
أما خيمة أويانتي فيحرسها المحاربون الأكثر وفاء له ، ويصمتون كي لا يعكرون صفو أحلام الأميرة التي اقتُلعت من بين أبناء الشمس وتم تنصيبها ملكة وأمّا لأبناء الأرض الذين سنّوا الأسلحة و هييأوا صدورهم لقتال جيوش الإينكا إن هي وصلت إليهم. ويمر ليل النجوم صامتا فوق بلاد الأنديز. ويخرج أويانتي من الخيمة ليتكلم مع قياداته فتصله أخبار أن الإينكا أرسل جيوشه ضد القلعة. وكل شيء جاهز للمقاومة وللانتصار. فلا أحد يقدر على الوصول إلى أعلى قمة ، حيث توجد الأميرة. وفي الحال يأتي أحدهم ليبلغ عن وصول رجل جريح إلى بوابة السور والذي يقول إنه يحمل أخبارا إلى "أويانتي". وعلى ضوء المشاعل تعرّف أويانتي على "رومنيهوي" قبطان جيوش افيننكا ورفيق حروب كثيرة ،الرفيق الذي كان قد أنقذ حياته. و "رومنيهوي" يأتي جريحا يقول: إن الإينكا قد أقصاه عن القيادة وعاقبه بشكل قاس لأنه لم يتمكن من منع هروب أويانتي واختطاف الأميرة ،وهو الآن في حالة حقد ويستعد للقتال ضد السيد القاسي. يأمر أويانتي بعنايته وحراسته ، لأنه لا يعرف أين يختبأ التزلف والخديعة في قلب رومنيهوي . لكن جيوش الإينكا أتت بصمت عبر الطرقات والجبال وعند بزوغ الشفق كانوا قد وصلوا إلى الوادي الذي تسيطر عليه القلعة. ودارت حرب عنيفة بين جيوش الإينكا ومحاربين الإنديس فاحترقت الغابات ، وسقط مطر من النبال و رعود من الحجارة تساقطت من المجنبات ، فالخديعة والخيانة سمحتا للأعداء بالتقدم بين دخان الحرائق. أمر أويانتي رفاقه أن يأخذوا الأميرة كوييور إلى ممر في داخل الأرض ، ينفتح بين الصخور، ويتجه نحو السور الذي يحيط بصولجانه، لكن إلى جانب السور كان الخائن يزحف ، ويتقدم ويقترب من ظهر أويانتي ، ويفرغ ضربة جبارة من فأسه على رأس البطل، فسقط بطل الإنديس مضرجًا بالدماء وفاقدا للوعي وسط حصنه المنيع .فبالخيانة فقط أمكن مهاجمة قلعة الإنديس. فلقد زحف المحاربون الاينكا في الليل حتى السور ، وانتظروا إشارة النار التي أرسلها الخائن رومنيهوي. وتم اسر كوييور و أويانتي، وأخذهما إلى مدينة كوزكو، حيث كان الاينكا العظيم قد اعدّ لهما العقاب. وصلت هوادج القضاة مرفوعة على حمالات من ذهب. وأمام ابن الشمس احضروا كوييور و أويانتي الجريح وبلا خوذة ولا سلاح!! وفيما يحتفظ الكهنة بصمت مطبق وجّه الاينكا سؤالا إلى أويانتي :" لماذا انتهكت معبد عذراوات الشمس "؟ وكان صوته يدوي ويهدد.. تقدمت كوييور وقالت: " كنت أنا يا أبي وسيدي لم يكن الذنب ذنبه ، بل أنا هربت إلى الجبل لاتبعه لان قلبي كان يوجهني نحوه ". لكن ،أويانتي سيقول الحقيقة ، ينظر بحزم إلى الاينكا ويقول: "هذه هي الحقيقة أنا اختطفت الأميرة إني أحبها على طريقة حب أبناء الأرض وأخذتها معي، أنقذتها من العقاب الفظيع الذي كان قد أعدّ لها. فلا يمكن للشمس أن تأخذ لها زوجات من لحم من بنات الإنسان إنما فظاعتك ووحشيتك هما القادرتان على تقديم حياة الأميرة الشابة ..أنا فقط من يحبها وعندي الاستعداد للتضحية بحياتي لأجلها وليس أنت أو الشمس التي تدعي انك ابنها ".
في عيني الاينكا لمع برق من الحقد فقال: :" أويانتي أيها الزنديق!! اعترف بذنبك المارق. القانون سيطبق وسيحرق المذنب بالنار المخلصة.أما الابنة التي تدنست فسوف تنفى وتلقى إلى التشرد في الصحارى ". سمع أويانتي كلمات الاينكا ونظر إلى كوييور، وفي النظرات كانت مواساتهم الكبيرة . سار المحارب صاحب القلب الذي لا يهزم، سار بخطوات واثقة نحو الموت وهو يفكر في كوييور الحبيبة الجميلة. مات أويانتي البطل !! أما كوييور النجمة الحلوة فلقد شرّدت إلى الحقول والصحارى ، لكن في إمبراطورية الاينكا يتذكر الجميع ذلك الحب الذي وحّد لأول مرة بين ابن الأرض وابنة السماء. ومنذ ذلك الوقت والجميع يعبرون عن إعجابهم بكوييور اسم النجمة وببطل الأنديس الذي أحبها على طريقة أبناء الإنسان. الذاكرة الساحرة للهنود
على طول أمريكا الجنوبية تستند التربة إلى الجدار، الذي تشكله جبال الأنديز في سلسلة من القمم الشاهقة تصعد وتهبط ، تتجمع وتفترق ، وفي وسطها توجد هضبة كبيرة ، هي الهضبة البوليفية ، حيث توجد هناك البحيرة العملاقة، وكأن الأعمدة الصخرية تحملها على ارتفاع أربعة آلاف متر عن سطح البحر.
كان المسافر قد مشى أياما وأياما بين تلك السهول الشاهقة والمنعزلة والصامتة ، التي تشبه عالم ميت. أحس المسافر بعاطفة قوية في تلك العزلة الجرداء ، في منطقة كأنها بحر من الحجارة , توقف لمرات عدة ، كي يستنشق الهواء الناعم الذي يأتي من الذروات العملاقة لتلك الجبال الجبارة وقممها الثلجية ، تلمع في السماء الصافية. نظر القروي المسكين إلى البعيد ، حيث عاشت أجيال من الرجال صامتة لقرون ، مثل صمت القمم الشاهقة .أجيال قديمة أكثر قدما من الاينكا قد ضاعت هنا في أزمان مشاعيّة بلا ذاكرة . ومن بعيد رأى المسافر نقطة سوداء ، بدأت تكبر وتكبر مع المسير ، وفيما بعد انفلقت النقطة ، وأفضت عن رجل هندي اقترب المسافر من الهندي وسارا معا بصمت في التربة الوعرة . مشيا كثيرا ووصلا إلى هناك ، حيث الأرض تنحدر بمنحنى عنيف ، حتى جرف عميق وواسع قريبا من سور الجبال المائلة ، وكأنها مضطجعة على المنحدر. ومن عمق الحفرة الكبيرة الضخمة خرجت مثل حكاية عجيبة مدينة السقوف الحمر بأعمدة بيضاء ، وبشجرات جذورها ضخمة، وبيوت وشوارع تتفرع وتتفرع على جنبات الطريق و السور، إنها " لا باث la paz* " مدينة عمرها قرون من السنوات هي أعلى العواصم في العالم ، أعلى من أربعة آلاف متر فوق سطح البحر ، مقامة على صحن رائع ، وساحر محاط بقمم الجبال والذروات التي تشبه عرف الديك.
أشار الهندي بإصبعه إلى المسافر عن المدينة وعن الجبال المقدسة وكانت عيناه تشعان بضياء ذاكرة القرون، ذاكرة العرق البشري الذي تسري فيه دماء الإله أيمارا**Aimara ، والتي سالت في العصور الأولى لمنطقة الأنديس الشاسعة. قال الهندي: " انظر يا أخي ! عندما كان الإله" ويراكوتشا WirAkocha" اله العمار كان يشيّد الحياة للناس في كل ما تراه عيوننا الآن ،لكن الإله "كجنو،Kjuno" اله الخراب كان يلاحق خطوات الإله الطيب ويدمر كل شيء يبنيه". شيد الإله "ويراكوتشا Wirakoch " مدينة من الحجر ، فقذفها الإله "كجنو Kjuno بجبال من الثلج ، فبنى الإله الطيب مدينة إضافية كي يحيا الناس ،لكن إله الخراب كان يدمرها ، و يدفنها بنفس القوة ،عندها استدعى الإله "ويراكوتشا" إلها آخر لمساعدته هو "نيني ،Nine" اله القوة وأب النار. مادت الأرض وماجت غاضبة وحارقة وظهرت حلقة من البراكين لحماية الإله الطيب "ويراكوتشا" وعمله الصالح. لكن، "كجنوKjuno” مدمر العالم بثلوجه طلب في الحال حماية من "هوايارا Huayra " اله الريح , واستمر "ويراكوتشا" في كل الهضبة الرائعة يبني مدناً محاطة بجبال من نار ،لكن عندما ينتهي ويغادرها وينطلق ليعمر مدناً أخرى ، كان اله الريح ينفخ في البراكين ويطفئ لهيبها ثم يأتي "كوجنو ،Kjuno "متبوعا بثلوجه ويعيد تدمير كل شيء ، فتصارع الإله "ويراكوتشا" الذي يبنى مع الإله "كوجنو" الذي يدمر، واستمر الصراع لوقت طويل.
وهكذا كانت المدن تبنى، محاطة بالبراكين، لتبقى فيما بعد خربة ومدفونة بالبرد. تعب ويراكوتشا من تلك الحرب التي لا نهاية لها ،ففكر بطريقة يحمي فيها أعماله من غضب خصمه، فقام بالتالي: غرس وبشكل قوي كعب قدمه الجبارة في تراب السهل الكبير، وهكذا شكّل ما تراه اليوم صحنا عظيما ،والذي أقام المدينة عليه لاحقا.. هل ترى هناك دروع الثلج في كل القمم الجبلية ؟ إنها جيوش الإله "كجنو" التي لا تزال تترصد رغم هزيمتها ، فهم لا يجرؤن ، ولن يجرؤا أبدا على النزول إلى المدينة المحمية في هذه الحفرة ، فلقد أطلق الإله وايركوتشا عليها اسم " ماركا ماركاMarka" أي مدينة المدن. المدينة الأكثر ارتفاعا ، والأكثر قدما لما كان وسيبقى ملجأ للإنسان خلال قرون ،ملجئ آمن ومحمي في المكان الذي حفره الكعب المقدس، وكان اسمها "لاباث، La Paz” أي السلام.. صمت الهندي أمام عيون المسافر الغارق في التفكير ، وعاد فيما بعد يحكي ببطء وبلهجة أكيدة وبذاكرة قديمة: "نحن نعرف كل شيء عن عالمنا هذا ،عالم الجبال الذي لا يعرفه أناس آخرون.أقول لك الحقيقة ، لان الآلهة أرادت أن يرى الناس هنا كيف انخلقت هذه الروائع؟ انظر إلى هناك !إلى الجبل وقممه الجبارة البراقة من الثلج فوق مدينة السلام "لاباث" !!انه " إييامامني /Illimamni " سيد الأنديس الأعظم بين النسور!! وسأقول لك ما حدث: "في الوقت المظلم ،ربما وتقريبا في الفجر الأول عندما كانت الأرض والجبال تتحركان ليأخذ كلّ منهم مكانه، جاء نسر الكوندور العظيم جدا ليحط على سلسلة جبال يراقب منها بناء الأنديس !! مرت شموس وأقمار كثيرة كانت تتجاذب لتجد لها مكانا ، وفي كل الأيام مع الغسق ،عندما كانت تولد النجوم كان نسرالكوندور يطلق جناحيه الهائلتين المشتعلتين ليطير في الليل بإشعاع مذهل ، وفي النهار كان يعود دوما إلى الاختفاء عندما تأتى الظلال. وهكذا استمر سنوات وسنوات وقرون يتحرك من أجل بناء كل هذا العالم الذي تراه ، وفي يوم من الأيام، عندما رأى" ويراكوتشا" إله العمل أن مهمته انتهت ،وكانت كل الصخور والمياه والجبال قد بقيت كل في مكانه بثبات، أراد ،و قرر أن يبقى الطير المشتعل المضيء الذي يراه الجميع، أن يبقى هناك أيضا والى الأبد.. خفق نسرالكوندور العجيب بجناحيه الهائلتين المنتشرتين على قمم الأحجار، فسقطت الثلوج من السماء كأنها جبل من البياض البراق وله عدة قمم، تلك القمم الثلاث هي في الحقيقة : رأس الكوندور والأجنحة الهائلة التي لا يمكنها التحرك بعد.. مرة ثانية سكت الهندي أمام العيون الثابتة للمسافر وبعد هذا عاد يقول وكأنه راوي الذاكرة المتقدة للهنود: "هناك أشياء أخرى نعرفها ولا أحد غيرنا يعرفها ما لم يكن قد ولد هنا.. وإن كنت تستطيع استيعابي فاسمع هذه الحقيقة أيضا: كان الزمن لا يزال ظلاما ،والأرض تضخمت كثيرا عدة مرات ،وفي محاولة لها خرجت من الماء، ونهضت إلى أن شكلت سلسلة الجبال هذه.. تحركت الجبال وجاهدت لتبقى عالية ومرتفعة ولها مكان ، بعضها بإكليل من ثلج وبعضها من نار البركان، و بفضل تلك الأنوار كان الجميع يرونها كمحاربين أشداء و غريبين إذ كان الزمان لم يزل ظلاما ، والسواد يعم.. أربعة من تلك الجبال تفوقت على ما تبقى بفضل قوتها، وكل واحد منها أراد أن يرتفع ويعلو أكثر ويمتاز بالضخامة، وعندما ذهبوا إلى "وايركوتشا" كي يحكم بينها ويقرر، قال الإله لهم: "لن يكون أحدكم اكثر قوة من الآخرين.. سيكون هناك أسياد أربعة لسلسلة الجبال وهم: سيد الضوء سيد الحجارة سيد الماء سيد الهواء سيد الحجارة وسيد الهواء اخترقا السماء بقممها الحادة و سيد الضياء وسيد الماء اتسعا وتمددا مثل مناشير متعجرفة في الآفاق، لكن في يوم من الأيام كان سيد الهواء يغار من سيد الماء فقال إلى سيد الحجارة الذي يحسد بقوة سيد الضياء: " توحد مع سيد النار فأنا سأقضي على سيد الماء وانطلق الاثنان يزمجران ضد خصميهما". كانت المعركة كبيرة وشرسة بين الأبطال الأربعة المتحاربين ،خاضوها بدون تعب طوال آلاف السنين ، ولا يزالون يخوضون تلك المعركة ، فالثلوج والنيران والرياح والصخور تتعارض بقوة في عواصف وأعاصير و حمم بركانية محترقة و وكوارث طائحة.. مزقوا بعضهم ، وغرق بعضهم ، لكنهم عادوا يبزغون ويظهرون اكثر عنفا و لا يموتون.. في النهاية وضع وايركوتشا الهدوء على الأرض الهائجة والمتحارب عليها ، واصدر إرادته: يبقى الآن فقط ثلاث أسياد في سلسلة الجبال هم: سيد الضياء ،وسيكون اسمه من الآن فصاعدا "ايامفو Illampu" البرّاق المشرق،و سيد الماء ، و سيكون اسمه من الآن فصاعدا" اييماني Illimani " الرقراق المتلألئ ، وسيد الحجارة ، سيكون اسمه من الآن فصاعدا " وايانا فوتوسي Wayana Potosi " الشاب الهادر الذي يجأر.. وأما أنت يا سيد الهواء فستدفع ثمن تمردك ، لهذا ستبقى وحيدا وفي الأسفل. أطلق الإله بمقلاعه الإلهي حجرا من ذهب على قمة الجبل المدببة ، فقصها كما تقص قصبة سكر، وسوى مكانا سديداً في قلب الجبل، وأما القطعة العلوية التي انشطرت عن القمة وهربت طائرة فقد قال الإله وايركوتشا لها: أنت ابعدي ابعدي أنت "ساهاما" أي المبعدة !! هكذا أناديك بسبب تمردك. ومن تلك اللحظة بقي فقط ثلاثة آلهة في سلسلة الجبال هذه التي تراها الآن هي: "ايامفو" و "اييماني" و "ايانا فوتوسي" ، أما " ساهاما “التي هربت ، فإنها موجودة بعيداً ووحيدة في الجانب الآخر من السلسة الجبلية ،لكنها مغطاة بالثلوج متشامخة وعظيمة ورائعة. وصمت الهندي، وأحجم صوته القديم، وأخذ يشير بإصبعه إلى القمم الساحرة التي لا تزال تلمع وتضييء كأنها ألغاز وأسرار عند الغسق ..
* حرف الزاي يلفظ ثاء بالإسبانبة (المترجم ) ** من الآ لهة التي يعتقد بها شعوب الهنود الحمر الذين سكنوا أعالي البيرو ( المترجم )
Araucanos ارواكانوس
إلى الجنوب من تشيلي على شواطئ المحيط الهادئ تقع ارض "الأرواكانوس"، ففي أزمان غابرة عاش هناك رجال لهم سحنة رائعة ، يحظون بالإعجاب والوقار، ستة عشر زعيم قبيلة تقاسموا السلطة على أرواكانا ، التي تمتد بين البحر وأعلى قمم الجبال. عاش الناس على خيرات تلك الأرض ، فحرثوها ورعوا أغنامهم، والأطفال كانوا يدربون في الطريق ، حتى إذا وصلوا إلى أن يكونوا سريعين جدا فيكون بمقدورهم اللحاق بالشاة التي تهرب، وأصحاب العضلات الأقوى كان يحتفظ بهم من أجل القتال ، أو ليحملوا الفؤوس أو دبابيس الحرب الثقيلة ، أو يعدّون الرماح أو ليطلقوا المقلاع المخيف. كان الأرواكانوس شعبا من رجال أغنياء أقوياء في العمل أشداء أمام الجوع والبرد المجمد والحر الشديد ، لم يكن هناك أبدا من يقدر على السيطرة على قلقهم من أجل الحرية. فلا الملوك الأقوياء ولا شعوب غريبة اخرى ولا قبائل محاربة شرسة قدرت أبدا على احتلال السهول وجبال الأرواكانس ، ولم يقدر أحد أن يطأ الوادي العريض من كل الطامعين بغناه بالفواكه والخيرات وبالمناجم والفضة والذهب.
Caupolican كاوفوليكان
في يوم من الأيام ظهر خلف سلسلة الجبال بعض الرجال البيض على ظهر خيول لم يروها أبدا من قبل ، لم تكن معروفة ، كانوا مسلحين بحديد يلمع، يلبسون حديداً ويملكون الرعد والنار التي تخرج من المدافع والبنادق القديمة فتقتل. أثار ظهور المقاتلين الإسبان مفاجأة وخوفا كبيرين عند الارواكانوس الذين تساءلوا: هل هم آلهة؟ كانوا يقولون، ويصرخون، ويسألون: هل جاءوا من المياه ؟ أية مراكب عجيبة وغريبة أقلتهم ؟ انهم يحملون الصواعق بأيديهم، ويركبون دواب سريعة مثل الريح ،انهم آلهة انهم آلهة!! ولأول مرة تم غزو أراضيهم ،و لأول مرة انتشر الرعب والعبودية في قلوب الارواكانوس، فعاشوا خانعين خاضعين لإرادة كائنات غريبة ، كانوا يبحثون عن الذهب والفضة. الغزاة البيض أخذوا يتحولون إلى أفظاظ قساة فجبروتهم وإساءاتهم وأفعالهم الشريرة جعلتهم ضعفاء وحاقدين. :ليسوا آلهة أيها الاخوة انهم ليسوا آلهة -هكذا كان يصرخ نبلاء الارواكانوس- انهم أناس شريرون اضطهدونا وأذلونا وبمقدورنا أن نهزمهم فلننهض إلى الحرب نعلن الحرب والموت على هؤلاء الغرباء، فلن يكون هناك راحة وسلام في قلوب أطفال الارواكانوس ما لم تنظف أرضنا ، وتتحرر من هؤلاء الأبالسة.
ومن الجبال ومن السهول نهض الإستنفار ، يركض المراسلون بين غابات أرواكانوس من أجل تحريك وتجميع الناس ، وجعل زعماء القبائل يعقدون الاجتماعات الكبيرة للحرب ، وهناك في السهل الكبير بين الجبال بدأوا يتجمعون: "توكفال" مع ألفين من المحاربين ،"اونغولو" مع أربعة آلاف، "كايوكوفيل" مع ستة آلاف، "لينكوي" مع ثلاثة "ليموليمو" و" تفورين" و "كولكولو" وآخرين مع آلاف من المحاربين الشباب. غاب فقط "كاوفوليكان" القوي والحائز على إعجاب الجميع. كانت المجادلات قوية و حامية الوطيس بين زعماء القبائل، ليقرروا من الذي سيقود الحرب ضد الغزاة فصرخ "كايوكوفيل": "عندي تحت الأوامر العدد الأكبر من المحاربين، وأنا مستعد لأجرب قوتي مع أي كان" فقال" تفورين": "أنا جاهز للموت مع جميع رجالي ، ولا أحد يتفوق علي في الشجاعة واستخدام السلاح". المحاربون الآخرون صرخوا أعلنوا عن حسناتهم وسخّنت المنافسة الهمم، والمجادلات كادت تتحول إلى نزاع بين الجميع، فتحدث "ليموليم" الشيخ والحكيم وقدم نصيحته: "أيها الزعماء الشجعان اتركوا سلاحكم الآن ، فالأفضل أن يرفع ضد العدو، جميعكم متساوون بالنبل والقوة، امتحنوا قوة أذرعكم، وليكن الرئيس هو الذي يقدر على حمل الجذع الأضخم في غاباتنا على كتفيه من غير توقف أو استراحة.
أخذ جميعهم يمتحن أسباب الشيخ"ليموليم" ،والذي راح ينظر إلى الجبال بقلق، يرقب قدوم العظيم "كاوفوليكان" أحضروا جذعا ضخما من شجر البلوط ، حملوه بين ستة رجال أصحاب عضلات قوية، ومن شدة ثقله فلقد أحضروه يجرونه بين الستة ، وأبقوه وسط حشود المحاربين، الذين يحضرون المسابقة. يأتي "فايكابي" شاب طويل قاسي اللحم ، يحضن الجذع ويحمله، ويبقيه على كتفيه مدة ست ساعات و "كايوكوفيل" يستسلم قبل أن يصل إلى هذا الوقت بينما "فورين" و "اونغولو" أبقياه طيلة نصف نهار . أمـّا "لينكويا" ا لقوي فيحمل الجذع بسلاسة على كتفيه العريضتين جدا ، ويتمشى ويركض بالجذع ،منذ أن خرجت الشمس والقمر أيضا يفاجئه بنوره الساحر. وعندما تصل الشمس إلى منتصف السماء، وتبدأ بالنزول نحو المغيب، يسقط الجذع عن الأكتاف القوية للينكويا . كلهم يصرخون: لينكويا انتصر !! فلتكن قيادتنا له !! فلـ"لينكويا" الحظوة في أن يكون المسؤول الأعلى". وفي هذه اللحظات يأتي ويتقدم كاوفوليكان، يأتي وحيدا من غير محاربين يرافقونه . كاوفوليكان: طويل، وقوي ومحارب متمرس ،وخفيف الحركة وله هيبة قوية وصارمة، والجميع يقدّرون الأقوى والأنبل.
يأتي "كاوفوليكان" عندما تبدأ الشمس بالغروب ، وكلهم يطلبون وقتا للراحة، ويقررون تمديد المسابقة حتى اليوم التالي، وعندما بزغ الفجر في أعالي الجبل حمل "كاوفوليكان" الجذع الثقيل على أكتافه الخارقتين. يطلع النهار، وتعلو الشمس إلى منتصف السماء، وتختفي ثانية خلف الجبال، والليل يظهر النجوم و"كاو فوليك" يروح ويجيء ببطء وبسرعة، دون أن يعطي إشارات تعب، تعود الشمس للطلوع، ويمضي نهار كامل ، ويخرج القمر ثانية بطلعته البهية ، ومرة ثانية يأتي الفجر ، ليرى "كاو فوليك" مع الشجرة على كتفيه. وفي نهاية اليوم الثالث ،عندما تصل الشمس إلى نصف السماء يقفز "كاو فوليك" ، ويرمي الجذع الثقيل إلى بعيد ،فتهيج الحشود بالانفعال :انه الأقوى انه الأقوى انه "كاوفوليكان". يضع الشيخ "ليموليم" الفأس الحجري في يد المنتصر، و من تلك اللحظة استعد الارواكانوس للقتال تحت أمر كوافوليك العظيم. وبطولاته في الحرب ضد الغرباء كانت كثيرة ، ولم تفقدها الذاكرة، فلقد غناها الشعراء كما غنوا مماته المفخرة من أجل حرية أرض أرواكانوس.
Guaranties أرض الفضة
هناك حيث تقترب مياه نهر الأروغواي ، قبل أن تتجه إلى المصب العظيم الكبير للفضة في الأرض المقطعة بالجزر بين النهرين الكبيرين ، كانت تعيش قبائل هنود "الغوا رانيين* "Guaranias عند وصول الغزاة إلى هناك والى الجنوب في الأراضي التي تحيط بـ"بوينس ايرس**" والى الشمال في الغابات على ضفاف الانهار . ومع الغوارنيون كان الهنود الكيرنديس، Querndies وآخرين من الهنود كانوا يعيشون هناك ، يصطادون الأسماك والطيور والحيوانات ، وكان بعضهم يزرع الحقول ، لكنهم كانوا جميعا محاربين أشداء كما قال عنهم الغزاة الذين خاضوا معهم معارك كبيرة وكثيرة ، وتركوا ذلك موثقا و مكتوباً . حكاية "اسافي" احدى حكايات الهنود الغواريين وهي موجودة في مؤلف للكاتب الأرجنتيني " ، روي دياث دي غوثمان/ \Ruy Diaz de Guzman " عام 1612 ميلادي .
* من قبائل الهنود الحمر القدماء الذين يعتقدون بالإله غوارني وتسكن هذه القبائل في المنطقة الممتدة بين انهر الفضة والجبال البركانية (المترجم ) ** عاصمة الأرجنتين الحالية ( المترجم )
الفتاة " اسافي "*
كانت جميلة جدا تلك الفتاة "اسافي" ، ابنة رئيس القبيلة ،وكان والدها الشيخ ينظر إلى فتاته بحنان كبير، كما يجب على الأباء أن ينظروا إلى أبنائهم غير السعداء. كانت الشابة الهندية اسافي رائعة الجمال ، وقد أتاها خيرة المحاربين لرؤيتها ، والتقدم لخطوبتها، لكن اسافي لم تعط إجابة للذين تحببوا اليها ، فالفتاة الأكثر جمالا في القبيلة لا تبادل الحب ، لأنها كانت باردة وقاسية القلب . لم تعشق "إسافي" ولم تطع أحداً ، لهذا كانوا يتندرون عليها ويقولون: " التي لم تبك أبداً " !! ولم ير أحد دمعة منها في عيونها السود رغم معاناة أهلها . احدى ارتفاعات مياه نهر الأرغواي أغرقت، واقتلعت الأكواخ والخوص ، وأخذت إلى الأبد النساء والأطفال.. فرفع الشيوخ والشباب نحيبهم وأساهم إلى السماء لكن اسافي لم تبك. كانت عيناها الرائعتان السوداوان تنظران إلى بعيد بلا مبالاة بآلام الآخرين ، فبدأوا يفكرون أن اسافي هي سبب كل المآسي تلك ، فقالت احدى الساحرات :" دموع اسافي فقط تقدر على تهدئة غضب الالهة "!! لكن حلّت مآس أخرى وأخريات ، وفي احدى المعارك مع قوم آخر أقوياء وأشداء كان على القبيلة أن تهرب ، وتختفي في الجبال بعد أن وقعت الفتيات العذراوات الأكثر روعة في أيدي الأعداء ، وسقط أشجع المحاربين قتلى ، وتقلصت القبيلة إلى بضع نساء وحفنة من المقاتلين ، الذين أنقذوا الشيخ الزعيم و لجأ جميعهم إلى الغابة، ومن ضمنهم كانت اسافي ، وفي عينيها لم يكن يلمع الدمع ،
فألقت الساحرة بيدها على طلاسمها وسحرها ، علها تتوصل إلى نصيحة الفلك والنجوم ، وفي النهاية قالت: " كي تمر المصائب من جانبنا ولا تضربنا ، يجب على اسافي أن تبكي!! لكن كيف نجعلها تبكي؟ فالشيخ الزعيم يكنّ لإبنته حبا كبيرا لا حدود له!! فكيف يمكن جعلها تبكي؟ إذ أنها لم تكن قادرة على إظهار ابسط علامات الشفقة مع مآسي ومصائب الآخرين!! وهذا ما أراده الكهان والسحرة!! وكان بالضبط امتحان الألم في داخل أعماقها . في يوم من الأيام، كانت اسافي تتمشى في أحد دروب الغابة ،فخرجت للقائها امرأة عجوز محنية الظهر، وترتجف ، وبصوت فيه الكثير من الحسرة طلبت منها أن تقطع لها بعض الأغصان اليابسة لكوخها حيث حفيدها مريض ، ويكاد يموت من البرد . نظرت اسافي إليها بازدراء ، فركعت العجوز على ركبتيها ،وطلبت منها ، وتوسلت بصوت مفجوع ، لكن الشابة الهندية تابعت طريقها.!! بعد قليل ظهرت لها امرأة لا تزال شابة، وعلي يديها طفل ، والدموع في عينيها. اقتربت المرآة من اسافي ، كانت ملامحها تشير إلى إنها موجوعة ،وعندها فاجعة. وبصوت فيه الكثير من التوسل كشفت لها عن الطفل الذي يحتضر ، ورجتها أن تبحث لها عن بعض الأعشاب المفيدة القادرة على شفاء ابنها.
كانت اسافي تعلم أين توجد تلك الأعشاب ، وفي أي مكان من الغابة ،فتلك الأعشاب تطرد الموت، وكان بمقدورها أن تحضرها بمجرد أن تمشي قليلا إلى جانب الطريق ، لكن الشابة الهندية الغريبة عن الألم تابعت مشيتها غير مكترثة . وما أن مشت بضع خطوات حتى ظهرت قوة غريبة ،جعلتها تتوقف ، و من خلف ظهرها سمعت صوت ساحرة القبيلة التي تقمصت الشيطان ، سيد الأعمال الشريرة. :آنيا !! يا سيد الظلال اجعل هذه الفتاة الباردة التي لا تواسي عجوزا و لا أمـّا ، اجعلها أن لا تكون أمـّا ولا عجوزاً أبداً!! :آنيا !! يا سيدي اجعل هذه المرأة التي بلا قلب والتي لم تبك أبدا ، اجعلها تبكي لمدى الحياة.. :آنيا !!اجعل هذه المرأة التي كان عدم بكائها هو سبب المآسي، اجعلها تحيا إلى الأبد ، تبكي ومن خلال بكائها تقدم الخير للآخرين . اسافي لم تقدر على سماع أكثر من الكلمة الأولى للساحرة ،وأخذت تتحول رويداً رويداً ، فتغوص أقدامها في الأرض كجذور قاسية ، وتشعر بجسدها يتصلب مثل جذع الشجر ، وصار شعرها مثل الأغصان المليئة بالأوراق. وبعد انتهاء الساحرة من تقمصها كانت اسافي الجميلة الفاتنة الجمال قد تحولت إلى شجرة خضراء ورطبة ، ومنذ ذلك الوقت تعيش وتحيا وتنمو في الغابات الاستوائية ،هذه الشجرة الكريمة فاعلة الخير التي من أوراقها ينز ندى ناعم ومدرار يرطب الهواء..
اسافي إنها العذراء التي تبكي دائما من اجل حماية الآخرين ببكائها.. فالرجل الذي يصل متعبا ومختنقا من الشمس يشعر أن الشجرة تمنحه العذوبة كهدية.. وتبقى تبكي الشجرة ، التي تحمل اسم العذراء الهندية فاتنة الجمال والتي لم تبك أبداً ..
* Isape
ضع تعليقك ://///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////// |
| |
New Life الخميس 2 يونيو 2011 - 1:05 | | حكايـات وأساطير عالمية . المرأة والفهدة*
في الأوقات التي كانت فيها مدينة "بوينس ايرس"** لا يعدو كونها اكثر بقليل من حصن ،كان يعيش فيها جنود مع عائلاتهم وكذلك أناس ليسوا بكثيرين. هذا الحدث النادر والمثير للاستغراب بقيت ذاكرته لوقت طويل عند الذين عايشوه أو سمعوه ، ففي تلك الأوقات كان الذين يعيشون في "بوينس آيرس" يعانون من الجوع القاسي ، لقد كان ينقصهم أن يأكلوا و بشكل كامل ،فأكلوا الأعشاب وكل أصناف الحيوانات في الحقول ،ووصلوا إلى حد من الجوع هدد أولئك الناس البؤساء بأن يأكل أحدهم الآخر. آنذاك كان يحكم السكان طاغية ، يفرض شروطا قاسية ، لم يحبه أحد فكلهم كانوا يعيشون حالة من الاستياء ، وهذا يضاف إلى مرارة عدم مواساة الجوع والى بعض بلوى الوحوش المفترسة من النمور وفهود الأونزا*** وقد اتو الى الغابات القريبة من الحصن ، وهددوا بالتهام كل من يبتعد عن الحصن. كان الطاغية مسؤول المدينة، وتحت طائلة العقوبة بالموت ، قد منع أن يخرج أحد من مكانه ، فازداد الجوع ومات ناس كثيرون .
احدى النساء الإسبانيات لم تقدر على تحمل معاناة تلك الفاقة التي لا تطاق ، فعبرت السور الذي كان مبنيا للدفاع، ودخلت إلى أراضي هندية علها تنقذ حياتها . مضت لوقت لا بأس به على غير هدى في الطريق وكان عليها الاحتماء من عاصفة ، فدخلت للاختباء في كهف لاقتها في وهاد النهر ،
لكن فزعها كان كبيرا عند الدخول إلى المغارة ووجدت نفسها أمام أنثى فهد كبيرة وقوية كانت ترتاح هناك في المغارة ، ولرؤيتها فقط فان المرأة سيئة الحظ سقطت مغميا عليها. عادت إلى وعيها بعد وقت وعندما نظرت إلى مكان الفهدة رأتها ملقاة تلعق بحرص كبير شبلين كانت تحميهما بين ساقيها . نظرت الفهدة إلى المرأة وفي عينيها شيء يشبه وهج الحنان والعطف على الأشبال المولودين حديثاً ،وكل الذي أحست به المرأة هو أنها قامت واقتربت من الأم وأشبالها ، وأخذت تمرر يدها ، وتداعب الأم والأشبال ، وبعدها عاشت في ألفة صحبة الحيوانات الثلاثة . لقد صارت المرأة الطيبة ترعى الأشبال عندما تخرج الأم الفهدة لتعود بلحم صيد للجميع . لكن في يوم من الأيام خرجت المرأة لتسكت عطشها من ماء النهر ، فأفزعها بعض هنود الكيرنديس/Querandies الذين كانوا قد خرجوا إلى الصيد هناك ، فأخذوها معهم إلى قبيلتهم . في هذا الوقت حدث الفعل غير العادي لهذه القصة إذ خرجت مجموعة من الجنود الإسبان ، يبحثون عن الأكل من القبائل المجاورة ، فوجدوا المرأة أسيرة عند الهنود فأنقذوها في اللحظة المناسبة ، وأخذوها إلى مسؤول حصن "بوينس أيرس" والذي لم يرها جيداً ، فأمر أن تلقى إلى الوحوش ليقطوعها ويأكلوها. أخذها الجنود إلى الخارج ، وتركوها مربوطة جيدا إلى شجرة على بعد فرسخ من القرية ، و في تلك الليلة أتى رهط من الوحوش إلى المرأة الغنيمة ومن بينهم الفهدة التي كانت المرأة قد عاشت معها .
وعندما رأت الفهدة المرأة اقتربت إلى جانبها ، ولم تسمح لأي وحش بالاقتراب منها ،وبقيت تدافع عنها طيلة تلك الليلة واليوم التالي بليلته حتى اليوم الثالث . ذهب الجنود إلى هناك بأمر من القبطان ليتأكدوا من ميتة المرأة ، وبدهشة كبيرة رأوها لا تزال على قيد الحياة والفهدة عند قدميها مع الشبلين . ابتعدت الحيوانة الوفية قليلا عندما رأت الجنود ، وأفسحت لهم الطريق كأنها أشارت إليهم أن يصلوا إلى المرأة ، ويفكوا وثاقها حيث فعل الجنود ذلك ، وهم معجبون بذكاء وإنسانية تلك الوحشة.. وبعد أن فك الجنود وثاق المرأة أخذوها معهم ليعفوا عنها ، بعد تلك المعجزة التي رأوها وبقيت الفهدة تصدر إشارات وحركات، وتزأر بحزن كأنه تعبير عن الإحساس بالوحدة !! بينما كانت المرأة تبتعد وتلتفت إلى الوراء وفي عينيها دموع الشكر والامتنان للفهدة الطيبة..
* المقصود أنثى الفهد أو اللبوءة الأمريكية ( المترجم ) ** عاصمة الأرجنتين الحالية ، (سبق ذكرها ) *** الوشق البري
الكتاب الثاني الكتاب الثاني
أساطير النار
أمريكا الشمالية
الفتى وذئب الكويوتي*
هذا ما يحكيه أصحاب السحنة الحمراء ، وقد حدث منذ سنين غابرة. في تلك الأيام البعيدة ، حيث كان الناس فيها يفهمون لغة الحيوانات ، والتي كان فيها كلب الصحارى ، الذئب الأمريكي الخبيث المحتال، الرمادي اللون كان صديقا طيبا للهنود وقد أسموه كويوتي. في قبيلة هندية كان يعيش فتى له ساقان قويان مطواعان ، وله نظرات ثابتة وثاقبة . كان يعيش وسط القبيلة ، لكنه كان يكثر القفز بين الغابات ،ويصعد إلى قمم الجبال، وكان يخوض في الأنهر، لا يفارقه صديقه حيوان الكويوتي"Coyote"، رفيقه في الصيد وحتى في المنام . وفي مرات كثيرة توقف لينظر كيف كان الرجال يحشرون الأسماك بين شقوق صخور النهر، وكيف كانت النساء يقتلعن جذورا طازجة ، ويحفرن الأرض بأحجار مسننة ، كان ذلك في أيام الربيع الدافئة والطويلة ، لكن عند حلول الشتاء كان الناس يتراكضون بين الثلوج يهربون من البرد وكأنه عدوهم فكانوا يغرقون يائسين في أعماق الكهوف المظلمة. كان الشاب الفتي ينظر بوجه قاس ، وهو يفكر بحسرات شعبه البائس والذي لا حول له تحت السماء المثلجة، فقال إلى الحيوان الكويوتي: " أنت لا تحسّ بسكاكين البرد لأنك سمين ، ولك جلد كثيف الشعر. أمّا هم فإنهم يرتجفون ويموتون ، قل لي يا صاحبي وأنت الذي تقود خطواتي في الصيد ، قل لي ماذا علي أن أفعل تجاه شعبي كي لا يعاني أكثر "؟. قال الكويوتي:" لا شيء "!!وفي تلك الليلة لم ينم إلى جانب صاحبه، ولم يعد إلى جانبه إلاّ بعد انقضاء عدة أيام بلياليها الطويلة.عندئذ قال الكويوتي: " أنا أعرف ماذا عليك أن تفعل ، لكنه صعب جدا وأكثر صعوبة من أي شيء ، كنت قد فعلته ،ولن تقدر على فعله أبداً ". فأجابه الفتى: " قل لي ما هو؟ فأنا قادر على فعل كل شيء ما لم يكن مستحيلا ".! قال الكويوتي: " اذهب إلى جبل النار لتسرق قبسات من ذلك الوهج ، وتحضره إلى شعبك" . سأل الفتى: وما هي النار؟ و ما هو الوهج ؟ أجاب الكويوتي: النار مثل وردة حمراء ،لكنها ليست وردة، إنها تركض بين الأعشاب ، وتقضي عليها كما لو كانت دابة ،، لكنها ليست دابة مع إنها قوية ومريعة ، لكنها تتمدد على سرير بين الحجارة ، وتقدم الأشجار أغصانها لها لتأكل ، إنها أخٌ طيبٌ يداعب النسمات والأشياء بألسن كبيرة وبرّاقة وساخنة. وإذا أمكنك إحضارها فإن شعبك سينعم بالدفء، و يخبئه كما لو أنك تخبئ قطعة من الشمس. قال الهندي: نعم سأحضر تلك النار ساعدني. اتجه الفتى نحو شيوخ القبيلة ليطلب مائة رجل لهم أفخاذ قوية وعضلات وسيقان خفيفة الحركة. فاصطف جميعهم في طابور ، يوجههم الكويوتي نحو جبل النار.
مع انتهاء اليوم الأول تركوا في الطريق الرجل الأكثر ضعفا بالركض فيهم. وكان عليه أن يرتاح هناك ، وينتظر ومع انتهاء اليوم الثاني من الركض ابقوا رجلا آخر ليرتاح وينتظر، وهكذا بدأوا يتناقصون واحداً تلو الآخر مع نهاية كل يوم من الأيام المائة للمسيرة. أمّا الشاب صاحب الساقين القويتين والملبيتين له برفقة الكويوتي فلقد بقيا وحدهما إلى المرحلة الأخيرة من المسير عَبَرا السهول وواجهتهما الجبال وفي النهاية وَصَلا سوية إلى النهر الكبير الذي يجري فوق رمال جميلة عند سفح جبل النار. كان الجبل يصل حتى الغيوم ، وكان في قمته شيء يشبه قبعة كبيرة من الدخان الكثيف. في الليل كانت أرواح النار تتراكض ، وترقص في المجنبات على هيئة جذوات كبيرة ، بينما كان النهر الكبير يلمع كما لو أن مياهه قد اشتعلت. قال الكويوتي للفتى: " انتظرني هنا سأذهب لأحضر لك قبسا من وهج الجبل ،انتظرني وكن مستعداً ويقظاً لأنني سأصل منهكاً ،وعليك أن تتابع راكضا إذ أن أرواح النار سوف تلاحقك ". وبدأ الكويوتي يصعد الجبل ويختبئ خلف الأحجار ، لكن أرواح النار اكتشفته، وعندما رأوه نحيفاً و متسخاً سخروا من رائحته غير العدوانية ،
لكن عند حلول الليل وعندما بدأت الأرواح بألعابها ورقصاتها في ألسنة اللهب الكبيرة ، تمكن الكويوتي من أخذ لسان كبير و طويل ، وهرب به هابطا الجبل بسرعة. وبطريق مستقيم كانت ألسنة اللهب تركض خلفه ، تصدر زئيرا كأنه زئير لبوة تحترق. رأى الشاب صديقه الكويوتي يهبط الليل مثل نجمة تهرب من السماء ، كانت أرواح النار تتبعه كأنها نهر من الوهج ، وراح يتساءل :هل تقترب القبسة المشتعلة؟ هل تقترب ؟ هل تصل؟؟ وقع الحيوان الشجاع أرضا ، يكاد يختنق ، وقواه تخور فأخذ الشاب تلك القبسة المشتعلة وبدأ بالركض والركض ، وأرواح النار في الجذوات تركض خلفه ،والفتى يتابع الركض ، ويمضي مثل سهم، كي يصل إلى الرجل الأول ،الذي تركوه يستريح وينتظر، و يده ممدودةليستقبل الجذوة ، ويبدأ بالركض بها سريعا كسهم انطلق من قوس. وهكذا تستمر الجذوة من يد إلى يد دون توقف ، وأرواح النار تركض خلف الشعلة المسروقة ، إلى جبال الثلج التي لا يقوى الناس فيها على البرد . استمرت النار في الهواء تنتقل من يد إلى يد بين الراكضين ، فكانت صفراء وجميلة في النهار ، وفي الليل حمراء رائعة. وصلت الشعلة إلى الرجل الأخير، ومنه إلى القبيلة ،وهناك صنع الرجال لها سريراً من الأحجار وسط المغارة، بدأوا يطعمونها بحب يقدمون لها الأغصان اليابسة، ومنذ ذلك الوقت ابتهج الناس بحب تلك الشعلة عدوة البرد ، والفتى الهندي النبيل أصبح معروفا من قبل الجميع انه الشجاع الذي اكتشف النار . والكويوتي أيضا منذئذ يمكنه إن يعرض والى الأبد أثار عمله المعطاء، وحتى هذا اليوم تحتفظ سلالة الهندي بالجلد الأصفر ، وكيف احتمس بالنار كذكرى لمأثرته الشجاعة.
* Coyote نوع من الذئاب بحجم الكلب الكبير يعيش في المكسيك وامريكا الشمالية (المترجم )
نيوزيلندا
مانوي الذي أحضر النار
عن البطل يتحدثون ، عن مآثر عجيبة ليست للبشر، كان مانوي هو الذي أخرج من أعماق البحر الجزيرة نيوزيلندا الكبيرة ، وتركها على سطح المياه في نفس المكان الذي تقع فيه اليوم . كان مانوي هو الذي اخترع نابا للحربة كي تطبق جيدا على الأسماك ، وكذلك اخترع سلة بها فخ كي يحشر سمك الحنكليس . كان مانوي هو الذي احضر النار إلى الناس وهو الذي جعل اليوم يطول كفاية كي يتمكن الناس من العمل جيدا . ومانوي فعل أشياء كثيرة من أجل خير الناس ، وهي أشياء لا يمكن تعدادها لكثرتها . عندما ولد مانوي كان بشعا ومشوها، فتركته أمه عند شاطئ قاحل ، لكن آلهة البحار حمته ، و "تامانويكي تي رانجي" وهو أحد أسلافه الأجداد ، وكان في السماء ، فقد أخذه إلى هناك ،وعلّمه كلّ الأشياء غير الطبيعية التي كان يعرفها، وهكذا كان. عندما شبّ مانوي عاد إلى الأرض ليبحث عن عائلته ، وعند وصوله عثر على إخوانه وهم يلعبون بالحراب عند شاطئ البحر ، وعند مشاهدتهم لذلك الفتى البشع انفجروا جميعهم بالضحك لكنه قال لهم: "لماذا تضحكون؟ ألا ترون إنني أخوكم الصغير" ؟ لكنهم لم يصدقوه ، وكذلك أمهم التي قالت له: " أنت لست ابني "!! فأجابها مانوي: ألا تذكرين عندما تركتيني في ذلك الشاطئ القاحل؟ آه!! نعم صحيح ، لقد نسيت !!أنت مانوي!!قالت الأم وهي نادمة لكن سعيدة في الوقت نفسه من عودة ابنها ورؤيتها له. فبقي مانوي مع أهله .
وعندما صعد أشقاؤه إلى القارب الصغير بهدف الصيد قال لهم: "أريد الذهاب معكم "، لكنهم رفضوا قائلين: " لا ، إننا لا نحتاجك " . لكن أخوة مانوي كانوا يصطادون بشكل قليل إذ أن الحراب لم يكن لها أنياب كي تطبقها على الأسماك ، فعلمهم مانوي كيف يعملون حراب بأنياب في طرفها لا يمكن إن تفلت الأسماك منها. في يوم أخر ذهب الأخوة لاصطياد الحنكليس ، لكنهم اصطادوا الشيء القليل إذ أن اسماك الحنكليس كانت تخرج من الباب نفسه الذي دخلت منه في سلال الصيد ،عندها اخترع مانوي فخا في باب سلة الصيد، كي تدخل اسماك الحنكليس ولا يمكنها الخروج . وعلى الرغم من ذلك فان أخوة مانوي لم يحبوه ، ولم يرغبوا بان يذهب معهم في الزورق ، لكنه في يوم من الأيام اختبأ مانوي في قاع الزورق ، وتغطى بألواح الأرضية ، وعندما كانوا في أعالي البحار قال اخوته:" ما أحسن أن نمضي من غير مانوي "!! لكن صوتا قد خرج من القاع يقول: " إنني هنا !! ورفع مانوي الألواح ، وخرج . فغضب الأخوة كثيرا ولم يرغبوا بإعطائه صنارة كي يصطاد . لكن مانوي لم يغضب ، وبدأ يصطاد بصنارة سحرية كان يخبئها معه ، وكانت مصنوعة من فك أحد أسلافه القدماء. لم يرغب أخوته بإعطائه طعما، عندها ادخل مانوي رأس الصنارة في أنفه ، وبللها بالدم ، ثم رمى بها إلى الماء.
لم يكن أحد من الأشقاء قد اصطاد شيئاً ، وقد اعتقدوا أن مانوي لن يصطاد أيضاً ، لكن مانوي انتظر حتى ينزل شص الصيد إلى الأعماق أكثر. قال إخوانه له: " لماذا أنت هكذا عنيد جدا ؟ لا يوجد هنا صيد !! هيا نذهب إلى مكان أخر "!! ضحك مانوي وبقي ينتظر، وفجأة أحس بحركة شد قوية في الخيط الذي جعل الزورق الصغير يكاد ينقلب ، ثبـّت مانوي الحبل بقوة ، وساعده إخوانه بذلك ، ورويدا رويدا بدأ يصعد شيء مرعب من الأعماق ، وعندما وصل إلى السطح بقي أخوة مانوي مشدوهين ، إذ إن ذلك الشيء كان كبيراً جداً ،غطى كل مساحة البحر على مد النظر ، ولم يكن ذلك أقل من "تي- اكا - آ - مانوي " أي السمكة التي اصطادها مانوي ، وهي جزيرة نيوزيلندا الكبيرة . قفز اخوة مانوي فوق الشيء المريع ، كي يقصوا منه قطعاً من اللحم ،لكن في كل مكان غرسوا سكاكينهم فيه ، فقد تحول إلى وهاد، وفي كل مكان سلخوا الجلد منه ،فلقد تحول إلى جبال. وهكذا انولدت نيوزيلندا من أعماق المياه والتي أصبحت لاحقا أرض الماورييس* Maories. ومع مرور الوقت انتبه مانوي إلى أن النهار كان قصيراً جداً، و " تامانويترا "أي الشمس كانت تنهض ، وتجوب السماء بسرعة ، وتعود من غير أن تمنح وقتاً كافياً للناس ، يمكنهم من إتمام أعمالهم. فكر مانوي بان عليه أن يجبر الشمس على أن تسير ببطء أكثر ، فقال مانوي لإخوانه: " فلنربط الشمس كي تسير ببطء وهكذا يكون للناس وقت أطول كي يتموا أشغالهم".
فردّوا عليه:كيف لنا أن نفعل ذلك؟ ألا ترى أن الشمس تحرق كل من يقترب منها؟ فقال مانوي: " لقد رأيتم ماذا أمكنني فعله، ألم أرفع جزيرة تي-آ- مانوي من البحر؟ وكذلك بإمكاني أن أفعل أشياء أخرى بل وأكبر أيضاً ". اقنع مانوي أشقاءه واقتلع خصلة من شعر رأس أخته "هينا،Hina"، وبحث عن أربطة من حرير اخضر ، حتى يتمكن إخوانه من ضفر الخيوط بقوة. تذكر مانوي ما كان قد علمه إياه سلفه الذي كان في السماء ، وكيف تكون للأوتار قوة سحرية فائقة. صنعوا بتلك الخيوط شبكة كبيرة ، حملوها ومخروا حتى نهاية العالم إلى المكان الذي تخرج منه الشمس كل صباح، استغرقوا عدة شهور في الوصول إلى نهاية العالم ، ووصلوا إليه في ليلة مظلمة ،عندها علقوا الشبكة أمام الحفرة التي كانت الشمس ستخرج منها. عند الصباح خرجت "تامانويتيرا" ، ووجدت نفسها مطبقا عليها في الشبك السحري. حاولت أن ترخيها، ولم تستطع، كان الأخوة يمسكون الشبكة بقوة وثبات، و ربطوها بأوتار جديدة. كانت الشمس تنتفض على الجانبين تريد أن تقفز ، وحاولت تقطيع الحبال ، لكن الحبال كانت قوية جدا. عندها تقدم مانوي حاملا عصاه الحربية المصنوعة من عظم أحد أسلافه ، وبدأ يضرب الشمس ،لكنها أخذت تقاوم، وبدأت تنشر جرعات كبيرة وساخنة جعلت الأخوة يتراجعون ، لكنها لم تجعل مانوي يتحرك من مكانه ، وهكذا استمر الصراع بينهما وكانت الشمس تصرخ: : "أنا "تامانويتيرا" الجبارة !! لماذا انتم ضدي" ؟ =: " لأنك تجوبين السماء بشكل بطيء جداً ، والناس لا يوجد عندهم الوقت الكافي للبحث عن الأكل وهم جياع ". : "وأنا أيضا لا يوجد عندي الكثير من الوقت لأضيعه" !! أجابت تامانويتيرا. عندها استمر مانوي بالضرب ، حتى وهنت الشمس ، واستسلمت عندها قالت: : " كفى من فضلك سأمشي بشكل أكثر ". وبهذا الوعد سمحوا لها بالخروج من الشبكة ،وهي أوفت بوعدها . ومنذ ذلك اليوم تعبر السماء ببطء ، وأصبح للناس وقت أطول لتجفف ملابسها ، وتحصل على قوتها ، لكن بعض الحبال التي ربطوا الشمس بها بقيت ملتفة عليها، ويمكن رؤيتها كأشعة تومض ، وهي تخترق الغيوم. كل هذا المآثر، أنجزها مانوي ، لكن شعبه لم يكن يعرف أبدا كيف يشعل النار. قرر مانوي إن يكتشف سر مناطق النيران. عندها نزل في حفرة وجدها في الأرض ، وكانت فيها "مافوكي" آلهة النار فطلب مانوي منها جذوة، فأعطته أحد أظفارها المشتعلة ، فخرج مانوي بالظفر وفكر: " هذا لا ينفعني، إنها نار حقاً "!! لكن أهلي مهتمون بمعرفة كيف يشعلون النار لهذا أطفأ الظفر المتوهج في تيار ماء وعاد يطلب النار مرة ثانية. أعطته مافويكي ظفرا مشتعلا أخر، لكن مانوي أطفأه وعاد يطلب النار من آلهة النار ،وللمرة الثانية أعطته مافويكي ظفرا مشتعلا آخر ، فأطفأه مانوي في تيار الماء نفسه، وللمرة الثالثة عاد يطلب النار من آلهة النار ، وللمرة الثالثة أعطته ظفرا مشتعلا.
وأعاد مانوي الكرة لتسع مرات ، إذ أطفأ النار في الماء تسع مرات ، وعندما جاء للمرة العاشرة إلى آلهة النار وطلب منها آخر أظفارها المشتعلة قبضت عليه ، ودفعته مافويكي إلى النار بشكل قوي ، لكن مانوي تمكن من الإفلات بسرعة كبيرة ، ولم تتمكن من الإمساك به ، وإثناء هربه كان يشتمها حتى اشتاطت غضبا فاقتلعت آخر أظفارها المتوهجة وألقتها كي تصطاده. أحدث الظفر ناراً في الحقول وفي الغابات، وكان على مانوي إن يهرب أمام تقدم السنة اللهب ، وفي النهاية طلب مساعدة المطر التي هطلت بسيل جارف، حتى أطفأت الحريق الكبير. وعندما رأى مانوي أن آخر نار في العالم تكاد تنطفئ التقط بعض الجمرات ، وخبّأها داخل أشجار الغابة .وهكذا بقيت النار في العالم.
* تطلق على سكان جزر نيوزيلاندا في الاقيانوس ( المترجم )
اليونان
بروميثيوس والنار
في البلاد التي نسميها اليوم اليونان ، وقبل قرون من الزمن كان قد عاش فيها شعب الهيلينيين أو الإغريقيين القدماء. وهو من أكثر الشعوب حكمة في ذلك التاريخ القديم. في تلك البلاد يوجد جبل عال تختبئ قمته بين الغيوم، اسماه الإغريقيون آنذاك بالجبل الأولمبي, وقد تخيلوا أن قمة الجبل كانت بمثابة السماء حيث تعيش فيها آلهة كثيرة صاحبة قوة جبّارة ،هي التي خلقتها. كان زيوس بمثابة الملك ، وسيد جميع تلك الآلهة. كان الإله الأعظم والأكثر جبروتاً فكلما كان يغضب كان يطلق الرعود والصواعق فوق الأرض ، فتختبئ الناس وهم يرتجفون من الخوف حتى أن الآلهة الآخرين كانوا يرتعدون خوفا. كان زيوس قد أخذ من جبل الأولمبي مملكة له، يحيط به مجلس كبير مؤلف من: زوجته "هيرا ،Hira " الآلهة الملكة وأولادهم، وفيبوFebo اله الشمس واله الموسيقى والشعر، والآلهة ارتميساArtemisa، الآلهة القمر آلهة الصيد وحامية الشباب، وبلاس أثينا آلهة الحكمة، وآرس اله الحرب ، وحادس اله الثروات ، وافروديت آلهة الحب والجمال ، وهيرميس* اله التجارة ،والهة آخرون كثيرون. بين تلك الآلهة الكثيرين والكائنات فوق الطبيعيين الذين عاشوا في جبل الأولمب كان بينهم بروميثيوس العظيم ، الذي تجرأ على تحدي الإله الملك المرعب. كان بروميثيوس واحدا من الذين خُلقوا على الأرض قبل أن يُخلق الناس بكثير من الزمن.
فلقد كان بروميثيوس مسؤولا عن خلق الإنسان نفسه, فقد أخذ حفنات من تراب اليونان ، وعجنها بالماء ، فصنع شكل إنسان، وأعطاه الحياة والقوة كي يمكنه مضاعفة نفسه، وصنع قواما للهيئة البشرية وكما تخفض الحيوانات رؤوسها لتنظر إلى الأرض فلقد جعل الإنسان يرفع رأسه لينظر إلى السماء. أحب بروميثيوس الناس الذين خلقهم ، وأراد لهم الخير مما تعطيه الأرض وكل ما يمكن أن يمنحهم السعادة. لكن زيوس العظيم شعر بأنه مهتاج لأن بروميثيوس فضّل الناس بمعاملته ، فلقد أرادهم زيوس أن يكونوا خانعين وبائسين، لم يكن يرغب في أن تكون لهم أية قوة لخوفه من أن يجرؤا في يوم ما على الاستيلاء على مملكته. لكن بروميثيوس كان سعيداً ،وهو ينظر إلى الناس وهم يواصلون حياتهم، وهو على أتم الاستعداد لخدمتهم حتى ولو كان عليه إن يتحدى غضب زيوس. كان يراهم وهم يروحون ويأتون نشيطين، سعيدين . لكن عندما جاء الخريف وأطلق أول برد الشتاء صَفيرَه، رأى بروميثيوس الناس وقد كفّوا عن الفرح، ورآهم يرتجفون ويظهرون علامات الأسى. كان للحيوانات جلود سميكة كثيفة الشعر، وبإمكانهم أن يلجأوا إلى كهوف الأرض لكن الإنسان لم يتمكن من حماية نفسه وكان يعاني. تأثر بروميثيوس بآلام المخلوقات التي خلقها.فكّر أن يحضرها إلى الأولمب الذي لا يقربه فصل الشتاء ، لكن زيوس كان هناك، ولم يكن يسمح بدخول المخلوقات البشرية إلى هناك ،فكان على بروميثيوس أن يفكر في طريقة أخرى لمساعدة البشر.
فكر و فكر ، وجاء يذّكر اله البركان "هيفايستوس، Hefaisto، أحد أبناء زيوس المعاقبين في العمل في إحدى أكوار الحدادة الكبيرة جدا على الأرض ، حيث كان يصهر الصواعق والسلاح لوالده. قال بروميثيوس:" أجل ، يمكن للبركان أن يمنح القليل من نيران المرجل". خرج بروميثيوس ليلا من جبل الأولمب ، وأخذ يهبط من نجمة إلى نجمة كي لا يكتشف زيوس أمر مغامرته هذه . وعندما وصل إلى الأرض بحث عن كهف عميق إلى جانب البحر ، ومن خلال مغارة بين الصخور أخذ ينزل وينزل عبر زوايا حجرية ، وهو يبحث عن كور الإله، وفي نهاية الطريق المعتم خرجت شرارة من النار، وهناك وصل وأمام البوابة الضخمة لمحددة البركان نادى بضربات قوية ، اهتزت بين ضجيج السنديان والمطارق ، فانفتحت البوابة وتفاجأ البركان عندما رأى بروميثيوس، كان بروميثيوس يعلم جيدا أنه يمنع على البركان أن يوقف نيران الآلهة ، لكنه حاول أن يؤثر على قلبه فقال له: " لقد خلقنا الناس ، وهم يعيشون هنا ، ويعبدون زيوس ، لكن فصل الشتاء قد حلّ ، وهم يعانون ويموتون من البرد ، ولا يمكننا تركهم بلا رحمة"!!. " نعم ! أجاب البركان حقا! ما تقول، لكنك تعلم جيدا إننا لا يمكننا فعل أي شيء من أجل إنقاذهم من غير أن يقول زيوس ذلك"!! وتابع البركان يصهر الأحمر الحيّ يحوله إلى صاعقة سماوية. في تلك اللحظة التي تظاهر البركان فيها بأنه منهمك في عمله، قام بروميثيوس وبسرعة بإضرام شعلة ، وهرب بها وسط العتمة بين الصخور.
في ذلك اليوم لحق الناس ببروميثيوس وأحاطوه ، وهو يحمل وهجا في قبضة يده ، فقدم لهم النار عدوة البرد وقال لهم: " يمكنكم إن تحافظوا عليها ، وتبقوها حيّة بأن تقدموا لها أغصان الأشجار اليابسة ". وارتفعت صيحات وأغاني الامتنان لصديق الناس الذي أحضر لهم الوهج الذي يعطي الضياء والدفء ، ويصهر المعادن على شكل محراث وأسلحة الصيد و عملة النقود . اشتاط زيوس غضبا ،عندما علم أن الناس امتلكت النار، وهو الذي كان قد أقفل عليها في جوف الأرض ، فهبط إلى السرداب ليسأل البركان: " هل كنت أنت من منح النار التي أعطيتك لتخبّئه "ا؟؟ أجاب البركان وهو يتمنى أن لا ينكشف أمر بروميثيوس فقال: "لا !!لا لست أنا!! فأنا من عمل واشتغل عندك ، فصنعت لك أجمل الأسلحة والتي لم يكن أحد قد صهرها من قبل ، تعال و متّع نظرك بهذه الأسلحة". لكن زيوس لم يتوقف عن سؤاله حتى يعرف الحقيقة، وقال للبركان: " أطِعني الآن !! اصهر السلاسل الأكثر صلابة من نيران الكور هذه ، سوف أُقيّد بروميثيوس بها هناك على صخرة في أقصى الأرض، وسوف يقوم أحد طيوري الجوارح وليكن النسر بتعذيبه ليلا ونهارا والى الأبد". وعاد زيوس إلى الأولمب ، بينما بدأ البركان بصهر السلاسل ، ولما انتهى أخذها إلى صخرة كبيرة في القوقاز ، حيث كان هناك ينتظره رُسُلُ زيوس ومعهم بروميثيوس .
ثقب البركان الصخرة الكبيرة ، وثبّت فيها الحديد ، وربط السلاسل في زندي وعقبي بروميثيوس ، وأدار الإله البركان رأسه وابتعد بخطوات طويلة حتى لا يرى البطل وهو يتعذب. وبقي بروميثيوس مقيداً بالسلاسل، ووجهه مرفوعاً نحو السماء ،وفوق الصخرة بدأ طائر النسر يحوم، كي يلتهم أحشاءه يوماً بعد يوم. كان بروميثيوس على ثقة بأنّ الناس لن تعاني البرد بعد، وهذا ما كان يواسيه في عذابه فلم يدع الألم يهزمه ، ولم يفقده الأمل بالحرية. وفي يوم صادف فيه أن مرّ "هيركوليس،Hercules** " بالقرب من الصخرة التي قيدوا بروميثيوس عليها و رأى هيركوليس كيف كان النسر يهبط ليلتهم الكبد من الصدر المفتوح للرجل العظيم غير القادر عن الدفاع عن نفسه ، فأحسّ بالغضب من قسوة التعذيب . استل هيركوليس قوسه الضخمة ، ووضع السهم القويم وأطلقها على قلب النسر ، ثم صعد إلى الصخرة وبذراعيه الجبارتين حطّم سلاسل القيود ، لكن إحداها بقيت عالقة في قدم بروميثيوس وبها أيضا القاعدة التي ثبتت مع قطعة من حجر الصخرة . قال بروميثيوس له: " لقد أَمضيتُ هنا سنوات وسنوات إلى أن جئت أنت قل لي يا هيركوليس كيف يمكنني مكافأتك " ؟ اصطحب بروميثيوس هيركوليس ليريه إحدى مآثره ، وعادا فيما بعد إلى حيث يعيش الناس كي يساعدوهم ويسرّون برؤيتهم. لكن ومن وسط الأولمب رأى زيوس بروميثيوس حراً طليقاً ، فغضب، لكنه ظنّ أنّ قراره قد تم تنفيذه ، إذ أن البطل كان يجر السلسلة وهي مثبتة بقدمه ، وكذلك كان القيد مثبتا بقطعة الصخر. عاد بروميثيوس إلى الأولمب ، ليواصل حياته مع الآلهة لكن على الأرض لم ينسه الناس أبدا . كل سنة يقيمون احتفالا على ذكراه ، حيث الشباب الأكثر قوة والأكثر سرعة بالركض يتناقلون في قبضاتهم جذوة مشتعلة ، ويركضون بها في المدن الإغريقية ،في احتفالات سباق تخليدية للبطل الذي جلب النار ، وتكريما لصديق الناس المثال الأعلى للتمرد على الجور والطغيان.
* هذه الأسماء أطلقها الرومان على الآلهة الإغريقية: زيوس(جويبتر)و هيرا(جونو)وفيبو (ابولو) ارتيميسا(ديانا) فالاس اثينا (مينيرفا) آرس( مارتي) حادس (بلوتن) افروديت(فينوس) هيرمس(ميركوري) ** رمز القوة الجسدية ( المترجم ) الكتاب الثالث
اليابان
إحدى روائع جزر المحيط الهادئ هي اليابان ، أرض ممتلئة بمناظر طبيعية خلابة وبالحدائق والهضبات الناعمة وبفوهات البراكين. والشعب الياباني صاحب ثقافة قديمة ،جعل من بلده أحد أهم البلدان الصناعية المتقدمة في العالم. لكن شواطئ اليابان عانت دائما من آثار الزلازل وثورات البراكين ، إذ تدمرت وانمحت مناطق عدة من الشواطئ اليابانية . حكاية الناطور العجوز تروي إحدى هذه الكوارث :
العجوز غوارديان
أية سعادة نشعر بها عندما ننظر من أعلى إلى السفن في البحر كأنها مرآة!! لكن الصغير الذي اسمه "ين " شعر بتلك السعادة ، وهو على قمة الجبل. كان "ين" الصغير بلا والدين ، لهذا ذهب مع جده ليعيش في ذلك الكوخ الصغير في الجبل، وسط حقول الأرز البراقة كالذهب. وهناك، كان يتمتع بالهواء النقي ، وبالشمس وبالحرية مثل الطيور فهناك يمكنه الركض واللعب بسعادة ويقول : " حقا يا لروعة العيش في ذلك الريف الهادئ حيث يعم السلام ! " . كانت القرية الصغيرة تقبع في أسفل الجبل ، وتمتد على طوال الشاطئ قبالة البحر المتوهج من السماء . والصغير "ين" كان يرى الأشياء صغيرة جداً ، كأن بعضها نمل كبير والآخر نمل صغير، أما الشيء الوحيد الذي كان بين الجبل والبحر فقط فهو حزام من التراب ، حيث أقام الناس عليه أكواخهم وبيوتهم ، بينما كانت الحقول المزروعة تمتد على طول سفوح الجبل ،حيث كان يعيش الصغير ين إلى كنف جده ، أمام مساحات حقول الأرز.والتي كان الصغير ين يعشقها. كان "ين " جاهزاً على الدوام للمساعدة في العمل ، فيفتح السواقي للري ولا يوجد أحد مثله في إعطاء الحبوب للعصافير أثناء الحصاد . كان "ين " يشعر بالسعادة لأن جده كان يحبه كثيراً ، فذلك العجوز القوي والرصين كان أفضل الرجال ، وهما يعيشان في الكوخ الصغير اللطيف والنظيف ، فكان "ين" على يقين أن الأطفال الآخرين كانوا سيحسدونه على ذلك. في يوم من أيام السنابل الصفراء التي تضيىء كالشمس نظر العجوز إلى البعيد إلى أفق البحر بنظرات ثابتة ، لكنها امتلأت بالمفاجأة. كان نوع من الغيوم الضخمة السوداء ترتفع في الأفق ،كما لو أن الحياة قد تمردت ضد السماء .
تابع العجوز بنظراته الثابتة، وفجأة عاد إلى البيت وهو يصرخ: " ين !! ين!! احضر غصنا مشتعلا بالنار"!! لكن الصغير "ين" لم يفهم مُرادَ جدَّه إلا انه أطاعه في الحال ،وخرج يركض وفي يده الغصن المشتعل . كان العجوز قد أخذ غصنا ثان ، وركض باتجاه حقول الأرز الأكثر قربا منه ، يتبعه "ين" مذعوراً يحكي مع نفسه: هل هذا معقول؟وسرعان ما انفجع ين عندما رأى جده يلقي بالغصن المشتعل إلى حقول الرز فصرخ ين: ماذا تفعل يا جدي؟ ماذا تريد أن تفعل؟ فرد العجوز : هيا بسرعة ! بسرعة يا "ين" ! عجّل واقذف بالنار على الحقول!!! بقي " ين " متسمرا في مكانه. ظنّ أن جدّه قد فقد صوابه بعد أن امتلأ كل جسمه بالوحل. تذكر "ين" أنّ الطفل الياباني يطيع دائماً ، فقذف بالشعلة بين الوحل والطين. في البداية كان هناك وميض بطيىء ، ثم تراجعت ، فاتسعت رقعة النار بألسنتها الحمراء ، وتحولت حقول الرز إلى محرقة حقيقية ، حتى بدا الجبل وكأنه يتمدد نحو السماء بأعمدة من الدخان. ومن هناك من الأسفل كان سكان القرية يشاهدون حقولهم وهي تحترق فبدأوا يطلقون صرخات الغضب و ركضوا ملتاعين يتسلقون الدروب المتعرجة للجبل يتسلقون حتى خارت قواهم ، ولم يبق أحد في الخلف ، حتى النساء تسلقن الجبل وهن يضعن أطفالهن على ظهورهن .
وعندما وصلوا ورأوا حقول الرز مخربة أحسوا بالمهانة وبدأوا يصرخون بغضب شديد: من كان هذا؟ من هو الذي أضرم النار؟ تقدم الناطور العجوز نحو الرجال وبصوت رصين قال: " أنا " . فبدأ " ين " يبكي .. أحاطت بهم مجموعة تسيطر عليها حالة الهيجان وهم يصرخون: لماذا فعلت ذلك؟ لماذا؟ عاد العجوز إلى حالة الصرامة وأشار بيده نحو الأفق وقال لهم:فلتنظروا إلى هناك !! قبل بضع ساعات كان سطح ماء البحر مستوياً كمرآة ، لكنه الآن يتغير ،يرفع الماء كجدار من الأشباح المرعبة باتجاه السماء ، كانت موجة غامقة وعاتية تتقدم من التخوم ، كأنها تهدد وتتوعد ، فبدت لحظات الرعب والقلوب تخفق بقوة ، ولم تبق صرخة في الحلوق ، فلقد تقدم جدار الماء إلى التربة بهدير صاخب ، اجتاز الشاطئ يغزو كل شيء ، ويخرب كل شيء ، كانت على شكل صاعقة ستنفجر ضد الجبل وقحة وغاضبة . بدأ البحر يتراجع بهدير أخرس ، فبدت الأرض معصوفة و منكوثة فالقرى الصغيرة اختفت بشكل ماحق وبائس بسبب تلك الموجة الجبارة . نظر العجوز وهو ممتلئ بالسعادة إلى جميع السكان الذين يقفون في قمة الجبل وقد نجوا. لقد أنقذهم بفعلته من غزوة البحر..
اسوغاي* المسكين
في زمن ما عاش في اليابان رجل فقير اسمه " اسوغاي " ، كان يشتغل كعامل بسيط في أحد محاجر الصخور الغرانيتية . كان أجره قليلاً جداً ، لا يكفيه لتحسين حياته البائسة . وفي يوم ما عاد إلى بيته منهكا من شدة التعب ، كان الرجل الفقير يندب حظه ، وكان يمقت أصحاب الحياة المريحة والناعمة في القصور الفارهة .
أخذ " اسوغاي " يفكر: لو أنني أصير يوماُ ما غنياً جداً فسأكون رجلاً محترماً محبوباً و محط إعجاب كل الناس. الآن أنا رجل فقير بائس ،لا أنفع شيئاً ولا لأي شيء ، ولن أقدر أبداً على الخروج من هذه الحياة التعيسة والحزينة ، آه لو كان عندي ثروات كثيرة!!! ونام العامل الفقير وهو يفكر بذلك ، فزاره منام رائع ،حيث اسوغاي ! نعم اسوغاي الطيب ! وقد تحول إلى رجل ثري جداً !! عنده قصر رائع مشيد بأحجار المرمر ، وفي احدى الغرف الوثيرة الممتلئة بالحرير صار اسوغاي يرتاح ، ومن خلف النوافذ الواسعة ينظر إلى الناس في المدينة . وفي يوم ما رأى الإمبراطور على هودج فوق عربة مذهبة ، يتبعه فرسان رائعون وخدم يرفعون فوق رأسه شمسيات نفيسة وبراقة بزركشتها ، فأخذ الحسد اسوغاي وبدأ يفكر: بماذا يفيدني أن أكون غنيا إذا لم يكن مسموحا لي بالخروج مثل الإمبراطور على هودج ؟! يرافقني خدم يحمونني من أشعة الشمس بواقيات من ذهب؟ لهذا سأكون إمبراطوراً .
وما أن قال سوغاي ذلك حتى تحوّل إلى إمبراطور ن يتبعه خيالة فرسان رائعون وحواليه خدم ، يحيطونه بشمسيات غاية في الروعة ، لكن حرارة الطقس كانت مريعة فالشمس ساطعة وحارقة ، وأشعتها عامودية قال أسا غوي: " لا توجد سعادة كاملة "!!. مسكين هذا الإمبراطور انه أيضا يعاني من شدة حرّ الشمس ،ليتني أكون شمسا عندها ساكون الكائن الأكثر قوة في العالم . وفي الحال تحول اساغوي إلى شمس !! الشمس التي تصل إلى أي مكان في الأرض ، تدفئ وتحمس كل شيء : المحاصيل والرجال والجوارح والأمراء ، وتصل بجبروتها إلى الجميع . لكن فجأة جاءت غيمة وبلا خجل ، حشرت نفسها بين الشمس والأرض ، فشكلت حاجزا لم تستطع أشعة الشمس اختراقه ، لهذا أعلنت الشمس غضبها ، وبدأت تصرخ: بأي حق!!؟ وبماذا تقوى غيمة على معارضة قوتي وتحجب أشعّتي؟ إذا فالأجدر أن أصير غيمة . وتحول اسوغاي إلى غيمة ، وفي الحال ولكي يمتحن قوته وضع نفسه أمام الشمس بطريقة هزمها فيها، فحجب أشعتها وألقى بالظلال على الأرض . فيما بعد هطلت من الغيمة زخة مطر قوية ، وانفجرت الرعود والبروق ، وفاضت الأنهر على الحقول . وفي السماء كان اسوغاي يتبرم بقوته، وهو في غاية السعادة ، ويقول لا أحد يقدر على مقاومتي ، لكنه سرعان ما تجهم عندما رأى من الأعلى شيئا ما في الأسفل .
كانت صخرة لا تتحرك ، لم تنفع معها قوة دفع التيار ، وكانت موجاته تتحطم عليها دون أن تزحزحها من مكانها . عندها فكرت الغيمة وقالت:" إذا لم أملك القوة الكافية لأفرضها على صخرة ، فسيكون من الأجدر لي أن أصير صخرة مثلها "!!. وتحول اساغوي إلى صخرة ، تقاوم لهب الشمس وغضب الصواعق والفيضانات ، لكن وعند أسفل الحجر الصلب جاء رجل له هيئة فقيرة وبائسة ، أخرج أزاميل حديدية ومطرقة ضخمة ، و رويداً رويداً بدأ ينقر و ينقر ، ويفتت قطعا من الصخرة ، وبدأ ينحتها بأشكال فنية متعددة . :كيف هذا ؟صرخت الصخرة! هل يمكن لرجل أن يهزمني بصمت ، ويقتطع مني أجزاء ويشكّلها فنياً ، وهو في غاية السعادة !!. إذ أن افضل شيء لي أن أعود إنسان . عندها نهض اساغوي من نومه وقد فارقه الحلم...
* ISOGAI
الصين
الصين بلد عظيم صاحب حضارة قديمة كباقي الحضارات القديمة في العالم ، لكنه خضع في مرحلة تاريخية إلى الاستعمار ، وعانى الشعب الصيني العذاب والبؤس جراء ذلك الاستعمار ، لكنه استطاع التخلص من عبودية الاحتلال ، وأسس جمهورية شعبية حقق فيها مكانة متقدمة في التطور العلمي والاجتماعي ، وأصبحت الصين إحدى الدول العظمى في التاريخ الحديث . هذه الحكاية تروي التقاليد القديمة للشعب الصيني وعن مناقبه كشعب عظيم ونبيل وقوي ومكافح .
حكاية اله الخزف " البرسلان "
من هو أول إنسان اكتشف سرّ الخزف؟ من الذي اكتشف سر الغبار الناعم الذي يتحول إلى أحجار بلورية بيضاء مثل الثلج في أعالي الجبال؟من هو مكتشف الفن الرائع للبرسلان الخزف؟ نعم انه فو Pu ، الإنسان الذي رفعه الصينيون القدامى إلى مرتبة اله واعتقدوا به طيلة قرون ، إنه "فو" إله الخزف البرسلان. لكن في الحقيقة فان الرجل العبقري الذي عمل في أفران صهر التراب كان قد عاش قبل ذلك بكثير ، فقبل خمسة آلاف سنة كانت الإمبراطورية الصفراء قد علمت رعاياها فن التشكيل بالتراب للجرار الرائعة التي يتم شّيها في النار المستعرة في الأفران، وبعد ذلك بألفي سنة ولد فو الرجل الذي أراد رب السماوات له أن يكون إلها للخزف . حتى الآن يتم الاحتفاظ بأعمال العظيم فو التي خلّفها لتكون ملهمة لعمال الفخار والخزافين الذين يخبئون سر الفن العظيم. والأشياء التي خلفها فو تشبه كنوز بورسلانات صافية كالسماء ، وبراقة مثل المرآة وأنوار الشفق مع طيران اللقلق فوق البحيرة والبيضاء مثل الثوب وندى دمعات الأرامل اللواتي لم تتم مواساتهن. والأكواب الكبيرة على شكل حرباء فعندما تكون فارغة فإنها تحتوي على بياض اللآلئ ، و عندما تفيض بالماء ،تبدو كأنها مليئة بأسماك الأرجوان . والتي للسماء عند المغيب الأزرق مع غبار النجوم وانعكاسات القمر. والخضراء التي لخضار طازجة. مع غيوم المرمر. والشموس محاطة بتنينات سماويات ..والكثير الكثير من الأعمال الفنية الرائعة لـ" فو". لقد نسي الناس الكثير من الأسرار التي علمهم إياها إله الخزف . لكن الذاكرة لم تفقد التاريخ العاطفي لإله البرسلان.
ربما أحد كبار السن من الذين يطحنون الألوان طيلة اليوم في مصانع البرسلان الضخمة، ربما أحدهم يكون قادرا أن يروي لنا إن فو كان عاملا صينيا بسيطا وراح بالتدريج يتطور إلى أن صار فناناً عبقرياً عظيماً ، و له قدرة فائقة على الصبر. كان يوّلف بين الألوان ، ويمزج التراب ، وكان يرسم ، و ويجلس على ركبتيه أمام الأفران بانتظار أن يخرج منها عمل كامل وجديد لا يعرفه الناس . لقد حصل على سمعة كبيرة ، لقد ظنه الكثيرون ساحراً ،عالماً بالأسرار التي تبدل الحجارة إلى ذهب ، وقد سُمِح له بقراءة أسرار الكون عبر النجوم. لهذا كان من الممكن أن تخرج من بين يدي "فو " الأشكال الرائعة ونغمات النور السحرية من البرسلان الناعم. في يوم من الأيام استطاع العامل الساحر أن يبعث بأحد أعماله المذهلة إلى الإمبراطور . وراح الإمبراطور ابن السماء وهو مندهش يتأمل الجرة الرائعة التي تظهر عليها انعكاسات الفضة والشمس مع العاب نارية ، تغير لونها مع كل حركة لكل من ينظر إليها ، فأمر ابن السماء أن يحضروا له ذلك العامل العجيب. وفي الحال أُخذ البسيط فو إلى صالة العرش . ركع "فو" أمام الإمبراطور ثلاث مرات كي يلمس الأرض بجبهته ثلاث مرات متذكرا أوامر الكاهن اغوستوAugusto . قال الإمبراطور: " بنيّ لقد قبلنا هديتك اللطيفة ، ولكي نثبت لك سعادتنا بعملك المفرح فلقد قررنا منحك خمسة آلاف قطعة نقدية من الفضة ،لكن اسمع هذا جيدا: " سيكون لك ثلاثة أضعاف هذا المبلغ إذا تمكنت من صناعة جرة لها ألوان و ملامح اللحم الحي ". اسمع جيداً :" لحم يرتعش لكلمات الشعراء المبهجة ، ويتعكر ، ويتأثر بالأفكار، فكر بطلبنا هذا وعليك بالطاعة!! " . انسحب "فو" من القصر ملتاع القلب ، وهو يسأل نفسه: كيف يمكن للإنسان أن يمنح للمادة الميتة نبض الحياة وهو سر المبدأ الأعلى؟ كان "فو" يعمل دائما كي يحقق أشياء لم يعرفها أحد من قبل, فلقد تعلم من الزهرة اللمسة الناعمة والحساسة . والأخضر الزمردي من الجبال ، والأزرق والدم من الشفق ، واللمعة البراقة من الذهب ، والأخضر المزرق من الأفعى ، وقزح الفضي من الأسماك، لكن كيف يستطيع الإنسان أن يمنح التراب ملامح اللحمة الحية ؟ وأن يجعلها قادرة على الارتعاش مع نبرات الكلام وفي ظلال التفكير؟ في كل الأحوال كان عليه أن يطيع ، وينفذ طلب الإمبراطور ، كان عليه أن يفنى في المحاولة من اجل إسعاد ابن السماء. في ورشته مزج التراب والألوان ،عجن وفرك بيده ، وركع أمام النار، يتوسل الإله ، لكن من غير نتيجة .. وعلى هذه الحال مرت الشهور ، وعبثاً كانت توسلاته للفرن في أن يساعده . :" آه !! أنت يا عبقري النار في الأفران ساعدني !! كيف اقدر من تلقاء نفسي أن انفخ الحياة في الصلصال؟ كيف أقدر على منح هذه القطعة الميتة صفات اللحم الذي يقشعر للأفكار؟ فأجابه عبقري النار بلغته العجيبة وهي ألسنة النار: " كبيرة هي نيتك الطيبة ،لكن هل يقدر أي ميت أن يتبع أثار التفكير وارتعاشات الحياة "؟ وعلى الرغم من هذه الإجابة المخيبة لآماله ، استمر العامل الطيب بتجاربه بلا توقف ، و عبثاً كان كل ذلك .. لقد نفد منه احتياطي الخزف ، وقد خارت قواه ، وأنهك عبقريته وكذلك نفد صبره المقدس ، وبدأ المرض يأكل منه ، وحلت عليه الفاقة والشقاء. وحاول من جديد ، لكن بلا قوة ، لكن في اللحظة التي كان على الفرن أن يصهر فيها تراباً وألواناً في مادة شفافة ، ارتجفت واهتزت الطاولة الفقيرة والمتسخة بالألوان بينما كان "فو" يشتكي وفي قلبه لوعة .. "آه يا عبقري النار في الفرن!! إذا لم تنقذني فكيف لي أن أضبط رنة ونفخة الحياة التي ينتظرها ابن السماء؟ " فأجابه صوت النار بشكل غرائبي: " تريد أنت أن تفعل ما يفعله الملون اللامتناهي الذي يصنع قوس قزح بأقلام ضوئية؟" فعاد " فو" من جديد إلى العمل. أحيانا كانت الألوان تبدو وقد انصهرت في التدرجات المضبوطة ، وسطح الجرة كان يهتز بالألوان مثل لحم حيّ ، لكن عندما راحت تبرد فكانت تتجعد وتتشابك خطوط فيها كأنها جلدة فاكهة يابسة . وعاد " فو" يتضرع ويتوسل باكيا :
" آه يا عبقري النار!! إذا أنت لم تساعدني !!كيف لي أن أصهر خزفي وأحيله لحما حيا في فرني ؟ فأجابه عبقري النار بشكل غرائبي للمرة الثانية: "هل تسعى لإعطاء الروح إلى الحجر؟ هل تقدر أنت أن تجعل باطن الروابي الغرانيتية تقشعر وتحس بالتفكير؟" صرخ فو وهو محبط جدا: " أيها الرب الجبار !! لماذا تتخلى عني؟لماذا نسيتني أنت يا من عبدتك دائما؟" عندها قال عبقري النار بصوت من نار: " أنت تريد أن تعطي روحا للشيء الذي صنعته ، لكن الروح لا يمكن قسمتها ، لا يمكن أن تعطي قسما من روحك ؟ إني احتاج إلى روحك كاملة مقابل إعطاء الروح لعملك ". نهض " فو" وقد امتلأت عيناه بالحزن ، لكن قلبه كان منفطرا . وللمرة الأخيرة أعد "فو" عمله ، نخّل الرمل مائة مرة ، وكذلك التراب الناعم جداً غسله بالماء الأكثر صفوا لمائة مرة وعجنها بحب . راحت الألوان تمتزج رويداً رويدًا ليتوصل إلى الدرجات التي حلم بها ابن السماء . وفيما بعد بدأ العامل الملهم يعطي شكلا لتلك العجينة الصافية النقية ، يلمسها ويداعبها بأصابعه ، حتى صار جلد الجرة الرائع كما لو انه قبض على خفة وشفافية الحرير و ونعومة الشمع الزهري ودم من لحم الأميرات . عندها أمر فو المساعدين أن يغذوا الفرن العظيم بأغصان ناعمة وصافية من شجرة الشاي .
وخلال تسعة أيام وتسع ليالي كان الفرن مشتعلا أحمر يتغذى على أغصان شجرة الشاي النقية والناعمة . وخلال تسعة أيام وتسع ليالي حرص الرجال على أن تلفّ النار الجرة الوحيدة التي كانت تتجسد في لحم سحري . مع اقتراب الليلة التاسعة أمر "فو" مساعديه أن يذهبوا ليرتاحوا فلقد بدا العمل ، وقد انتهى ، وقال لهم: "مع بزوغ الفجر إذا لم تجدوني هنا فاخرجوا الجرة من الفرن، إذ أنه في تلك الساعة ستكون كما أراد ابن السماء ". و بقي "فو" لوحده قبالة الفرن في الليلة التاسعة ،ركع أمام النار، وقال أمنيته إلى عبقري اللهب: "آه ياربّ النار لقد استوعبت أعماق معاني كلماتك ! إقبل حياتي فداء لحياة عملي وروحي فداء لروحها ". وقبل أن تنتهي الليلة التاسعة ألقى" فو" بنفسه إلى النار الحية في الفرن . عند فجر اليوم العاشر جاء العمال ليخرجوا الجرة الغالية من الفرن ، لكنهم لم يجدوا معلمهم!! لكن يا للمعجزة !! كانت الجرة متأججة بحق مثل اللحم الذي يقشعر مع نسق الأفكار. وإذ لمسوها ببصمة إبهام فقط أصدرت صوتا خفيفا كصوت روح موجوعة ، جعلت الأسماع تلتقط بالأنفاس اسم الذي صار بعد هذا إله الخزف.
هروب الرسام " لي"
إنها الحكاية التاريخية المشوقة للرسام " لي- تشان- جاو" ، الرسام الصيني في أزمان بعيدة ، والذي هرب من القصر الإمبراطوري ولم يعرف عنه أي شيء أبدا. ولد " لي" في منطقة رطبة وخضراء ، وكانت حياته الطفولية سعيدة بين أشجار المروج الرمادية والبيضاء والأشجار المزهرة ، وفي القرية قريته الحلوة, ومع والديه الفلاحيْن المسنيْن ومع النهر الرقراق بين سهول القصب والخيزران . كان ذلك كل فرحه وحياته. حتى في نومه كان يضحك ، وهو يحلم بالشمس البلورية على الحقل. منذ صغره كان يرسم الأسماك والعصافير بالحجارة التي غسلها النهر ، يرسم القطيع والرعاة في تخشيبات الإسطبلات . الجس والكربون كانا قلماً سحرياً لتخيلاته الطفولية, نما " لي" في القرى والضيعات القريبة كان الجميع يتحدث عن "لي" . كثير من الناس كانوا يأتون ليروا رسومات الفتى الفنان.فلقد أخذت شهرة موهبته تكبر، وتذيع حتى وصلت إلى قصر الإمبراطور . بعث الإمبراطور بطلب "لي" ، ولبى "لي" الطلب إذ ركع أمام الإمبراطور ثلاث مرات أمام ابن السماء ، ولمست جبهته الأرض ثلاث مرات ،عندها قال الإمبراطور له: " عليك أن تبقى هنا لتعمل على زخرفة ممرات وصالات القصر، ولقد أمرت أن تهيّأ لك إحدى الصالات كمرسم مليىء بالألوان واللوحات والأخشاب الرائعة. ستتغير حياتك اعتباراً من هذا اليوم ،ولن تعود بعد إلى هناك، حيث ولدت". حزن "لي" لأنه لن يتمكن بعد من رؤية منزله ، في الضيعة الحلوة والبيضاء ذات الأشجار المزهرة على ضفتي النهر الصافي والأليف ، ويكفيه الآن أن يحلم بسعادة الريف ، وهو محجوز في صالات القصر المحاط بتنينات ضخمة من الأحجار.!! أخذ يعمل بلا توقف ،كي يرضي الإمبراطور، وقد ملأت رسوماته جدران الغرف والأبواب الخشبية والحديدية وأسوار المعابد وصالات التشريفات ، لكن تفكيره كان يحلق في الأرض الخلابة والرطبة التي عاش فيها بسعادة غامرة . في يوم من الأيام رسم "لي" لوحة كبيرة وأخّاذة ضمنها السماء الصافية لطفولته ، و حقل المروج والجسر الصغير المصنوع من العيدان فوق النهر الذي يكتنفه قصب خيزران الضيعة البيضاء ، و في العمق كان طيران البط البري وشمس الفجر الحمراء والأخضر الناصع للعشب المبلل . كانت لوحة كبيرة ورائعة جاء لرؤيتها الأمراء والموظفون الساميون ، كانت معلقة في إحدى الصالات الفارهة لل
ضع تعليقك ://///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////// |
| |
New Life الخميس 2 يونيو 2011 - 1:07 | | حكايـات وأساطير عالمية . البراهما والنمر وابن آوى
مرة عند مرور البراهما بإحدى قرى الهند ، رأى على قارعة الطريق قفصا كبيرا من الخيزران وفي داخله نمر هائج كان الفلاحون قد اصطادوه بإحدى شراكهم.وعندما شاهد النمر البراهما قال بصوت جريح: " أيها الأخ البراهما افتح لي الأبواب ، واتركني أخرج لأشرب ماء ، فأنا عطشان ولم يضعوا لي ماء في القفص ." فرد البراهما عليه : " إذا فتحت لك الباب يا أخي النمر فإني أخشى أن تلتهمني كما تلتهم أغنام القطيع ."!! فقال النمر: " كيف فكرت بهكذا طريقة ؟ هل تعتقد أني قادر على هذه الفعلة المشينة؟ دعني أخرج للحظة واحدة ، لأخذ رشفة واحدة من الماء، آه أيها الأخ البراهما !!". فتح البراهما باب القفص، وعندما أحس النمر بأنه صار طليقا ، قفز على البراهما ليأكله. :" أيها الأخ النمر انتظر !! لقد وعدتني بأنك لن تلحق بي بأي أذى !! وما تفعله الآن ليس فعلا نبيلا ًولا عادلا ً"!! قال النمر: "هذا لا يهمني ، فأنا سألتهمك ، لأنه بالنسبة لي يبدو الأمر عادلا ولدي الحق بذلك ". وتوسل البراهما إلى النمر كثيراً ، وأخيرا استطاع أن يقنعه بان ينتظرا سماع رأي أول ثلاثة عابرين يصادفونهم في الطريق . وأول من عثروا عليه كان الجاموس متمددا على قارعة الطريق ، فتوقف البراهما وقال له: " أيها الأخ الجاموس !!هل يبدو لك عدلا ً ونبلا ً أن يلتهمني النمر ، بعد أن أطلقت سراحه من قفص محكم الإغلاق؟". رفع الجاموس عينيه الحزينتين وببطء قال: "عندما كنت أنا فتياً وقوياً كان مالكي وسيدي يجعلني أعمل بلا توقف ، والآن وقد صرت شائخا وخائر القوى ، فلقد أهملني وتركني لأموت هنا من الجوع والعطش ، الناس جاحدون !! فإذا أكل النمر البراهما سيكون ذلك عملا ًً عادلا " . قفز النمر هائجا على البراهما الذي صرخ: "لا!! لا !! انتظر !! علينا أن ننتظر اثنين آخرين لنستشيرهما ، لقد وعدتني بذلك !!". وبعد قليل شاهدا نسرا يطير على علو منخفض فوق الرؤوس ، فصرخ البراهما عليه: " أيها الأخ النسر !! قل لنا إن كان يبدو لك عدلاً أن يأكلني هذا النمر بعد أن حررته من سجن فظيع ؟!". أوقف النسر تحليقه في لحظة ، وحطّ إلى جانبهما وقال: " إنني أمضي حياتي بين الغيوم ، و لا أؤذي أحداً من البشر ، لكن بني البشر يطلقون عليّ السهام ، و عندما يصلون إلى عشي فانهم يقتلون فراخي ، أعتقد أن النمر سيقوم بعمل جيد إذا أكلك !!". فقفز النمر على البراهما والبراهما يصرخ: " لا !! لا !! انتظر يا أخي النمر !! إنها المرة الثانية التي نستشير بها ، ولقد اتفقنا على أن نسأل ثلاثة عابرين وينقصنا واحد بعد !! ومع أنّ النمر كان يزمجر فإنه واصل الطريق مع البراهما . وما هي إلاّ لحظات حتى ظهر ابن آوى وهو يمشي ويختال فرحاً . اقترب البراهما منه وقال له: " أيها الأخ ابن آوى !!كيف يبدوهذا الأمر لك ؟ هل ترى عدلاً أن يلتهمني النمر بعد أن حررته من القفص؟ ". :"ماذا تقول" ؟ سأله ابن آوى . أقول :" - أعاد البراهما وبصوت مرتفع-إن كنت تعتقد أنه من النبل والعدل بمكان !! أن السيد النمر هذا يريد أن يأكلني!! مع أنني شخصيا ساعدته بالخروج من قفص محكم الإغلاق ؟". مِنْ قفص؟ ردد ابن أوى الكلام وكأنه لم يكن منتبهاً . :" نعم!! نعم!! من قفص ، أنا شخصيا فتحت الباب ،والآن نريد أن نعرف ما هو رأيك؟". :" آه !! _ قال ابن آوى _ تريدان معرفة رأيي ؟ في هذه الحالة عليكما أن تقصا عليّ الحكاية كلّها ، و بوضوح فأنا مشوش ، ولا افهم الأشياء جيدا . هيا لنرى ماذا يجري هنا !! " انظر!! - بدأ البراهما الحديث- كنت ماشياً في الطريق عندما شاهدت النمر محبوساً في القفص ، عندها ناداني هو".. "اسمع !! اسمع -قال ابن آوى- إذا بدأت بحكاية طويلة جداً فلن افهم منك ولا كلمة واحدة!! عليك أن تشرح لي بشكل افضل!! أيّ قفص تقصد؟ " . :" إنه قفص عادي ، قفص مصنوع من قصب الخيزران "، أجابه البراهما . :" طيب ! لكن هذا لا يكفي، فمن الأفضل أن أرى ذلك القفص !! وبذلك أ فهم ما جرى بشكل أ فضل ". ومشوا في الطريق إلى أن وصلوا ثلاثتهم إلى المكان الذي يوجد فيه القفص . : " الآن هيا نرى !!_ قال ابن آوى_ : أين كنت أنت؟ يا أخي البراهما؟ ". :" هنا بالضبط في الطريق" . :" وأنت يا أخي النمر؟ ". :" أنا في داخل القفص!! أجاب النمر وهو غاضب و مستعد ليأكل الاثنين معا.. :" أوه !! معذرة أيها النمر !! _ قال ابن آوى _ أنا مشوش ، و لا اقدر أن أفهم الأشياء بالضبط !! دعني أرى! اسمح لي! كيف كنت حضرتك في القفص؟ في أي وضع؟ ". : " هكذا ! أيها المعتوه" !! _قال النمر ، وقفز إلى داخل القفص ، _ " وفي هذه الزاوية كنت ورأسي بهذا الاتجاه ". :" آه ! نعم نعم لقد بدأت افهم ، لكن لماذا لم تخرج من القفص؟ " سأل ابن آوى . :" ألا ترى أن الباب كان مقفلا؟ ". قالها النمر وبدأ يزمجر.. :" آه !!... الباب كان مقفلا !! وكيف كيف كان مقفلا؟ " ، استمر ابن آوى بالحديث.. :" هكذا - قال البراهما وهو يغلق القفص _. :" لكنني لا أرى قفلا " ._أضاف ابن آوى _ وكان بمقدوره أن يخرج !!" . :" هذا هو القفل " ،وأحكم البراهما إغلاقه.. :" آه! نعم! يوجد قفل ، إنني أرى قفلا "،قال ابن آوى وهو يسخر من النمر بعد أن اطمأن انه في القفص ، واستدار ابن آوى باتجاه البراهما قائلاً : " الآن والقفص محكم الإغلاق بالقفل ، فإنني أنصحك أن تتركه كما كان ، وأنت يا حضرة السيد النمر !! بإمكانك أن تبقى هادئاً ، فربما يمرّ أحد ما وقد يخاطر بإطلاق سراحك ". وضرب تعظيم سلام إلى البراهما ، وراح يختال بمشيته سعيداً فرحاً ..
كيف نبتت شجرة الخبز في الهند ...؟
في منطقة فقيرة من المنطقة الحارة في الهند ،كان رجل عجوز وفقير يعيش مع ابنه وخادمه القديم وكلبه ، ففي سنوات البؤس أضاع ثروته الصغيرة ، فعاد فاقداً الهدف من الحياة ، ومن غير أية رعاية من أحد عاد ومن معه إلى العيش في بيت مهجور عند الريف الصحراوي . في الصندوق المهترىء يمكنهم أن يضعوا أربعة أقراص كبيرة من الخبز فقط ، رغيفا لكل واحد ، وكان ذلك الغذاء الوحيد لهم الذي يعتمدون عليه طيلة الشهر وحتى يتوقف فصل الأمطار . وهم يجلسون حول الطاولة في إحدى الليالي التي مزق البرق الصمت فيها، أخذ الأب والإبن والخادم يفكرون في شقائهم، وكان الكلب ينام على قدم سيده . وبين صوت المطر وصفير الرياح سمعت طرقات على الباب ، فسارع الخادم ليفتحه، فكان أحد المتشردين يطلب شيئاً ليأكله . لا أحد يقدر أن يعرف أن ذلك الرجل ذا ربطة العنق والبائس هو الرب، البراهما ، يمر هكذا !! وقد تحول إلى الأرض ، ليعرف حياة الناس وعاداتهم ، ولكي يعاقبهم أو يمنحهم الثواب وكل حسب عمله. سمع الأب طلب الشريد وقال لخادمه: " اعط الرجل حصتي من الخبز، إنه أكثر فقراً مني ، ولا يوجد له مكان يلجأ إليه. سأبقى من غير أكل وسنُخرج من الأرض ما ينقصنا " . أطاع الخادم أوامر سيده ،لكن باستياء قدم للفقير حصة سيده . و تواصلت الأمطار بالهطول ، والحزن يخيم على البيت البسيط . وبعد سبعة أيام عاد المتشرد يطرق الباب وطلب شيئا يسد به رمقه، ويحميه من الجوع والبؤس . اضطرب الأب للحظة ، لكنّ نظراته بقيت حادة وثابتة ، فنادى خادمه وقال له: " إذا كنت أنا قد امتنعت عن الأكل ،كي أساعد هذا الرجل المسكين ، فعليك أنت أن تفعل الشيء نفسه ، فأنت لا تزال شاباً وقوياً وتعيش في بيتي كابن لي ، بينما هذا الرجل الفقير الذي يتسول فهو عجوز ولا معين له، فاعطه خبزك كما أعطيته أنا ". أطاع الخادم سيده، لكنه كان سعيدا هذه المرة .. مر أسبوع آخر، والسماء لا تزال سوداء مكفهرة والبيت مغلقاً ، يعيش صمتا مطبقا .عاد الشريد يطلب بصوت يغشى عليه . اضطرب عجوز البيت للحظة ، لكنه قال بصوت متدهور: " لقد جاءت اللحظة التي يجب على ابني فيها أن يضحي ، فيجب التعلم من الصغر على تحمل معاناة بؤس الغير رغم مظهرهم كما لو كانت معاناته الشخصية ، فاعط الرجل خبز ابني ". أطاع الخادم الأمر باستياء هذه المرة . مرت سبعة أيام أخرى كانت طويلة جدا ،لكنها مليئة بالأمل.. وعاد الرب البراهما للمرة الأخيرة يتظاهر بالتعب وبالجوع وبالبؤس ، أراد أن يمتحن ويعرف إلى أيّ مدى تصل شفقة ورأفة أولئك الناس الفقراء ؟ وطلب خبزاً بصوت ضعيف وفيه حسرة . سمع العجوز توسّل المتسول ، فاضطرب قليلاً ، لكنه قال وهو يرافق كلماته بحركات بطيئة: :" لقد أعطيت الرجل خبزي وخبز خادمي وابني.. وبعد هذا أظن أنه بإمكاني أن اقدم له حصة الكلب ، فالحيوان الطيب لا يشعر بمتعة التضحية. اعطه ما تبقى من خبز!! ولنكن محظوظين لأننا استطعنا أن نعطي شيئاً " . أخذ المتسول الخبز من الأيادي النبيلة وحيّا الخادم لوقفته إلى جانب سيده، لكنه عاد مرة ثانية إلى الباب ، حيث سمعهم ينادونه باسمه مع الشكر والتبجيل !! وعلى الضوء الرمادي للمغيب تحول المتسول وعاد إلى جلاله ووهجه كالشمس. كشف الرب البراهما بين أصابعه عن بذور كبيرة كحبات اللوز، وقال: " خذ واعط هذه إلى سيدك ليزرعها وسوف لن يجوع أبداً " . عاد الخادم مليئا بالدهشة إلى سيده ، وأعطاه هدية الرب الغريبة ، وبدأ يحكي له عن تحول المتسول.. أخذ العجوز ابنه من يده ، وخرج ليرى بعينيه ذلك التحول الغريب ، لكنه لم يجد أحداً إلا الضوء الرمادي للمغيب . ومع ابنه وخادمه صعد العجوز إلى مرتفع قريب وزرع هناك البذور السمراء اللون . بعد لحظات رأوا أعماق السماء من خلال وميض البرق ،وبدأت أمطار ثقيلة ودافئة بالهطول . لقد منح تراب الأرض وبقوة شكلاً صلباً و مستقيماً ،أخذ ينمو وينمو ، واتسع مثل جذع غريب ، وفي وقت قصير تشكلت شجرة رائعة ، نبت قطف على أحد أغصانها، والقطف فيه أربع ثمرات كبيرة وغالية . إنه قطف من الخبز بعجينة بيضاء وحنونة، أربعة أقراص خبز إلى الفقراء الأربعة الذين يعيشون في ذلك البيت البائس. شكروا جميعهم البراهما الذي أحضر إلى أرض الهند شجرة الخبز المعطاءة .
حيوان النمس
كل فجر صباح كان الشاب الحطّاب يخرج إلى الغابة ، ولا يعود إلا بعد أن تغيب الشمس . كانت زوجته تبقى وحيدة طوال اليوم في الكوخ الخشبي وسط الحقل ، ولم تكن لترتاح للحظة واحدة ،وهي تقوم بترتيب البيت الفقير ، وتلتقط الأغصان للنار ، وفي تحضير الأكل و رعاية رضيعها الذي كانت تروح وتجيء ، وهي تنظر إليه ، وتعود للنظر إليه في مهده ، وهي سعيدة لرؤيته ، كان وليدها الأول الذي أنجبته قبل عدة شهور، وصار مصدر سعادة الأم الشابة ، فهي تحيا من أجل رعايته فقط .وعندما تكون إلى جواره أو تحمله بين ذراعيها تغمرها السعادة . والى جانب ذلك ، فلقد كانت تعاني من أفكار سود ، لا تجعلها تعيش بسلام و طمأنينة . كانت عين الماء على بعد مسافة من الخيمة ، وكان عليها الذهاب إلى هناك ، كي تملأ الجرار ، وفي أثناء ذلك كان الطفل يبقى وحيداً في مهده ، وحيداً هناك وسط الحقل . وفي حقيقة الأمر كان النمس حيوان البيت يبقى هناك أيضاً ، الحيوان الصديق الذي كان يعيش معهم ، وهو ينظر إليهم بعيون المحبة . و حين تخرج الأم كان الطفل يبقى تحت رعاية النمس، لكن هل يمكن الوثوق بحيوان حتى ولو تربى في البيت؟ ماذا يمكن لحيوان أن يفعل يوما ما إذا أحس انه مهتاج؟ هل يقدر أن يلقي بنفسه على الطفل الصغير المسالم ، ويصنع منه غنيمته ؟ :" إنه حيوان!! حيوان!! وثقة!! وثقة!! ". قالت الأم الشابة ذلك وكانت ترتجف كعادتها كلما فكرت بذلك . كان زوجها قد قال لها لمرات كثيرة إنها تتعذب من غير مسببات ، فالنمس حيوان كبير و وديع وصديق ، فمن الخطأ عدم الثقة به ، فأخذت الأم تلوم أفكارها السيئة ،لكن رغم كل شيء ،لم تتمكن من الإحساس بالطمأنينة وتقول: :"ماذا لو أن النمس في يوم ما ...؟ " . وفي أحد الصباحات نزلت المرأة إلى عين الماء وهي تحمل جرتها ، و هناك في الخيمة بقي الطفل نائما في المهد ،والنمس يتظاهر بالنوم في الزاوية ، وقد كوّر جسمه كأنه بيضة ، ومن حين لأخر كان يفتح إحدى عينيه ، وكأنه يتفقد شيئا ً !! وفجأة و بلا ضجيج ،و من ثقبٍ كان بين الأرضية وخشب الخيمة انسلت أفعى كبيرة و سوداء ، كانت أفعى سمينة وقوية ، لكن ما يخيف هو السم الموجود في أسنانها . وبصمت وبسرعة اتجهت نحو سرير المهد ، لكن النمس وثب لها في اللحظة ، ووقف أمامها وشعر ذيله قد إقشعر، وعينيه تشعان بوميض حقد . الكلب أو الذئب لا يقدران على مواجهة الأفعى ، ففي ضربة سريعة من رأسها يدلف السم القاتل إلى أجسام هذه الحيوانات القوية ، ولا يمكن لهما أن يقاوما ضغط الطيّة اللولبية التي تضغط بها كثيرا وبقوة حتى يتم التسمم ، لكن النمس كان هناك ، هذا الحيوان الصغير قبالة الأفعى لا يسمح لها بالمرور!! كان النيس يستجمع شجاعته ليواجه فم الأفعى المفتوح وعينيه متقدتين بالحقد ،كأن الأفعى صارت عصا ،وأطلقت رأسها في هجوم مثل السهم . امتص النيس الضربة بقفزة سريعة إلى الجانب ، وعاد ثانية يقف قبالتها لا يزيح النظرات عن عدوته، كان شعر النيس مقشعراً وهي تهدد بإظهار أنيابها ، لكن مخالب النيس كانت تخرمش الأرض كأنها أمواس حادة.. أحنى ظهره لمرات عدة ، وألصق جسمه في الأرض لمرات أخرى، وكذلك حرك عضلاته . كان واضحا أنه ينتظر اللحظة المناسبة للهجوم، و وثب مهاجماً ، فلقد جعل جسم الأفعى غنيمته ، وقفز بسرعة كرة وهي تنطنط !! ومع وثبة ثانية أكثر سرعة تحرر من رأس عدوته التي أخذت تتلوى . هاجت الأفعى السامة وقد أحست أنها انجرحت ، فتقدمت وهاجمت وهي تطلق رأسها ونصف جسمها مثل السهم . كان النيس يقفز من مكان إلى مكان ، ليمتص الهجمات التي كانت تجيئه مثل الطنين ، وكان عليه أن يتراجع ويقبع، لكن عضلاتها كانت تتحرك تحت الجلد ، وفي عينيها كانت نقاط حمر تلمع، وانطلقت بقفزة بدت أنها وجها لوجه ،لكنها أخفقت بتحديد زاوية الهجوم ، وعندما هاجمت الأفعى من الجانب الثاني ، و مثل البرق هبط عليها النيس من خلف رأسها ، إنها غنيمته هناك !! فهاجمها بمخالبه وبكل جسمه الضاغط . وبدأ جسم الزّحافة يتراجع ،كان يرتفع وينطوي ، ويلتف بارتعاشات قوية ، وهناك في الرقبة خلف الرأس كان يضع وزنه الذي حرقها كالجمر. كانت هناك لحظة أخيرة من الضجيج ، كأنه لرياح تكنس أوراق الشجر اليابسة. أخذ الاثنان يتراجعان أحدهما يجرجر الآخر ممرغين بتراب الأرض والغبار ، الذي انبعث من هزّه لذنبه ، وفي النهاية أخذ القتال ينتهي ، وأخذ جسم الأفعى يطول ، ويرسم على الأرض ولآخر مرة شكل حرف السين " S" ، وهمدت بلا حراك . لكن النيس بقي هناك للحظة عند غنيمته يتحسس دم عدوته من الرقبة التي قطعها ، وبعد ذلك قفز، لكن في داخله يغلي الهيجان والرغبة بالعض، وأخذ يسحب الجسم المهزوم ويسحله هنا وهناك ممسكا به بمخالبه مرة وبـ"بوزه "مرة أخرى. ورغم أنه كان منهكاً ، لكن سعيدا بانتصاره ، فلقد اتجه النيس نحو مهد الرضيع ، وخرج من الباب شبه المفتوح، وراح ينتظر سيدته علّه ينقل لها الفرح الموجود في قلبه كحيوان!! كانت المرأة عائدة في الطريق تحمل جرتها الممتلئة بالماء على رأسها ، وعند وصولها ورؤيتها للنيس معفراً بالتراب ،والدم على "بوزه" و مخالبه، وفي عينيه بريق غريب ، أخذت تفكر بالأمر .. :" آه آيتها الآلهة! هذا ما كنت أخشاه من هذا الحيوان الملعون!! ها هو قد أكمل التهام رضيعي !! آه آيتها الآلهة ! لا يوجد عقاب لهذا الحقد الكبير والأعمى ! عقاب وأي عقاب!!؟ الموت ؟!! نعم الموت !! " . وفي لحظة من اليأس ألقت الجرة بقوة كبيرة على النيس الذي سرعان ما تمدد على الطريق . وبدأت تركض كأنها تطير باتجاه الكوخ ، وعندما دخلت كان ابنها الرضيع يغفو في المهد ، لكنّ قدمها تعثرت بأشلاء جسم الأفعى السوداء ففهمت كلّ شيء ,ونظرت إلى نفسها ،إلى الأفكار السيئة والسوداء !! وإلى فورة غضبها الملعونة التي جعلتها تدفع المعروف بالإساءة !! وبدأت تضرب بقبضتي يديها على صدرها ورأسها ، وهي تركض إلى الطريق ، يأكلها الحزن كما كانت من قبل ، وأخذت تبحث عن الحيوان الوفي . التقطته من الأرض ، وحملته بين ذراعيها بحب ، ومضت به إلى الكوخ ،وهناك عملت له سريرا من افضل الأقمشة لديها ، و قرّبته من النار ، وأخذت تداعبه وتقول له أحلى الكلام الممزوج بدموعها . وبعد وقت لا بأس به ارتجف النيس، ونظر إلى سيدته بعينيه الطيبتين ، ثم نظر تجاه سرير الطفل الرضيع . في الليل عندما عاد زوجها الحطاب ، وجد الأم تبكي من الفرح ، تجلس قرب النار وطفلها الرضيع وحيوان النيس بين ذراعيها .
الكتاب الرابع
أوروبا
روسيا
"سنيغورتشكا*" طفلة الثلج
في البيت القروي البسيط كانت بعض زواياه تلمع بالضياء القادم من النافذة ، حيث كان يدخل الضوء الأبيض و البارد لذلك الصباح الثلجي . لقد تعوّد كبيرا البيت على حب النور. الجدّة "ماريوتشا" كانت تحيط القدر بالجمر ، كي يغلي الحساء على نار هادئة . وكانت الجدة حزينة فلقد مرت السنوات ، وأحنتها بأثقالها وبيّضت شعر رأسها بثلوج فصول الشتاء المتعاقبة . لقد مرت السنوات وأخذت معها حلم العجوزين في أن يلد لهما طفل يملأ حياتهما بالسعادة. أحضر الجدّ "يوتشكو" حزمة من الأغصان اليابسة ، ليطيل بها حياة النار في البيت. فامتلأ المطبخ بطقطقات الأغصان وهي تشتعل. وفي جوار البيت كانت تعلو فرحة الأطفال وهم يلعبون. أطلّ العجوز "يوتشكو" من النافذة فرأى الأطفال يرقصون ويضحكون ، وقد شكّلوا من أنفسهم جوقة كورال ليغنّوا وهم يحيطون بتمثال من الثلج . وبحماس قال الجدّ: " اسمعي ياماريوتشا تعالي وانظري إلى الدمية التي صنعها الأطفال " . وبدأ العجوزان بالضحك وهما يريان الأطفال يضحكون. كانت دمية الثلج سمينة و قصيرة القامة ، فيها شبه كبير من عمدة القرية إنها شيطنة أطفال!! وفجأة كف‘ يوتشوكو عن الضحك وقال : " ماريوتشا تعالي لنرى إن كان بإمكاننا أن نصنع صغيرا !! ألا ترغبين ؟" . فردت عليه = : "ماذا بك؟ ألا ترى أن الناس ستضحك منا ؟ لقد شِخْنا يا رجل على أشياء الصغار هذه!! ". -: "لا يهم ! "._ وأصرّ يوتشوكو _ وأضاف: " سنتفادى أن يرانا أحد، سنشكل دمية صغيرة مثل طفلة صغيرة وجميلة جدا . أخذت ماريوتشا القدر عن النار ، ووضعت شالا من الجلد وخرجت مع يوتشوكو وعندما مرّا بالصغار توقفا ، وأخذا يلعبان معهما ويقفزان ويغنيان بكل الفرح الطفولي ثم بدآ بالانسحاب رويداً رويداً ، وتوجها إلى دغل صغير كانت أشجاره عالية والثلج عليها شديد البياض. ركع العجوزان على ركبتيهما وبدآ يجمعان الثلج ، ويشكلانه على هيئة طفل صغير ، شكلا الجسم ثم الرأس ، و وضعا كمية كبيرة من الثلج على الرأس وقالا:" كي ينبت شعر كثيف !!"، ثم أضافا حفنتين على الخدين وقليلا من الثلج للأنف ، وحفرا حفرتين كبيرتين للعينين . :" آه ها هو بالضبط! " قالا , وتعانقا وهما ينظران إلى ما شكّلاه، لكن فجأة توقفا و صمتا ، فلقد شاهدا شيئاً غريباً ، فأخذا يقتربان شيئاً فشيئاً ، ثم تبادلا النظرات بصمت . و بدهشة كبيرة جداً كانت الحفرتان في رأس الدمية قد أخذتا تمتلئان بلون ازرق ، ومنه خرجت عينان تنظران بثبات ، و لم يعد وجه الدمية ابيض والخدود أخذت تظهر و تتدوّر ، وبدأ يسري بها اللون الزهري وتحرك الفم في ابتسامة لذيذة . نفخة من الريح جعلت الثلج يهتز ، و يتحول إلى شعر طويل وملتف ، وعليه غطاء جلدي للرأس ، و فستان ابيض لا يمكن لناظره أن يفرقه عن ثلج المكان ، لقد تحولت الدمية الثلجية إلى طفلة رائعة !!. تبادل العجوزان النظرات باندهاش كبير، وقالا سوية : " نعم إنها حقيقية !! لسنا نحلم فهذه طفلة إنها هنا إلى جانبنا قريبة منا جداً ، تتحرك وتمد ذراعيها و تنادينا !!". فأخذاها ، فأحسا بدفء وبدآ يداعبانها بالقبل ، عندها شعرا أن الحياة انولدت من جديد في قلب كل منهما . عانقا الطفلة وحضناها بين الذراعين ، وعادا بها إلى البيت وهما يرتجفان من شدة فيض عاطفتهما وسعادتهما . في البيت وضعت الجدة ماريوتشا الطفلة على ساقيها و وراحت تهزهما وهي تردد أغنية حلوة للطفلة كي تنام . ومن أعلى جدار المدفأة تدلى شال جلدي ، وبالقرب من وهج النار وضعا الحذاء الصغير الأبيض . اقترب العجوز يوتشكو وقال بصوت منخفض: " اسمعي ماريوتشا !! لقد صار لنا طفلة صنعناها من الثلج ، وإنني أفكر بالاسم الذي سنعطيه لها فوجدت أن نسميها "سنيغورتشكا" هل يعجبك؟ ". هزت الجدة رأسها بالموافقة وهي تبتسم . في تلك الليلة نام العجوزان وهما حائران بين فيض سعادتهما وخوفهما أن يكون كل شيء مجرد وهم أو حلم جميل قصير . لكن في الصباح كانت الطفلة معهما ، وفي مكانها تضحك وتحكي تغمرها السعادة فلقد كانت تتكلم بطلاقة ، لقد صارت بهجة حقيقية للعجوزين . في ذلك اليوم أقيمت حفلة كبيرة في البيت ، قامت الجدة ماريوتشا بتحضير كل أنواع الحلويات ، أما الجد يوتشكو فلقد دعا الموسيقيين وكل أولاد وبنات القرية ، ودارت السعادة وطالت الأغاني وامتدت الرقصات حتى ساعة متأخرة . في تلك الليلة حلم الأطفال بـ"سنغوروتشكا" وبشعرها الذهبي وعينيها الزرقاوتين ، لقد بدت "سنغوروتشكا " ، وكأنها جاءت من إحدى الحكايات الجميلة ، وهي تلعب مع الأطفال ، أخذت تعلّمهم كيف يبنون قلاعاً وقصوراً من الثلج ، فيها صالات من المرمر و نوافير ماء كبيرة ، لقد بدا الثلج وكأنه يطيع مخيلة "سنغوروتشيكا" وهي تشكله بهيئات مستحيلة . وعندما رقصت لتعلّم الصغار كيف يسقط ندف الثلج في البداية بشكل دردور . وفي النهاية بشكل بطيىء ، فلقد انذهل الأطفال جميعهم لقد كانت "سنغوروتشيكا" إحدى طفلات حكاية ثلجية. لكن فصل الشتاء بدأ بالرحيل ، والأرض المغطاة بالثلوج أخذت تعود إلى خضرتها ، بدأت الأشجار تكسو أغصانها بالنّوار ، والهواء يأتي محملاً بالدفء وأغنيات الربيع وأريجه ، ولمعت الشمس ناصعة . في أحد الصباحات كانت الجدة ماريوتشا قرب النار ، تحرس القدر المحاط بالجمر ، والجد يوتشكو كان قد انتهى من تجميع حزمة الحطب إلى المطبخ . لم يكن هذا الصباح مثل ذاك الصباح الشتائي الذي شاهدوا فيه الأطفال مجتمعين حول دمية الثلج ، فهذا الصباح كان حزيناً ، وذاك صار بعيداً بعد أن أبهج البيت والحياة كلها . تقف سنغوروتشكا إلى جانب النافذة ، تنظر إلى المرج وقد أزهر و ازدان والأشجار اخضوضرت أوراقها . حذّر يوتشكو من أن وجه سنغوروتشكا صار شاحبا ، وامتلأت عيناها بحزن غريب وسأل سنغوروتشكا : " ما بك هل تشعرين بسوء؟ ". "لا!! لا !! _ أجابته بحزن _ لكنني افتقد الثلج ، فأنا لا أقدر على العيش بدونه ، والعشب الأخضر ليس جميلاً ، إن أختي البيضاء الرائعة أكثر جمالا وروعة ، وبدأت سنغوروتشكا ترتجف. وفي اليوم الثاني بدت أكثر شحوباً وحزناً فيما ينظر العجوزان إليها بهلع . :" ما الذي حل بالطفلة؟ ". سألت ماريوتشا بخوف كبير ، ولم يجبها يوتشكو الذي أمال رأسه ، وأخفى علامات الألم ، ثم اتجه نحو ستغوروتشكا متظاهرا بالسعادة، وقال : " بماذا تفكرين يا صغيرتي ؟ لم لا تخرجين إلى اللعب مع الأطفال في الحقول؟أم انك لم تعودي تحبينهم؟ ". :" لا اعرف ياأبتي يوتشكو ، لكنني أشعر هنا في داخلي إنني سأختنق كلما استنشقت الهواء الدافئ ، وقلبي يكاد يتوقف ". : "هيا تشجعي وتعالي معنا ، سأحملك بين ذراعي ، ولن أدع الريح تصلك ، سترين الأزهار والورود الخلابة التي جلبها الربيع ". أبعدت ماريوتشا القدر عن النار وخرج ثلاثتهم إلى الحقل ، يوتشكو يحضن سنيغورتشكا بين ذراعيه ليحميها من النسيم ، فلقد كان الهواء عليلاً ودافئاً ومعطراً بعبير الورود ، لكن سنغوروتشكا انقبضت ، وأخذت ترتجف ,شجّعها العجوزان وحملوها بين أذرعهما إلى دغلٍ مزهرٍ ،لكن ورغم المرور بمجموعة من أشجار وارفة فلقد جاءت حزمة من أشعة الشمس ، و وصلت إلى الطفلة فجرحتها كأنها سيف . صرخت سنغوروتشكا بلوعة ومرارة ، ثم بدأت تخرج منها حشرجات ، جحظت عيناها ممتلئة بالدموع على مرأى من "يوتشكو" و "ماريوتشا" وهما مضطربان مذهولان . لقد بدأ جسم الطفلة يتقلص ، وأخذ يتحلل شيئا فشيئا ثم ذاب ببطء حتى صار قطرات ندى على العشب ، وعلى الجبال كان الثلج يتحلل مع أول إشعاعات الشمس .
* كلمة روسية تعني طفلة الثلج
اسفياتوغور والعمالقة
الجبال المقدسة في روسيا كانت عالية وعالية جداً ، تخترق الغيوم بقممها .وهناك ،كانت طيور النسور ، تقوم بطيرانها الهادئ فوق القمم ، وتحط بصمت في أعماق المضائق. وفي مرج الأعشاب الشاسع كانت الصخور الهائلة تطلق بخارا يرتسم في السماء مثل أشباح رمادية . كان الساكن الوحيد لتلك الجبال المقدسة هو المارد "اسفياتوغور" العملاق ، ولضخامته فقد كان يشبه إحدى تلك الصخور العالية ، وعندما كان يمشي يجعل الأرض ترتجف تحت أقدامه . كان ممتطيا حصانه يتسلق أعلى القمم ، يعبر الوهاد ويجتاز الأنهار بقفزات غريبة كأنه يطير. كان "اسفياتاغور" يعيش وحيدا في تلك العزلة الكبيرة ، جعلته قوته ينازل جميع أبطال روسيا ، وعندما كان يخرج إلى الحقول والسهول كانت الأشجار تتسمر من مشيته ، والأرض ذاتها كانت تهتز ووحدها كانت صخور الجبال المقدسة تحتمل المشية الثقيلة للعملاق. كانت قوته غير طبيعية ، وكان ذلك سبباً لبؤسه ، إذ كان بمقدوره أن يستغل قوته في أشياء أخرى، فلو انه خصصها للعمل أو لخدمة الناس لكانت السعادة تغمره . فعمره على الأرض قليل ، لكن "استيفاتاغور" كان جاهلا ، بل كان يحوّل كلّ شيء يلمسه إلى ذرات غبار وكل شيء كان ينسحق بين يديه الجبارتين . في يوم ما خرج من جباله ، و وسط مرج الأعشاب الشاسع نصب خيمته الرمادية اللون ، وفيها اضطجع ونام حتى اليوم الثاني ، حيث قرر "اسفياتوغور" أن يتابع المسير . وأخذ يمرّ بقرى وضيعات ومدن ، وبدأ يتعرف ويعشق الناس ،أسره الفلاحون بطبيبتهم وعطفهم وكذلك جمال النساء القرويات، وعندما مرّ بإحدى القرى رأى شابة رائعة الجمال ، وعندها فكر: " هذه شابة تصلح أن تكون خطيبة لي وتستحقني بجدارة ", ولم يتأخر البطل بالفوز بقلب الشابة القروية الفاتنة الجمال ، وبعد قليل فاز بالزواج منها وبأخذها إلى مملكته في الجبال المقدسة . في يوم كان فيه "ايليا موروميتس" المحارب الشجاع يبحث عن أماكن فسيحة ، فكان عليه أن يمر بالجبال المقدسة وخلال ثلاثة أيام قفز من صخرة إلى صخرة ، وصعد القمم ، واجتاز الوهاد حتى خارت قواه فنصب خيمته وربط حصانه ، ونام مع أحلام عميقة . نام "ايليا" لساعات طويلة ، وقبل أن تخرج الشمس حلم بأشياء غريبة وهجينة ، رأى وكأن جواده القوي يحفر الأرض بحوافره ، و يصهل جافلاً ، فيما بعد سمعه يقول بصوت إنسان: " إليا! إليا! انهض انجُ من الخطر ! فالبطل اسفياتوغور يقترب ! هيا ! اتركني طليقا في هذه الحقول واختبئ أنت سريعا في جذع الشجرة! نهض "ايليا" و عمل بنصيحة حصانه ، فتسلق إلى أعلى أغصان شجرة بلوط ، و بعد قليل ظهر "اسفياتغور" المريع الضخم والقوي مثل الصخر ، يحمل زوجته على أكتافه ، تجلس في هودج من الزجاج ، وفي حزامه سيف كبير جداً . ترجل العملاق عن الحصان وبمفتاح من ذهب فتح القفص الزجاجي الذي خرجت منه زوجته الفاتنة الجمال والرائعة مثل الصباح . وبينما كان "ايسافايتوغور" يجهّز خيمته بسطت الشابة على الأرض حصيرة ، وأخرجت من الخرج كمية كبيرة من الطعام اللذيذ ومشروبات حلوة مثل العسل . خلال الأكل كان "ايليا" لا يتحرك بين أغصان الشجرة مختفيا عن عيون العملاق لكن المرأة كانت قد رأته وخشيت من غضب زوجها ، فجعلت "ايليا" وحصانه يختبئان في احدى جيوب ايسافوتوعور" الضخمة " ، والذي من غير أن يدري مضى بالحمولة ليومين ، وفي اليوم الثالث بدأ حصان "اسفياتوغور" يصدر إشارات تعب ، فزأر البطل : " آه أيها الحصان !! هل أصبحت شائخا وغير مفيد!! ألا تستطيع المسير بعد؟ ". أجاب الحيوان الذكي : " كنت أحملك أنت وزوجتك ، لكن منذ ثلاثة أيام احمل على ظهري حمولة زائدة ". فتّش "اسفياتوغور" جيوبه الضخمة فعثر فيها على "ايليا" وحصانه فقال له : " من أنت ؟ " . فأجابه: " اسمي إيليا ، وكانت عندي رغبة بإبداء إعجابي للبطل ايسافتوغور ". : " ها أنا أمامك ، وهذه فرصة لنكون أصدقاء ، وستكون شاهدا على أفعالي العظيمة ". قبل إيليا مشكوراً ، واستعد للمشي إلى جانب صديقه العملاق . وبدأ ايسافوتوغور يعامله كأخ له ، يتقاسم معه الأكل والشراب من نفس الكأس . في يوم من الأيام كان البطلان يعدوان في المرج الشاسع فعثرا على تابوتٍ كبيرٍ جداً مغطى في كومة من الحبوب . توقف ايسافوتوغور يفكر ، وقال : " فلنفحص لمن كان ذلك معدا ؟ دخل إيليا أولاً ، لكن القبر الصخري كان كبيراً جداً بالنسبة لمقاسه ، فدخل ايساتفوغور في التابوت الغريب وكأنه كان معد اً لمقاسه العملاق . : " يبدوا انه معدٌ لي" ! _ قال ايسفاتوغور وأضاف_ : " يا إيليا !! يا صديقي وآخي !! هل بإمكانك وأنا هنا في جوف التابوت أن تغلق الغطاء ؟ ". : "لا يا أخي !! إني أخاف ذلك " ،أجاب ايليا . تدخل ايسافوتوغور واخذ الغطاء الحجري الضخم بإحدى يديه ، وعندما أطبقها أحكمت الجوانب واقفل التابوت بشكل كامل ، وعبثاً أخذ ايسافوتوغور يتحرك ، ويتلوى في الداخل . : " إيليا يا أخي العزيز !! خذ سيفي و حطّم جدران هذا القبر اللعين ". أخذ إيليا السلاح الفتاك ، وأفرغ ضرباته الجبارة على الحجر ، وهو يسمع زئير ايسافوتوغور يختنق في الجوف . أحس بان قوته تتضاعف ، فعاد وأخذ السيف وبدأ يضرب من جديد ، ومع الضربات القوية كانت تتطاير شظايا الصخرة والشرر من السيف . : " إني اختنق !! " ، زأر ايسافياتوغور : " تعال يا آليا يا أخي !! اقترب جيداً !! أريد قبل أن أموت أن الصق بك السر الرفيع لقوتي ". وأخذ صوت العملاق يضعف وكأنه يختنق . : "وداعا يا رفيقي لقد لصقت بك قوتي وسيفي الجبار". كانت هذه الكلمات الأخيرة ، وكانت آخر أنفاس العملاق الذي مات وهو يصارع الموت . وقف إيليا مستنداً إلى سيف ايسفاتوغور وسط صمت المرج الشاسع ، لكنه أحسّ بقوة جبارة ، تسري به ، فراح إلى جانب قبر صديقه ، وأخذ يدور حوله مرات ثلاثة ، ثمّ ودّعه ، وعاد في الطريق الى روسيا قاصدا قصر عمه "فلاديميري نور الشمس" أمير مدينة كييف ، وقد اكتسب إيليا القوة والشجاعة اللتين حملتاه إلى أن يحقق المآثر المدهشة مع مردة آخرين في قصص مثيرة . انضم إيليا إلى ستة من المردة وراحوا يمتطون خيولهم ، يعبرون الصحراء إلى أن وصلوا إلى سفح فيه أشجار بلوط قديمة ، ولأنهم كانوا متعبين جدا نزلوا إلى الأرض ، ونصبوا خيامهم ، واضطجعوا ليرتاحوا ، بينما راحت الخيول ترعى في الجانب . عندما أعلنت الشمس عن النهار بشفقها الأحمر نهض "ايليا موروميتس" ونظر إلى البعيد ، كانت مجموعة من التتار تحجب الأفق ، و تتقدم ، تلفها غيمة من الغبار، تغزو السهل، وكأنها إعصار عنيف . صرخ إيليا : " انهضوا أيها المردة !! فالتتار قادمون نحونا " , فنهضوا وحملوا سلاحهم وانطلقوا لمواجهة التتار ، وسرعان ما انتصروا عليهم . كان الأعداء المهزومون يملأون السهل ، بينما المردة يطلقون صرخات المنتصرين : " أية قوة يمكن مقارنتها بقوتنا؟ " . وصرخ "اليوشا بوبوفيتش" : "لا يوجد جيش يقدر على هزيمتنا !! ". وقال إيليا: " السيف الذي منحني إياه اسفياتوغور لا يُهزم ، لكن في تلك اللحظة وكأن الأرض انشقت وأنبثق منها محاربان مسربلان بمعادن تلمع ، واتجها نحو المردة قائلين: " جئنا لنمتحن قوتنا نحن اثنان وأنتم سبعة ، لكن لا يهم فلنتحارب !! ". امتلأ قلب "اليوشا بوبوفيتش" بالغضب ، امتشق سيفه وهجم على خصميه غريبي الشكل ، لكن آه منك أيتها المعجزة !! فعندما ضربهما "اليوشا" فقد تحولا إلى أربعة . جرّد "دوبينيا نيبريتش" سيفه ، وتقدم نحو الأربعة ووقف وسطهم ،لكن وللغرابة أيضا ، فلقد تحول الأربعة إلى ثمانية ، وأخذوا يتقدمون !!. قضى "ايليا موروميتس" بسيفه الجبار على الثمانية ، لكنهم تضاعفوا أيضا أمام دهشة واستغراب المردة .
وبعزم وبأس وغضب هجم السبعة سوية على أعدائهم ، لكنهم كلما قاتلوهم كانوا يتضاعفون !! . وطيلة أيام ثلاثة وثلاث دقائق وثلاث ثواني استمرت المعركة ، حتى خارت قوى المردة الأبطال ، واحتلهم الذعر فهربوا إلى الجبل لينجوا بأنفسهم ، وهناك تحولوا إلى حجارة وبقوا إلى الأبد وهكذا يروون عن نهاية الأبطال العمالقة في روسيا المقدسة .
بلاد الراين
الماء الصافي في أعالي الجبال ، والبحيرات السويسرية تتطاير مياهها في الأبراج سريعة ، وتجري فيما بعد صافية هادئة بين أدغال الغابات السوداء ، تغرق المياه في مسارها بين هوامش في صخور عالية ، مكللة بالآثار والقلاع التي تحكي عن شغل الناس في المدن القديمة وضواحيها ، ويستمر الماء بطيئا و عريضا نحو البحر عبر الأرياف الهولندية . في حوض الراين عاش سليلو قبائل الجرمان الذين أقاموا هناك أجيالاً وراء أجيال ، تركوا في ذاكرة حياتهم اجمل الحكايات .
الفارس الأخير
يقفز نهر “Aer " بين الصخور الكبيرة ، فيصقلها بمياهه ، وينحرف هادئا تحت ظلال الغابات المورقة . يجري في السهل يصعد في تدفقٍ جارفٍٍ ويدخل في وادي ضيق تحيطه الروابي. إحدى التلال القريبة من ضفاف النهر من منحنياته الصخرية والمتشظية تقبع عليها آثار قلعة التينار مغطاة بالنباتات المتسلقة . منذ سنين عدة هُجرت القلعة الرائعة ، والعرق البشري الأرجواني لمالكيها القدماء قد قُضي عليه في معركة مأساوية . كان الكورت دي التينار أخر سلالة العائلة النبيلة كان فارساً شجاعاً و محباً للحرية ، لم يسمح أبداً أن يفرض أحد عليه أي شيء لا يتلاءم مع كرامته و عزته ، في مرحلة كان الأمراء فيها يفرضون وبشدة الضرائب والخدمات لصالح الإقطاع والنبلاء . الفارس كورت اعترض وبقوة على ذلك الجور غير آبه بالتهديدات.وعندها بعث الأمراء جيشا كي يحاصر القلعة المتشامخة . أغلقوا بوابات الحصن ، و خاض كل الرجال مقاومةً بطولية . كانت السهام تصدر صفيراً ، وفي المجنبات المنحدرة كانت تتدحرج الصخور الكبيرة التي كانت تُقذف من الأعلى. والمحاصرون الذين تجرّأوا على الاختباء في الصخور ، أفادوا من تلك الصخور التي جعلت قفز المهاجمين مستحيلاً.
امتد الحصار عدة أسابيع ، وصار نقص الأكل في الحصن هو العدو الأكبر للمدافعين . "كورت التنار " رأى اقتراب اليوم الذي عليه توزيع آخر الخبز بين رجاله . وبعدها عليهم الاستسلام أو الهلاك . امتد الحصار من غير أن تهبط معنويات المحاصرين ، وفي العكس، يوم بعد يوم كانت الهمم تضعف عند الذين يحاولون الهجوم والدخول إلى الحصن أمام الصعوبات للسيطرة واخضاع تلك القلعة الحصينة التي كان وضعها يجعل محاولاتهم الهجومية ضربا من المستحيل . المدافعون كانوا شجعاناً ومستبسلين ، عندها أحسّ الأمراء بالرعب واليأس يتفشى بين رجالهم المحاربين ، فخشوا أن يندلع تمرداً بينهم بين لحظة وأخرى . بعض الخدم الإقطاعي اختفوا هاربين من تلك الحرب غير المفيدة والخطرة. والتمرد سينشر الفوضى وعدم التنظيم في الجيش الذي يفرض الحصار . وفي صباح دافئ ومشرق ظهر المسن كورت بشعره الأبيض فوق أعلى أبراج القلعة يمتطي خيله ومدجج بكل الأسلحة . المظهر النبيل للفارس، بوجهه الشاحب الذي يداعبه الهواء الطلق ، و بريق سلاحه الفولاذي وخيله الأسود المتألق ، كل ذلك كان يمنح الفارس الهيبة والسحر . فتثبـّتت كل النظرات عليه، و صمت الجميع حتى الوادي ظل صامتا في ذلك الصباح المشرق والدافئ!!
مدّ "الكورت التنار" ساعده في إشارة تحية وقال بصوت جهوري : : هنا الرجل الأخير !! والخيل الأخير !! لكل اللذين عاشوا في هذا القلعة الحصينة ! فلقد قضى الجوع على رجالي و أبنائي ! وقد ماتوا جميعا ، لكن بكرامة لأنهم يعشقون الحرية ، ويبغضون طغيانكم .. أنا أيضاً سأموت بالطريقة التي عشت فيها حرّا دائماً من كل العبودية كأي فارس حقيقي ". وعندما قال ذلك عند حافة البرج ، لكز خيله بمهمازه ، وأطلق صرخة على الحيوان النبيل الذي صهل صهلة غضب ، وانطلق إلى الفضاء بوثبة مخيفة . سقطت خيول من جهة المنحدر الصخري المتشظي ، وتدحرجت محطمة حتى غرقت في ماء النهر وإلى الأبد أمام الخيل الأخير لـ"التينار" . لم يتجرأ أي من المحاصرين على دخول الحصن الصامت للأبطال ، فرعب الميدان جعلهم يفرّون من ذلك الوادي المفزع . و هكذا استمرت القلعة حصنا أبياً و وحيداً طوال الوقت الذي غطى آثارها بوشاح من الحجر .
الطفلة العملاقة والفلاح
منذ زمن بعيد كان في تلك الحقبة الغابرة الناس تروي إنها رأت أشياء رائعة ، و كائنات غير طبيعية وغريبة . في تلك الأزمان يقولون انه في القلعة الكبيرة جداً في " نييدك " كانت عائلة من العمالقة . من القلعة لا يبقى الآن أي شيء أكثر من انقاضها واثارها ، لكن في القرية القادمة التي تجيىء بها ذاكرة السكان القدماء ، مع انّ الرجال يروون تواريخ مثيرة للفضول ، سمعوها عن آبائهم وأجدادهم ، ويحكون عن القوة والهياكل الضخمة لأولئك العمالقة الذين كانوا يصنعون حياة متقاعدة في تلك القلعة من دون التعامل مع الناس ، لكن دون أن يقوموا بأدنى فعل يضرّ ، رحيمين متسامحين و طباعهم حلوة . كلّ الناس يتذكرون أن ذلك الإقليم له سمة نبيلة وأصيلة ، من سمات القلاع القديمة في "نييديك"، وعندما يروي الفلاحون ذلك فإنهم يحكونه بعاطفة وعلى شرف ذكرى أسلافهم . يقولون : " إن الإبنة الوحيدة لملاّك القلعة ابتعدت في أحد الأيام ، تتمشى بين أشجار الصنوبر وكروم العنب حتى وصلت إلى هضبة قريبة لمركز حكم البلدة ، أي الى المكان الذي يمكن منه السيطرة علىالقرية ، حيث الوادي ينقسم إلى قطع من الإراضي الفلاحية . الطفلة العملاقة الطويلة مثل أعلى شجرة صنوبر توقفت لتنظر إلى بعض الكائنات الغريبة التي كانت تتحرك هناك في الأسفل ، ويقومون بحراثة الأرض .
تقدمت قليلاً فاكتشفت أنه كان رجلاً يحرث التراب بمحراثه المربوط بزوجين من العجول ، وخلال عدة دقائق راقبت الرجل بفضول وهو يحرث حقله . كان ذلك مجهولا وغريبا بالنسبة لها ، فصارت تنظر إليه كما ينظر الأطفال إلى تعذيب النمل في جحرها ، كان منظر تلك الهيئات المتحركة رائعاً وهم يصنعون في الأرض خطوطاً طويلة ومتقاربة فيما بينها . الطفلة العملاقة قفزت ، و وتطايرت من الفرح ، وملأت الوديان برذاذ قهقهاتها . الفلاح العامل توقف متعجباً ، والعجول جفلت ، وتوقفت مذعورة ، وقبل أن يأخذ الفلاح بالحسبان لما يجري اقتربت الطفلة نحو الرجل والعجول وأخذتهم وهي في هالة من الفرح كما لو كانوا دمى للأطفال . عادت إلى القلعة ، كانت سعيدة و ومبتهجة وهي تعرض لقيتها إلى والديها . : "انظروا! انظروا! ماذا عثرت !! لا توجد دمية أجمل من هذا أليس حقا إنها جميلة؟ ، إنها دمية حقيقية حيّة !! سترون كيف يتحركون ويصنعون خطوطاً مستقيمة و متقاربة !!". وبينما كانت تتكلم وضعت الفلاحين و زوجي العجول و نير الحراثة والمحراث على الطاولة الضخمة كمسرح الحفلات . و دفعتهم كي يبدؤا بالعمل . لكن الطفلة توقفت عن الكلام والضحك أمام النظرة القاسية لوالديها . العملاق صاحب اللحية الثلجية قال بحنان وجدية: " هل تعرفي جيداً ماذا أحضرت يا بنيتي؟ هل تعرفي ماذا فعلتي؟ ، هذا الذي تسميه دمية هو رجل فلاح ، لقد أرعبتيه عندما كان يشتغل !! واقتلعتيه من بين الفواكه ، الثمار التي تتغذين عليها وتجعل أهلك يواصلون الحياة!!فمن غيره ما كانت الحياة ممكنة لنا !! هذا العامل المسكين هو الأكثر نفعاً وفائدة من كل الرجال ، فالآخرون يمكنهم الحياة بفضل عمله ،وجهده هو الجهد الأكثر نبلا وعطاء ، فلا المطر و لا البرد ولا الشمس اللاهبة قادرون على إبعاده عن الأرض التي يحرثها ويحرسها بحب . كل عامل يستحق الاحترام , والفلاح هو أكثر الذين يعملون ، ليس دمية !!لا يا بنيتي !! هيا !! خذيهم بحذر شديد وبعناية الى نفس المكان الذي أحضرتيهم منه ، واحمهم من أي مكروه !! و لاتنسي أن من لايحترم و لا يحب الفلاح والذي يصنع من الفلاح ضحية لأنانيته فإنه بذلك يجلب اللعنات من السماء " .. الطفلة العملاقة وابنة العمالقة طلبت المعذرة ، وأخذت بانتباه كبير الفلاح و زوجي العجول ، وحملتهم يهتزون في راحة يدها ،وأعادتهم كي يحرثوا في أرضهم أثلاما جديدة ..
حكاية المحتال تيل
من حكاية شعبية قديمة في المانيا تروي مغامرات أحد المحتالين الذي عاش بين القرنين الثالث والرابع عشر ، والذي كتب عنه الروائي الفلامنكو كارلوس دي كوستير في 1876، وهو عمل يعتبر من أجمل نتاجات الروح الإنسانية. عن حكايات الفرح والمغامرات والبطولات لشخصية "ايولن شفيغيل" و " لام غويدزاك"* و حكاية تيل ايولن شفيغيل **..
كان "ايولون شبيغل" أحد اكبر المحتالين الذين يتفننون في الضحك على الناس وخداعها ومن الذين يحلوا لهم العيش من غير عمل و لا انشغالات أو مسؤوليات تحررهم من اكتشافهم وملاحقتهم بسبب أعمالهم وألآعيبهم السيئة . ولد تيل في قرية صغيرة في ساجونياSajonia ، شبّ سليماً معافى منيعاً ولم يتأخر في إعطاء إشارات حياة مكر ودهاء أدهشت كل من عرفه . كان عمره 14 سنة عندما انتقل مع عائلته للعيش في قرية قريبة من مدينة "مغديبورغ" إذ مات والده بعد فترة قصيرة ، ومن ذلك الوقت صار يتصارع مع امه لأنه كان يحصل على مبلغ من عمله ،لكن هكذا كان "تيل" جاهزاً للإطاعة والخنوع ، وليترك هواياته ، حبه للتعلم في القرقوز التي كان يصرف فيها أغلب وقته اليومي . ولأن الجزء الخلفي من بيته كان يطل على النهر فلقد ثبت تيل حبلا في شباك بيتهم وربطها إلى شجرة في الضفة الثانية للنهر. وعندما صار الحبل مشدوداً ومحكما جيداً ، قام تيل بالعبور عليه من طرف إلى طرف فتجمع ناس كثيرون، وصارت فرجة كبيرة مشاهدة الصبي وهو يرقص على الحبل بظرافة وخفة ويقفز . جاءت أمه وأرادت أن تبعد ابنها عن تلك الألاعيب ، فحذرته ، ثم ّصعدت إلى السدة وقصت الحبل المشدود إلى النافذة ، عندها سقط تيل في الماء ، وفي أثناء سقوطه كان يقوم بحركات دورانية في الهواء ، أمـّا الذين كانوا يتفرجون عليه من أطفال وكبار فلقد بدأوا يضحكون و يهزأون ويصيحون: " تيل !! حمّام الهنا !! بالتأكيد لن تشعر بالحر !! ولا بالرغبة في معاودة ذلك !! ". بعد أيام قليلة سرى خبر في أنحاء القرية أن تيل يستعد لإعادة ألعابه فرغب الجميع في أن يقضوا وقتا من الضحك والترفيه عن النفس ، فذهبوا ليشاهدوا المغامر المتهور ، ولم يقتصر الذهاب على الأطفال فقط إنما على رجال و نساء القرية . كان " تيل " يتوازن على الحبل بخفة وطرافة ، والجميع يتابعونه بأفواه مفتوحة وعيون جاحظة، وفي أثناء ذلك صرخ تيل: " دعوني أرى !! من يعيرني فردة حذائه اليسرى؟ سأقدم لكم لعبة مسلية جداً ". نزع جميع الأطفال أحذيتهم لأنم كانوا مبتهجين و مسحورين بتل جمع تيل أربعين إلى خمسين حذاء وشكّها و لظمها في حبل ، ثم رماها بين جموع الفضوليين وهو يقول: " لأرى إن كنتم جاهزين !! ليأخذ كل منكم حذاءه !!". تدافع الجميع في البحث عن أحذيتهم ، كان هناك أحذية كثيرة ، وبعجلة كانوا يريدون استردادها إذ بعد قليل صار هناك كومة من الناس يلعنون ، ويصرخون ويتضاربون . هرب " تيل" من شباك السدة وهو في غاية السعادة، ومن غير أن يفكر في العقاب الذي ستحضره أمه له طيلة أربعة أسابيع كانت بالنسبة له قرونا من الزمن ، خلالها ظلّ تيل محبوسا في البيت في غرفة مظلمة ، وعندما خرج من حبسه ليأخذ من الحرية ما سلبوه منها ، قرر أن يجول العالم مقتنعا أن القرية صارت صغيرة على مغامراته ، وهذا ما فعله بعد أن ترك ذكرى طيبة من مسخراته و إساءاته في أماكن عدة . اتجه نحو إمارة "Anhalt " حيث ضمّه الأمير إلى خدمته ، ووضعه كحارس في برج مراقبة القلعة . وفي يوم من الأيام نسي الخدم أن يأخذوا أكلا له ، وفي اليوم نفسه تسللت قوى معادية إلى الزريبة الخلفية للقلعة ، وسرقوا كمية كبيرة من الماشية . واصل "تيل" في مكانه ما كان يعمل به ، ومن غير أية نية بأن يعطي إشارة صافرة إنذار. لكن الأمير و رجاله المحاربين تمكنوا من صدّ اللصوص ، وأنقذوا المسروقات كلها ، وعند عودتهم الى القلعة توجه الأمير نحو تيل، الذي كان يسترق النظرات من خلف النافذة فقال تيل له: " معاليك !! إن معدتي خاوية وخفت أن انفخ في القرن الذي أعطيتني لأنه يصدر صوتاً قوياً وعلى معدة خاوية فإنه يسبب لي طنيناً مؤلماً " . ذهب الأمير و الفرسان لتناول الطعام على طاولة كبيرة وعامرة ، تمت إقامتها للاحتفال بالنصر ، وبينما هم منهمكين بتناول ألذّ المأكولات وأطيب الأطباق ، أطلق تيل الإشارات الثلاث من صافرة الإنذار وعند سماعها نهض الجميع !! لأخذ أسلحتهم تاركين المطعم خالياً ، وأطياب الأكل على الطاولات ، عندئذ لم يكن صعباً على تيل نيل مراده ، لهذا هبط من برجه بقفزات صامتة ، وعبّأ قسماً من تلك الطبخات والمأكولات اللذيذة في أكياس وفي جيوبه وعاد بهدوء إلى مكانه . تلوّن وجه الأمير عندما أحس بخديعة الصافرة ، فطرد الوغد المكّار ، والذي مشى في الحال ، وعندما شعر بالتعب قرر شراء حصان ، وفي السوق عثر على حصان رخيص ، لأنه كان كبيراً في السن و قد أسيئت معاملته ، لكن صاحبه الحوذي كان نبيهاً وسريعَ الفطنة ، يريد بيعه بالغش والحيلة فطلب 24 فلورين*** . فقال تيل له : "سأدفع لك الآن 12 فلورين ، و يبقى تطلبني 12 فلورين ". وافق الحوذي ، فدفع تيل اثنى عشر فلورين وأصبح مالكاً للحصان. وبعد ثلاثة شهور أراد الحوذي ان يقبض الباقي الذي وعده تيل به ، فردّ تيل عليه وكأنه يستغرب: " ألم نتفق على أن يبقى ذلك المبلغ دينا؟ لهذا بالضبط لا يجب عليّ دفعه ".!! غضب الحوذي ، وتجادل الاثنان ، ثم ذهبا إلى القاضي ، وأم
ضع تعليقك ://///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////// |
| |
New Life الخميس 2 يونيو 2011 - 1:12 | | حكايـات وأساطير عالمية . لعنة الخبز
قبل مئات السنين كانت "ستافورن/Stavoren" أغنى المدن التجارية في هولندا .كان ميناؤها غابة دائمة بالصواري والمراكب المحملة بشباك الصيادين ، ومن هناك كانت تنطلق السفن التي تجوب كل البحار ، وتعود محملة بالمنتجات الأكثر جمالاً والأغلى من كل البلدان . كانت خيرات "ستافورن" تنمو ، وكذلك تزداد القصور من المرمر المزين بالذهب. إلى جانب ذلك كان في المدينة ناس فقراء ، بينما عدد الأغنياء المتكبرين كان كبيراً كانوا يبعثرون ثرواتهم في حفلات فاخرة يأكل فيها الغرور والشهوات . من بين أولئك التجار الأغنياء في ستافورن لم يكن أحدهم اكثر ثراءً وسطوة من الشابة "ريشبيرتا/Richberta " كانت قطع أسطولها التجاري كبيرة العدد ، تمخر بحار العالم ، وتعود محملة بالماس والمجوهرات والذهب من أراض بعيدة . كانت ثروة "ريتشبيرتا" لا تحصى ، فقصرها كان الأكثر جمالاً في ستافورين ، وملابسها كانت مشكشكة بالأحجار الكريمة الرائعة ، وفي الحفلات كانت تستعرضها كلها ببريقها الكبير الذي كان يثير دهشة المدعوين ، وفي الاحتفالات الكبرى لم تغب ألذ المأكولات وأغلاها واندرها . وهكذا كانت تنمو كنوز ريتشبيرتا كما نما غرورها وازدراؤها للناس الفقراء المساكين . في أحد الأيام وفي حفلة عشاء حضرها عدد كبير من المدعوين ، حضر رجل مسن قال إنه جاء من بلاد بعيدة ، و يريد أن يقدم إعجابه بثروات ريتشابرتا التي سمع عنها في محافل الملوك الأكثر جبروتاً .
وهي تكاد تطير من ذلك المديح رجت ريتشيل من الرجل الأجنبي أن يجلس إلى طاولتها . كان الرجل الغريب يلبس على الطريقة الشرقية، ويظهر إحساسا بالكرامة والنبل عبر حركاته وإيماءاته ، وفي عينيه كان يخفي نظرات ثابتة فيها طاقة الشباب . وعند اقترابه من ريتشبيرتا كان ينتظر أن يرى في يدها الخبز والملح الذي يقدم في بلده الى الزائر الضيف في إشارة للترحيب والضيافة ، لكن على تلك الطاولة المليئة بألذ الطعام و أكثره ندرة لم يكن هناك خبز .!! كلّ شيء كان متوفراً حتى الورود والزجاج ماعدا غذاء الفقراء والمساكين. جلس الضيف إلى الطاولة ، وفي نهاية العشاء حكى عن حياته الجوالة بين كل بلدان العالم ، تحدث عن أراضٍ بعيدة ورائعة ، وعن عادات شعوب الشرق ، وعن مغامراته الشخصية في الرحلات الطويلة تحدث عن أفراحه وأحزانه بين الناس الفقيرة والناس الثرية ، وعن الأراضي الخصبة الطيبة ، وعن استحالة السعادة البشرية . كل الذين كانوا يأكلون على المائدة كانوا مهتمين بالروايات التذكارية للضيف الغريب . كلهم ما عدا ريتشبيرتا فلقد كانت تنتظر سماع المدائح فقط عن ثرواتها . فعندما تحدث المسافر عن المحافل الفاخرة للملوك ، قارن قصورهم و كنوزهم بما تملك ريتشبيرتا ، لكنها تفاجات عندما قال :إنه لا يجد على الطاولة الضخمة للدعوة ذلك الشيء الذي يقدره كل العالم كأفضل واكثر ضرورة من كل الخيرات . ولم يقل الأجنبي أكثر من ذلك ، وعبثا كان سؤالها وإلحاحها في أن يفسر معاني كلامه ، لكنه سرعان ما حيّاها باحترام ومضى دون أن يعرف أحد عنه أي شيء .
المتعجرفة ريتشبيرتا لم تقو على مقاومة معاناة الحيرة تلك، فلقد كانت تملك كل الأشياء التي تمنتها ، و قصرها كان مليئاً بكل الأغراض الثمينة ومن كل الثروات وأطياب أكل الأرض والبحار ، فما هو الشيء الذي كان ينقص؟ والذي يعتبر أفضل كل الخيرات؟ حاول حكماء كثيرون و منجمون اكتشاف اللغز ، وكانت ريتشبيرتا تفقد الصبر ، وهي مصرّة على أن تعثر على ذلك الخير الكبير ، ولذلك أمرت أن ينطلق أسطولها في البحر .. وأن لا يعود إلاّ وقد استطلع كل البحار وكل اليابسة.. نفخت الريح أشرعة مائة مركب لرحلات طويلة ، وتشققت قبعات البحارين ، وامتزجت مياه البحر الأجاج بالمؤونة المخزونة، فأتلف الملح كميات الخبز وأكياس الطحين . لقد نفدت كمية النبيذ الفاخرة والأسماك واللحوم المقددة بالملح ، وصار نقص الخبز معاناة لا تطاق فطلب ربان البحارة أن يعود إلى الميناء الأكثر قرباً من أجل الحصول على الطحين ، وعندها عرف قبطان الأسطول ما هو الشيء الأفضل بين كل الخيرات .. لم يكن الذهب أو عطور الشرق ولا البهارات الطيبة الفاخرة و لا اللألىء في أعماق البحر . كان ذلك هو الخبز.. خبز كلّ يوم.. غذاء الفقراء والأغنياء.. لقد تم اكتشاف اللغز في كلام ذلك الغريب الذي قاله في الحفلة الكبيرة.. ومع هذه الأفكار اتجه الربان مباشرة نحو ميناء البلطيق ،فحمّل سفنه بحبوب القمح القوية والمذهبة وعاد سعيداً منتشيا إلى ستافورين .
: " سيدتي ريتشبيرتا !!هنا أحضر شحنة من الكنز الثمين!! انه الخبز !!انه ما كان ينقص على الطاولة!! اسمعي كيف وصلت لاكتشاف ما كان يفكر فيه ذلك المسافر الغريب . تركت ريتشبيرتا القبطان يتكلم وصاحت بحالة من الغضب: " اسمع جيداً ما آمرك به!! حضّر رجالك !! وقبل أن يحلّ الليل يجب على شحنتك الغبية أن تلقى في البحر !! ". وعبثاً كان احتجاجه ومحاولته للتوضيح ، وعبثا توسل ريتشبيرتا أن لا تدمر ثروة يمكنها أن تنهي بؤس ومجاعة فقراء المدينة ، لكن الشحنة الثمينة أُلقي بها إلى البحر على مرأى حشودٍ من الجائعين، كانت تلعن ريتشبيرتا وجبروتها وإساءاتها .. الكمية الهائلة من الحبوب الذهبية اختلطت في البحر مع طمي القاع ، وبعد فترة لا بأس بها بدأت تنمو هياكل مستقيمة وصلبة وأخذت تنمو وتنمو بقوة ، ارتفعت من أعماق البحر بصخب مرعب أكوام من الرمال والطمي التي امتزجت بين غابة كثيفة من القصب ، فتشكل بذلك ارتفاعات كبيرة كالروابي ، لقد نما القمح حتى سطح الماء ، وشكّـل أمام ستافورن حاجزا لا يمكن تفتيته . إلى الميناء الرائع في "زويدرز/Zuiderzee " عاد البحارة و داروا ولفوا أياما وليالي دون أن يقدروا عبور ذلك الجدار المائي ، ورويداً رويداً بدأت الأمواج تتحطم على سور الطحين ، و فقدت ستافورن بشكل سريع ثرواتها وقوتها . هاج البحر وهدر، يرغي زبده الأبيض أمام المياه الهادئة في الميناء القديم .
وبعد زمن لا بأس فيه جاءت ليلة عاصفة ، وحطمت بقوة الحاجز فوصلت المياه إلى المدينة تسحبها و تجرجرها حتى الأعماق على ألواح من القمح البحري ، وغمرت مياه زويدرزي الوادي العريض حيث كانت ستافيرو . وفي أيام الهدوء يقترب البحارة بحذر من مقدمات سفنهم ، لينظروا إلى الأسفل ، إلى المياه الشفافة ويروا الأجراس العالية والأبراج والقصور في المدينة المغمورة بالماء .
اسكندنافيا
من القمم والذروات العالية المغطاة بالثلج تندفع السيول حتى الشواطئ النرويجية ، وتصب في خلجان عريضة و عميقة . ومن أعلى الذروات الثلجية تأتي السيول والأنهار إلى مسطحات السهول السويدية وتستقر في البحيرات التي لا تحصى حول أشجار التنوب والصنوبر والبتول في الغابات العملاقة . الرجل الاسكندنافي رجل قوي شجاع وجاد ، ويحب العمل . يروي عن أسلافه "الفايكونغ" البحارين العريقين في ركوب البحر ومكتشفي البحار و مكتشفي أراضٍ، وخالقي ميثيولوجيات أثـّرت في الحكايات والأساطير وفن شعوب أوروبا .
الملك الذي جاء من البحار
قبل زمن بعيد كانت الأساطيل الجبارة للفايكونغ تعبر بحار الشمال ، تتحدى مغامرات الحرب والغزو . في ذلك الزمن كانت الجزر البريطانية الصغيرة ملاجئ و حصوناً لأولئك الأفظاظ و محترفي القتال المغامرين ،الذين كانوا يصلون الخلجان ، و ينهبون الشعوب والمدن الساحلية . في ذلك الوقت لم يكن للدانيمارك ملك ولا حكومة ، وفي الحرب المستمرة مع الفايكونغ اعتاد الأسياد على النهب والفظائع واستعبدوا الفلاحين وصيادي الأسماك في تلك البلاد . في أحد الأيام لاحظ الناس على الشاطئ ظهور شيء يتقدم مثل الظلال و ملتف في سلسلة غيوم بحرية ، لقد كانت سفينة هائلة تأتي من بحار الشمال . السفينة كانت تتقدم شيئا فشيئا منتفخة أشرعتها المربعة والفاتحة اللون ، وتكشف عن مزخرفات و منحوتات خشبية في مقدمة السفينة ، ثم بدأ يظهر رأس ضخم لتنين بلون احمر والشراع العريض مثل القبعة السحرية بثنياتها وطيّاتها . الصيادون شاهدوها مذهولين وهي تبرز من بين الضباب مزركشة بالزينة والمرايا ، وتتقدم تلك السفينة الشبح بصمت حتى ارتطمت بالرمل . ابتعدوا جميعهم ، وأخذوا ينظرون من بعيد، فلم يشاهدوا أحداً على السفينة اللغز ولم يسمعوا صرخة أو صوتاً .
ومن الأراضي القريبة من الساحل جاء الرجال ، وقد تركوا حراثتهم و قطعان ماشيتهم و الشباك والقوارب الصغيرة البحرية لقد تركوا كل شيء وجاءوا ليروا سفينة جبارة ، فأبداً لم يخرج من البحر شيء مثيل من بين الضباب وكل هذا الصمت!! لم يجرؤ أحد على الاقتراب ، وفي الليل اجتمعوا كلهم ، وتحدثوا برعب وخوف. هل كان عليهم الهرب ؟هل كانت تلك السفينة محملة بالأعداء المسلحين جيداً ؟ هل هي سفينة للفايكونغ الذين لن يتأخروا بالخروج وسرقة وحرق القرى الفقيرة؟؟ اخذوا يرقبون وهم يخشون الخطر ، فلم ينم أحد في تلك الليلة ، وفي اليوم التالي عند الفجر ظهر محاربون كثيرون في السهل ، جاءوا ملتفين بغيوم من الغبار الذي تحدثه خيولهم مع وقع حوافرها القوية . جاءوا تلمع قبعاتهم ودروعهم وأسلحتهم ليقاتلوا ضد السفينة الغريبة للفايكونغ. كان الأسياد يرسلون الجيوش المؤلفة من رجال لهم عضلات مفتولة وعاريين ، و لونهم أحمر ، وشعرهم طويل، و بملامح وهيئات متوحشة ووجوه محزوزة و مليئة بآثار جراح عميقة . توقف المحاربون قريبا من السفينة الغريبة مذعورين أمام الزركشة الرائعة للقبعة والتنين في مقدمة السفينة ، وقد ألبسوه شرائح من ذهب و بعينين واسعتين و ملونتين براقتين . صار ينظر أحدهم إلى الآخر ويتساءلون: " يا ترى من أي مكان قد جاءت هذه السفينة الرائعة الجبارة؟ هل وصلت من أراضي الـ"ساجوناس" من السويد؟ أم من مناطق الغرب الهجينة؟من هم؟ وماذا يبتغي ركابها ؟ ولماذا يختبئون؟ هل وجدوا أنفسهم مجبرين من قبل الرياح إلى الوصول إلى هنا ؟ وهم خائفون الآن من أن يجدوا خصوماً أقوياء و أشداء!! ". بعض المتهورين اقتربوا من السفينة ، وهم في حالة احتراس، وصاحوا : كان من كان هناك !! أطلـّوا بوجوهكم !! هيا للقتال للقاء رجال الدانمارك !! انزلوا !! فالرمل ميدان جيد و يمتص الدم من الجراح !! تعالوا فملامح الفايكونغ لا تخيفنا!! ومن المركب لم يجب أحد ، فهاج المحاربون الدانمركيون وبدأ بعضهم يطلق السهام ، وامتشق آخرون الفؤوس ، ووثبوا إلى السفينة ، وهم يطلقون صيحات الحرب. لكن في السفينة لم يكن هناك أعداء ، إنما إلى جانب الصارية وفوق سجادة وثيرة وسميكة من الحرير كان وحيدا و مضطجعا على حزمة حطب مذهب ، ينام طفل صغير وعاري تقريبا وحول ذلك أكوام تبرق مثل غنائم مغامرة فاتنة : أسلحة من ذهب! أسلحة مصقولة!خناجر بقبضات من المرمر! وأحجار صوان مزركشة !وأسنان ذئاب! دروع ضخمة! و منحوتات من البرونز بمزخرفات مذهبة !قطع من الأحجار الكريمة! قبعات تبرق وعليها أجنحة من ذهب! وغوايش من الأحجار الكريمة! و سهام! وقرون حيوان الوعل ملبسة بقشور عرق اللؤلؤ! والفولاذ المسنن مثل ورقة الصفصاف! أبواق وقرون من العاج مليئة بالمجوهرات !أكواب! كؤوس! وجرار منقوش عليها !و عقود من زمرد وطوباز! والحرير! والطلاء! وأمام ذلك الكنز نحّى المحاربون أسلحتهم جانبا وبدأوا يتأملون الطفل المضطجع على حزمة حطب مذهب .
فاعتقدوا أن الآلهة أرسلت تلك السفينة كإشارة للخير والسلام . وبالزنود القوية للمحاربين الأشداء رفعوا الطفل وحملوه كشارة نصر بين الحشود المتجمهرة والتي تصيح مبتهجة ، وأمام مجلس السادة تم إعلان من أرسلته الآلهة ملكاً للدينمارك ، الطفل الذي جاء من البحر محاطا بالدروع لهذا سيكون الدرع المستقبلي في الدفاع عن البلاد ،وتم إطلاق كلمة " Skiodسكويد " أي "درع" على الطفل كاسم له . لقد توافقت قوة وشجاعة ونبل "سكويد " مع آمال الشعب ، فلما صار شاباً أصبح واحداً من أشجع الصيادين ، وفي أحد الأيام وبينما كان ذاهبا مع حشمه ضاع في الغابة، فهاجمه دب ضخم ،لكن "Skiod " لم يهرب ،إنما صارع الوحش جسما لجسم، وسيطر عليه ، بل هزمه ثم ربطه بقوة ، حتى وصل رفاقه وفي الخامسة عشرة من عمره تقدم الجيش وهزم الساجونيس ، وهناك في ميدان المعركة انهزم قائدهم ، وفيما بعد تزوج " سكويد" من ابنة ملك المهزومين، فكان طوال حياته مثالاً للنبل ، طيباً وعادلاً شديد البأس على الأعداء و رحيماً وكريماً على رعيته ، كانت أحكامه قويمة وصارمة سواء على القوي كما على الضعيف والمسكين ، لقد خصص حياته الطويلة لخدمة بلاده، وعندما شعر بأن حياته بدأت تنتهي، استدعى نبلاء مجلسه وقال لهم : " انظروا يا أبنائي ..عندما تُغْلقُ عيناي والى الأبد.. خذوا جسمي إلى شاطئ البحر... فهناك في لسان الخليج لا يزال المركب راسياً ... المركب الذي أحضرني وأنا طفل ... ضعوني فيه.. وانصبوا الأشرعة واتركوه للبحر وللرياح.. أريد أن أرحل بالشكل الذي جئت فيه.. لقد أتممت مهمتي.. فمن بلدٍ بائسٍ و منقسمٍ على نفسه جعلت منه بلداً موحداً و سعيداً مات الملك Skiot" وقد كفنوا جسده بثياب ثمينة ومعطرة ،و وضعوا له إكليلاً حقيقياً ، وفي الخصر السيف المنتصر ، ثم رفعه رجاله المحاربون بزهوٍ بين الحشود التي كانت تبكي ملكها ، وأخذوه إلى البحر ، إلى السفينة وأشرعتها القرمزية والقبعة المطلية والبراقة.. هناك بالقرب من الصارية وضعوا جسم الملك الحكيم ، وجاء الناس من كل حدب وصوب من القرى والبلدات يحملون الهدايا الثمينة، نساء ومحاربون ونبلاء وناس بسطاء وفقراء كلهم احضروا أغلى ما عندهم من ثرواتهم ومما يحتفظون به من الأسلحة الفاخرة التي غنموها في المعارك، ومن العقود والخواتم و من الأحجار الكريمة ومن صناديق وخزنات مليئة بالحلي و قطع نقود ذهبية وقبعات ودروع وفؤوس وأبواق وقرون من الياقوت وكؤوس كبيرة وصواني من الفضة مليئة بالأحجار الكريمة وكل شيء . لقد جمعوا كنزاً حول جثمان الملك ،ووضعوا في يده سهم الحرب ، وتحت رأسه حزمة من السنابل التي تم قطعها حديثا .. كل الشعب كان ينظر ، وأجواء الفجيعة تلف الصمت وأخيرا تم حل الشراع القرمزي اللون ، وآلاف الزنود القوية دفعت السفينة الراسية على الرمال و رويداً رويداً بدأت الأمواج تهزها و تبعدها عن الشاطئ . في الصباح المعتم بالضباب أبحرت السفينة الجبارة ، سفينة الملك “ Skiot ، وراحت تبتعد مثل الظلال باتجاه بحار مجهولة ، حيث كانت الآلهة قد أرسلتها ,واختفت في الأفق مغطاة بضباب كثيف .
كيف تشكلت جزيرة دي سييلاند*
قبل زمن بعيد كان الملك الرحيم "غيلفواGylfwa /" يقيم مجلسه في"أوبسالا /Upsala "، المدينة القديمة المحاطة بقبور الملوك الوثنيين كانت أراضي المملكة واسعة خضراء كثيفة الغابات ، وتحت سلطته توسعت كثيراً إلى أبعد من الأفق الذي يُرى من الأبراج العالية للقلعة، لأنه لم يكن ممكناً الوصول إلى نهايتها عبر رحلات من ركوب الخيل . عاش الملك الشائخ وبشعر مثلج ليتأمل ويحكم مملكته ، ولم يكن يُعرف شيئ عن عائلته ، وربما لم يكن له عائلة أو انه كان يفضل الوحدة . في المجلس كانت تعيش شابة فاتنة الجمال ، إذ كان الشيخ غيلفوا يداعبها ، كأنها ابنته وكان اسمها "غيلفيون /Gelfion" الرائعة بيضاء وشقراء بل انها تشبه أميرات الحكايات والأساطير. كانت حياة "غيلفيون" يلفها غموض مبهم ، فالبعض يظن أنها كانت ابنة الملك ، و آخرون كانوا يقولون: إن المسن "غيلفوا " تبنـّاها من طفولتها ، وآخرون كثيرون كانوا يؤكدون أن أمها كانت ابنة لأحد العمالقة أصدقاء ملك الجبال العظيم . كانت غيفلون فاتنة الجمال بشكل مذهل ، فصوتها عذب حلو، وفي أعماق عينيها الشفافتين يتوهج ضوء النظرات الغريبة، التي تكاد تشبه نظرات الآلهة . في ذلك الوقت كان يحكم الدينمارك الملك "أودين،Odin" ، وله ابن رائع وشجاع هو الأمير"سكيولد، Skiold" والذي وصل فجأة إلى مجلس "غيلفوا" مجذوبا بسمعة غيفليون الفاتنة الجمال ، ولما رآها سكولد صار مثل المسحور من روعة غيفليون التي وقعت بحبه أيضا . كان المسن غيفلوا ينتظر اليوم الذي سيفصله عن غيفلون بالحزن والألم ، لكنه أخفى حزنه ، وداعب الضفيرتين المذهبتين لشعر الشابة وقال: " غيفلون !! بنيتي !! سأكون محظوظاً وسأموت مطمئناً عندما أراك سعيدة.. فلترع الآلهة زواجك.. أريد الآن أن أقدم لك الأعطيات التي طالما تمنيتيها ". :"ملكي غيلفوا _ أجابت غيفلون_ سأشعر بحزن عميق عند مفارقتي لك ، فأنا أحب بلدي كثيراً .. ولن أطلب منك شيئاً أكثر من سماحك لي أن آخذ حفنة من تراب السويد إلى بلدي الجديد ..فإن شئت احصل لي على حفنة من التراب يمكن لرجل أن يحرثها في لحظة و من غير تعب " . :" حسنا يا غيفلون _ قال الملك _ فليكن كما تشائين " . ونادي على حرّاث قوي ولا يتعب . اختفت غيلون من القصر ،فلقد ذهبت إلى الجبل ، حيث كانت أمها قد خرجت من هناك ، وبانقضاء عدة أيام عادت يرافقها رجل حرّاث ، وكان عملاقا ، جاء معه أبناؤه الأربعة ، وهم عمالقة أيضاً ، كانوا يحملون محراثاً ضخماً يجعل الأرض تهتز، وكي يمكنه بسط المحراث ، فلقد أحضر أبناءه الأربعة . حمل العملاق المحراث وغرس السكة في الأرض، وضغط فوصلت إلى الأعماق . طحنت الصخر الحيّ بينما العمالقة الأربعة الآخرون كانوا يدفعون مقود الحراثة بقوة قادرة على اقتلاع أضخم أشجار البتول . بدأت الأرض تنفطر بين غيوم من الغبار وكسرات حجارة متطايرة ، وظهرت الأثلام عميقة وعميقة مثل الأخاديد ، فلقد اشتغل العمالقة دون تعب ، أطالوا الأثلام حتى كادت تختفي في الأفق . وأخيراً بانتهاء اليوم كانت قطعة من أرض السويد قد قـٌطعت ، وكانت غيفيلون سعيدة بذلك . :" أيها الملك غيلفوا أنظر !! سآخذ إلى بلدي الجديد هذه الأرض التي رأتها عيناك وداستها أقدامك ". اكتفى الملك المسن بالنظرات - وهو يدمع- إلى فرحة غيفليون . وعادت الشابة العذراء إلى ملك الجبال ،وفي إحدى الليالي رجعت ، يرافقها عددٌ كبيرٌ من العمالقة ، الذين رفعوا قطعة الأرض الشاسعة المحروثة والمهيـّأة ، والتي تم اقتطاعها ، ثم سحبوها حتى البحر، وهناك رفعها العمالقة ومضوا بها كأنها سفينة هائلة تسيـّرها ذراع العذراء الممدودة ، وهي تؤشر وجهتهم وفي المياه المظلمة والعميق بين الدينمارك والسويد وضع العمالقة قطعة الأرض بقوة بحيث استقرت صماء و بلا حراك . هكذا يروون كيف ظهرت جزيرة سيلاند الخصبة والرائعة . وهناك في منطقة "أوبسالا" ، حيث تم اقتلاع الجزيرة فلقد ملأت الأنهار الحفرة الضخمة ، وشكلت بحيرة ميلارMelar المرآة الكبيرة من الماء والتي أبقتها غيفليون ، كي تكون قطعة من سماء السويد هناك مقابل الأرض التي أخذتها .
* De see land
عبقرية الناس البسطاء
كان رجل وزوجته وهما مسنان بالعمر و فقيران ، يعيشان سعيدين ومتاحبين ومستعدان دائما أن يجد كل واحد منهم عمل الآخر عملاً رائعاً ، وأن يـُظهر الموافقة على أفعاله بوجهٍ فرح . كانا يسكنان كوخاً بسيطاً ، وكان لديهما حصان لا يزال قوياً بعد ..وكانا يعيرانه للجيران في القرية دائما إذ كان بعضهم يحتاجونه لحراثة أرضهم أو للمساعدة في نقل الأعشاب في موسم الحصاد . وفي مقابل هذه الأفضال ، كان العجوزان يتلقيان بعض قطع اللحم من الذبائح التي تقدم للقديس "سانت مارتين" ، وفي الصيف بعض الهدايا من الأسواق التي كانت تقام في القرى المجاورة وهكذا كانا يمضيان حياتهما سعداء و فرحين ،لا يحسدان ثروات الآخرين . في يوم من الأيام أقيم سوق في القرية المجاورة فقال العجوز لزوجته: : "ما رأيك لو أنني بعت الحصان في السوق ؟ فنحن عجوزان ، وقد نحتاج يوماً ما إلى بعض الإدخار ليساعدنا ، وعند ذلك إذا أردنا أن نبيع حصاننا فإنهم لن يدفعوا لنا السعر الحقيقي لما يستحق " . : "يبدوا أنك قد حسبتها جيداً ، إنها فكرة عظيمة "، قالت الزوجة وقامت تحضر الثياب الجديدة لزوجها .
امتطى العجوز حصانه ، واتجه نحو السوق ، و مع أنه لم يبتعد كثيراً عن القرية فلقد تقاطع في الطريق مع شاب يسوق بقرة ليست كبيرة وليست سمينة ، لكن شعرها كان براقاً والقرون قوية جداً ، توقف العجوز لينظر إلى الحيوان الجميل ، وفي نفس الوقت سأل: " اسمع أيها الشاب !! هل تدر هذه البقرة كثيراً من الحليب؟ ". :" خمس ليترات تقريباً.. هذا ما يحلو لها كلما حلبتها ، ويمكن حلبها مرتين وثلاث في اليوم إذا وضعت لها البرسيم جيداً ". :" البرسيم لن ينقصها فهو عندي- قال العجوز- أريد أن نقوم بمبادلة ، أعطيك حصاني وأنت تعطيني البقرة ، ستكون زوجتي سعيدة بذلك ، إذ يمكنها أن تصنع الجبن والزبدة ، ويمكننا تناول مقداراً كبيراً من الحليب " . وافق الشاب ، وتابع العجوز طريقه مع البقرة ، وهكذا كان يتسلى برؤية البقرة ة، تأكل العشب الطري من المرج عندما التقى بشاب له عضلات مفتولة ، مكنته أن يجعل خنزيراً بديناً وثقيلاً يمشي إلى السوق !! . توقف الرجل الطيب معجباً بتدويرة أنف الخنزير ، وسأل الشاب : " كم يمكن أن يزن ؟ وكم حلقة من السجق والنقانق يمكن أن يعطي مع حلول موسم الذبح ؟ " : "آه!!عن هذا لا يمكنا الحديث ، فليس سهلاً إجراء الحسابات ، لكن بالتأكيد لن يكون ثانٍ مثله في كل السوق ، إنه خنزير حصل على ميدالية في إحدى المسابقات ". : " ميدالية؟- قال العجوز- اسمع أيها الفتى !! أريد أن أزف السعادة إلى زوجتي ، فهي ستكون فخورة لو إنها امتلكت هذا الحيوان صاحب الميدالية في السباق ، هل ترغب بمبادلتي به بالبقرة؟ " . فكر الشاب للحظة ، وبعدها وافق على المبادلة ، ثم ابتعد سريعاًَ مع البقرة قبل أن يندم العجوز . ولم يمض على ذهابه سوى مائة متر ، حتى صار يتوقف كل دقيقة بسبب المشية البطيئة والثقيلة للخنزير ، وعندما مرّ بالقرب من شاب يحمل بين ذراعيه وزّة رائعة بريش يلمع بيضاء و كبيرة مثل البجعة . بقي العجوز الفلاح مندهشاً يفكر في ليالي الشتاء الباردة ، ليالي الثلج والأعاصير ، فكّر في زوجته وهي ترتجف في الفراش من غير أن يكون هناك لحاف دافئ وناعم ، فسأل في الحال: : "اسمع أيها الشاب !! هل تقبل بمبادلتي هذه الوزة بهذا الخنزير ؟ وستخرج أنت الرابح ، وأنا ساكون سعيداً جداً " . ومع أن الشاب استغرب لوقت طويل من هذا الاقتراح ، فلقد قرر وتمت المبادلة . واصل القروي طريقه والوزة الجميلة بين ذراعيه ، وقبل أن يصل إلى السوق صادف امرأة تنقل على رأسه سلة ، فيها أعشابٌ كثيرة ، وبينها يمكن رؤية دجاجة كبيرة سمينة و عريضة لها رجلان قصيرتان وريش نظيف . كانت شابة شقراء مثل السنابل ، رشيقةٌ بخدودٍ مدورةٍ وزهريةٍ ونظرةٍ زرقاء لطيفة ، توقف العجوز للتحدث معها ، وعندما شاهد الدجاجة التي كانت تحملها ، بدأ يسألها إذا كانت بيـّاضة جيدة ؟ وإذا كانت تأكل كثيراً ؟ و كم تأكل ؟ فأجابته الفتاة : " إن هذه الدجاجة جيدة جداً ، ولا تخلف عادتها في وضع بيضة كلّ يوم ، و بما يخص الأكل ، فإنها تكون سعيدة تكتفي بالفتات الذي يسقط عن الطاولة وبقليل من عشب الحديقة أن وجد ." نسي الرجل الطيب ما كان قد توهّم به من قبل ،فبادل الوزة بالدجاجة ، وهو يفكر بسعادة زوجته عندما تأخذ البيضات وتخبئها ،وتعتني بالصيصان التي ستفقص لأول مرة . وهكذا وصل إلى السوق ، وذهب مباشرة إلى نُـزلٍ صغير يمكنه أن يرتاح فيه ، ويشرب كأساً من المنعشات ، وبعد قليل جاء ليجلس إلى جانبه قرويٌ ، كان يحضر كيساً كبيراً يحمله على الأكتاف ، وعند وصوله قال العجوز له : " أهلا أيها الصديق !! ماذا تحضر في كيس الجوال هذا الممتلئ والثقيل؟ ". : "لا !! ليس أكثر من تفاح براوة مما يتساقط من الأشجار، أجاب القروي ، وستكون غذاء جيدا لخنازيرنا " . :" وهل كل الكيس ممتلئ بتفاح براوة؟ انظر يا صاحبي سأقترح عليك شيئاً : إذا أعطيتني كيس التفاح هذا !! أعطيك بديلاً عنه هذه الدجاجة الرائعة !! عندي رغبة بأن أقدم لزوجتي مفاجأة لطيفة ، ففي حقلنا لا يوجد غير شجرة تفاح واحدة ، وكل ما تعطيه في الموسم هو تفاحة خضراء وعجفاء لا تنضج أبداً ، فتأخذ زوجتي تلك التفاحة وتخبئها بعناية في خزانتها ، ثم تنظر لها وتقول : "علينا بالاكتفاء والقبول !! فتفاحة سيئة في النهاية هي هدية صغيرة". لهذا فإني أرغب أن آخذ لها هذا اليوم هدية كبيرة من التفاح ، حتى لو كانت سيئة فإنها ستكون سعيدة جدا." أتمّ الرجلان التبادل ، وصار الكيس تحت تصرف مالكه الجديد . كان هناك رجلان غنيان من الإنكليز قد شاهدا كل ما دار، وكانا جاهزين للضحك على ذلك الرجل الساذج ، فسألاه عن تجارته في السوق . فروى العجوز لهما كلّ شيء حدث له منذ أن خرج من بيته، وكيف تحول الحصان ، وبعد مبادلات كثيرة وصار كيساً من التفاح البروة ، فلم يستطع الإنكليزيان أن يوقفا ضحكاتهما أمام هذا الرجل البسيط فقالا له على سبيل المزاح : " سترى عندما ترجع إلى البيت ، كيف ستصير فرجة عندما تضربك زوجتك !!". : "تضربني أنا؟!! إنكما لا تعرفان زوجتي، أنا واثق إنها ستعتبر كل شيء قمت به عملاً جيداً . عندما سمع الإنكليزيان ذلك ، وكما هو معروف عن الإنكليز انهم مولعين بالمراهنات والتحقق من الأشياء قالا: " هيا لنرى أيها السيد المسكين !! نراهنك بكيسٍ صغيرس من الذهب مقابل كيس التفاح ،على أنّ زوجتك ستغضب عندما تحكي لها ما جرى مع الحصان أولاً و عن كل المبادلات الأخرى لاحقاً ". :" حسنا فلنذهب ونجرب ." قال العجوز: أمر الإنكليزيان أن تجهز الأحصنة ويحضران عربتهما ، ثم جلسا فيها جلسة مريحة يرافقهما القروي العجوز دون أن ينسيا كيس الذهب وكيس التفاح ، ولم يتأخروا جميعا بالوصول إلى كوخ الرجل الطيب . كانت زوجته قد خرجت عند الباب عندما سمعت ضجيجا عاليا ، ولقد استغربت كثيرا لرؤية زوجها برفقة أولئك الأثرياء ، لكن في تلك اللحظة بدأت ترحب بهما بأدب ٍ جم ، ومدت يديها لزوجها وصافحته بحرارة وبسعادة . -:" ها أنا أعود من تجارتي ." =: " نعم إنني أرى أنك تعود سعيداً ، فأنت قادرٌ على إدارة الأمور جيداً ، ماذا بخصوص الحصان؟ " سألت العجوز ! -:" حسنا ! في الطريق أبدلته ببقرة " . =: "آه شيء جيد !! لقد قلت إنك تعرف الكثير ، والآن يمكننا أن نتناول حليباً كثيراً ، وسيكون عندنا زبدة وجبنة ، فالبقرة هي ثروة حقيقية . -: " نعم ، لكني بادلت البقرة فيما بعد بخنزيرٍ كبيرٍ نال جائزة في إحدى السباقات " . =:" فكرة رائعة ، فهكذا يكون لدينا لحمٌ مقددٌ و أفخاذٌ مدخنة جيداً و حبالٌ من السجق ، لقد تمكنا من امتلاك أشياء جيدة كثيرة ". -:" نعم كان بالإمكان أن نمتلك كل هذا لو إنني لم أبادل الخنزير بالوزة ". =: " وهل فعلت ذلك؟ ما أطيبك!! كنت تفكر بزوجتك الفقيرة و بلحاف الريش في الشتاء ، لتحمي رجليها المتورمتين،كم اشكرك على ذلك! وأيضاً يمكننا أن نقيم حفلة شواءٍ لذيذة انه..." -:" ستُـريْن !! الوزة بادلتها فيما بعد بدجاجة بياضة ." =:" يبدو لي هذا افضل !! لأن الدجاجة ستعطينا البيض الطازج وكذلك الصيصان ، ما أمتع أن أراهم يركضون ويوصوصون حوالي أمهم !! أيضاً يمكنا أن ننجـّد لحافاً من الريش ، ونأكل مشويات بين الحين والآخر". -:"نعم! لكن الدجاجة أبدلتها بكيس بروة التفاح !! " عندها بدأت المرأة تضحك بأعلى رغبة في الضحك ثم قالت: =: "يا للمصادفة يا رجل !! لا يمكنك أن تخمن كم أسعدتني !! تصور أنني اليوم أردت تحضير طبخة لذيذة أقدمها لك عندما تعود من السوق ، فذهبت الى الجارة لأطلب رأسيّ بصل إعتزتهما ، هل تعرف ماذا أجابتني؟ ولأنها بخيلة جداً ومرابية فقد قالت لي بصوتها المفتعل: كم أنا متأسفة لا أمتلك في الحقل ولا حتى تفاحة مخمجة. !! فانظر الآن !! يمكنني أن أقدم لها أكبر كيس من التفاح البراوة ..فلترى كم كنت متيقنة وعندي حدس !! إنني سعيدة.. وليتك تسمح لي بقبلة رغم أنها أمام هذين السيدين ". وألقت بذراعيها على رقبة زوجها العجوز وقبّلته بسعادة ،قبلتين أحدثتا صوتا على خديه . لم يتحرك الإنكليزيان من ذهولهما وقال أحدهم للأخر : :" أرأيت هذه الأشياء التي تفرح النفس؟! كل ما يفعله الزوج بالنسبة لزوجته هو دائماً عملٌ جيدٌ ومحكمُ الأداء. حقاً إن زوجةً مثل هذه تساوي كيساً من الذهب ، حقاً ". دفعا ما كان قد راهنا عليه وودعا القرويين بإشارات الفرح والسعادة .
الجزر البريطانية
حكايتان قديمتان من العصور الوسطى ، من زمنٍ كانت فيه الحياة في الجزر البريطانية حياة فلاحية في الغابات الكبيرة ، حيث أدغال البلوط سَتـُرُت المغامرين ، الذين كانوا يعشقون الحرية ، وغطّـتهم بأيكها الذي شهد المآثر الفروسية .
حكاية: وليم دي كلاوديزلي*
بالقرب من مدينة "كارلايزل Carlisle " التي تحيطها الأسوار كان في أزمان أخرى غابة كبيرة و كثيفة ، حيث كان الملك يخبئ أيائله ، و كذلك فـزّاعات لتخيف الحيوانات واللصوص . كان خادمو الملك يطاردون بقسوة جماعة من الصيادين الجريئين ، الذين كانوا يعيشون دائما في الغابة كعشاق للحرية وأعداء للقمع الذي يقوم به الأسياد . والشجعان الثلاثة هم : “آدم بيل “ و "كلايم" و "وليم دي كلاوديزلي" ، الذين كانوا يقودون مجموعة الصيادين ، وهم يشعرون بالسعادة ، وينعمون بروعة الحرية في الغابة . كان "ويليم" صاحب العائلة الوحيد فيهم ، والتي كانت مكونة من : زوجته أليسيا و أبنائه الثلاثة الذين يعيشون في أحد أكواخ مدينة "كارليزل". أحسّ ويليم الشجاع بالرغبة لرؤية زوجته وأبنائه بعد غياب طويل ، فأعلم أصدقاءه بذلك كي ينتشروا في الطريق تحسباً لأي شيء حتى وصوله إلى كوخه ، ومن ثم يعودون في الصباح إلى الغابة علماً أنهم بذلك سيتعرضون لخطر وقوعهم في الأسر من قبل عسس وجنود "الشريف / العمدة". دخل ويليم إلى المدينة عندما كان الظلام قد عـمّ تماماً ، و وصل إلى بيته ثم نادى عند الباب بصوت يكاد لا يسمع ، ففتحت زوجته اليسيا الباب ، وهي متفاجئة و مرعوبة من رجال "الشريف" الذين كانوا يراقبون البيت بشكل متواصل .
نظر الأولاد بدهشة كبيرة إلى والدهم ، وفي تلك الليلة امتلأ البيت بالسعادة والفرح . لكن أحدهم وشى بوجود الصياد ، ولم تتأخر الوشاية بالوصول إلى الشريف ، وقبل بزوغ الفجر كانت القرية تقف على أقدامها مرغمة على معاونة الشريف والقاضي في القبض على المغامر . كان جنود الملك يحقدون على الصياد ، بينما كان رجال القرية معجبين به ويتعاطفون معه . سمع "وليام" خطوات المسلحين فصعد مع زوجته وأبنائه بسرعة إلى الطابق العلوي ، ومن خلال نافذة عريضة شاهد الجنود ، وهم يحاصرون البيت ، كان الصباح قد بدأ يتفتح بصفاء ، لكنه امتلأ بالأصوات . لم يشعر ويليم بالخوف ، كان قد أحضر معه حفنة من السهام استعداداً للمقاومة ، ومن النافذة الواسعة شاهد القاضي والشريف وكلاهما أعداؤه . صوّب قوسه ، ثم انطلق السهم بقوة ، وهو يصفر ، فحطّ على صدر القاضي المحمي بدرع من مشبك الحديد. :" استسلم يا" ويليم دي كلاوديزلي !!" ، كانوا يصرخون عليه من الخارج . فردت عليهم "اليسيا" الشجاعة بفخر : " زوجي لا يستسلم !! زوجي ليس جباناً مثلكم !! كانت سهام "كلاوديزلي" صائبة ، وقد جرحت بعض الذين يحاصرونه ، لكن "الشريف" الذي يحتقن بالغضب أمر بإضرام النار بالبيت دون شفقة أو رحمة للمرأة وللأولاد .
وبدأ البيت يحترق، و وصلت ألسنة اللهب إلى الغرفة التي كان الأطفال فيها يبكون من شدة الخوف . توقف وليم عن إطلاق السهام ، وأخذ عدة شراشف من القماش المتين ، و ربطها مثل الحبل ، بينما "اليسيا" وأولاده تمكنوا من النزول عبر النافذة ، وعندما تأكد" وليم" أنهم نجوا صاح: " أيها الشريف لقد أرعبت زوجتي وأطفالي ، وجـّه انتقامك نحوي ، لكن حذار أن تمسهم بأقل الأذى " . واستمر من بين السنة اللهب يطلق السهام حتى آخر سهم عنده ، فلم تعد المقامة ممكنة وقد صار البيت على شفى أن ينهار . ومثل وحشٍ كاسرٍ قفز "وليم " من النافذة فأطبق الجنود عليه ، و شدّوا وثاقه بقوة ، ثم سجنوه في قفص مغلق . قال الشريف له: :"ويليم كلاوديزلي !! غداً في ساعات الصباح الأولى ستكون معلـّقا في الساحة العامة ، ولن تـُفتح أبوابُ المدينة إلا ّ بعد موتك ، لا تنتظر الآن من رفاقك أن يأتوا ليخلصوك !!". في اليوم الثاني عند الشفق كان سكان المدينة في الساحة العامة ، والجندي الذي كان يحرس أبواب المدينة أمر أن لا تـُفتح إلا بأوامر عليا . أحد الرعيان الذي لم يتمكن من إخراج قطيعه للرعي سأل أحد سكان القرية عن اسم المتهم، فقال الرجل : " إنه النبيل والشجاع "وليم" الذي لم يفعل أيّ شيء يؤذي أكثر من الصيد والعيش في غابات الملك ، إن إعدامه بسب ذلك و بإسم السماء لهو جورٌ كبير !!". كان الراعي يعرف" ويليم" الذي تصادق معه في الغابة ..فكر للحظة .. وبعدها تسلل من جدار السور وقفز إلى الحقل دون أن يراه أحد . ركض بكل قوته إلى أن وصل إلى مخيم الصيادين ، وأخبرهم عما جرى. اخذ "آدم بيل" و "كلايم" أسلحتهما ، وركضا باتجاه أبواب المدينة عندها طرأت فكرة جيدة لـ"كلايم": " فلنقدم أنفسنا أننا مبعوثون من الملك ، وبهذا يفتحون الأبواب لنا ". زوّر آدم بيل خط ّوختم الملك في صحيفة ، والتي لفها لاحقاً، فبدت أنها أمر ٌ رسمي . طرق الاثنان بوابة المدينة بقوة ، وأعلنا انهما مبعوثان يحضران أمراً طارئاً من القصر إلى القاضي . ُفـتحت البوابات ، و ركع الحراس عندما رأوا الختم الحقيقي، لكن" آدم" و"كلايم" ألقيا بنفسيهما على الحارس ،وربطاه بقوة ، ثم حبساه في زنزانة قريبة ، وبعد ذلك ركضا إلى الساحة العامة. كانت جموع الناس يتابعون التحضيرات لتنفيذ حكم الإعدام. وكان" وليم كلاوديزلي" هناك وسط الساحة موثقا بقوة بالحبال ، لكنه لحظ أصدقاءه الأوفياء . صوّب الاثنان سهام قوسيهما على القاضي والشريف اللذين كانا بارزين من فوق حصانيهما من بين الحشود . اهتز القوسان ، وصفرت السهام ، فسقط القاضي والشريف على الأرض بإصابات قاتلة .
سادت لحظة ذهول ، وتبعها فوضى ، استغلها رماة السهام للاقتراب من رفيقهم فقطعا الحبال التي كانت تشد وثاقه ، وعندها تسلح " وليم" بفأس أحد الجنود . بدأ الصيادون الثلاثة يقاومون القوات التي كانت هناك ، كانوا يقاتلون وظهر كل منهم محميّ بظهر الآخر ، بينما يعطون وجوههم للمهاجمين ، كان الصيادون الشجعان يطلقون سهامهم وهم يتراجعون خطوة خطوة نحو أبواب المدينة . نفدت السهام ، و لمعت السيوف ، وخارت قوى المتمردين الثلاثة، وبجهد أخير فازوا بالخروج ، وأغلقوا البوابة الكبيرة بالمفتاح الذي استولوا عليه من الحارس ، وانطلقوا بسرعة نحو الملجأ الآمن في الغابات التي عاشوا فيها دائما وناضلوا وكافحوا للاحتفاظ بالحرية . مشى الرفاق الثلاثة تحت ظلال الأشجار الضخمة ، يتندرون على أحداث مغامرتهم الكبيرة، فسمعوا همهمات وأصوات استغاثة، تخرج من السور الكثيف، فباعدوا الأغصان ،واقتربوا من المكان الذي كانت الشكوى تسمع منه ،فعثروا على "اليسيا" الشجاعة هناك ، وقد هربت إلى الغابة ومعها أطفالها الثلاثة . كانت منتشية من السعادة ، أحضر "آدم" و"كلايم" صيداً وفيراً، وفي نفس المكان جهـّزوا الغذاء الذي سيسترد لهم القوة التي بذلوها . وفي وقت الراحة وهم يتسامرون حول النار قال" وليم": " أظن انه يجب علينا أن نذهب في الحال إلى لندن، لنطلب الصفح من الملك قبل أن تصله الأخبار من "كارليزلي" ، فعندي ثقة بأنه سيستمع لنا، لكنني سأترك هنا زوجتي "اليسيا" واثنين من أبنائي في بستان قريب ، وسآخذ معي ابني الكبير، حتى يتمكن من نقل أخبار حظنا إلى أمه ." استعدّ رماة الأقواس الثلاثة، وكذلك الطفل الرائع ابن السبع سنوات من العمر، وانطلقوا باتجاه لندن . وبعد ثلاث دوريات متعبة من المسير، وصلوا إلى القصر، وأعلنوا انهم صيادون في غابات الملك وقد جاءوا يطلبون الغفران . استقبلهم الملك يشكل سيئ ، وعندما علم بأسمائهم أمر غاضباً أن يودعوا السجن ، كي يدفعوا بحياتهم ثمن إساءاتهم ، لكن نبل و لطافة الصيادين جعلت الملكة تتعاطف معهم، وتطلب من الملك أن يعفوا عن الثلاثة . فوافق الملك على العفو بسبب حبه لزوجته، وفي تلك اللحظة وصل أحدهم يحمل رسالة يشرح فيها ما حدث في مدينة "كارليزلي" ، وما فعله الرجال الثلاثة أمام المدينة كلها . وقف الملك مشدوهاً و حانقاً أمام تلك الواقعة المستحيلة ،وأمر رجاله من رماة السهام أن يخرجوا إلى حقل الرماية ، ليمتحنوا مهارة المغامرين. امتلأ الحقل الشاسع بالناس والجنود ينظرون بازدراء إلى الصيادين الثلاثة. قام رماة الرماح التابعين للملك والرفاق الثلاثة بإطلاق سهامهم على دريئات بيضاء ، فقال" وليم دي كلاوديزلي": " يبدو هذا مثل لعبة أطفال ، فأنا لا أسمّي أبداً رامي سهمٍ جيد للذي يفرح بالتسديد على هذه الأهداف الكبيرة جداً، والتي تشبه الدروع في المعارك ، فأيّ كان يمكنه القيام بذلك". قال الملك: "فلتختر الدريئة التي تحب ، وارني ما أنت قادر على فعله ". قال وليم بصوت جهوري: "من أجل شرف رماة السهام سأقوم بما لا يمكن لأحد القيام به ، فهذا الطفل الموجود هنا هو ابني ، وعن مسافة أربعمائة قدم سأسدد سهمي على تفاحة تضعها على رأسه. قال الملك : " إن هذا لمغامرة كبيرة وخطرة ، وإن لم تحققها فسوف تدفع الثمن حياتك أنت وحياة رفاقك ". فاستعد وليم لتنفيذ كلمته. كان الطفل بعينين مفتوحتين جاحظتين، وقد تم ربطه إلى جذع شجرة ، ثابت في الأرض و وضعوا تفاحة على رأسه الأشقر الجميل .وابتعد كلاوديزلي مسافة أربعمائة قدم ، ووضع في قوسه أطول سهامه والأكثر استقامة . كانت حشود الناس تنظر إليه بأسى ، والنساء تبكي من شدة تأثرهم العاطفي . استدار كلاوديزلي إلى الناس، وقال :" إياكم أن يتحرك أحدكم فيعكر صفائي .. توسلوا لي ". ووسط الصمت ثبت الرامي قدميه ثم سدد فصفر السهم ، وسقطت التفاحة مشطورة إلى نصفين متساويين . انفجرت الحشود بصرخات كبيرة تعبر عن فرحها ، وجميعهم يصفقون تملؤهم السعادة . اتخذ الملك الصمت ، وبعدها قال: " أمنحك العفو يا "وليم دي كلاوديزلي" ، ومن الآن أمنحك لقب كبير حراس غاباتي إن كنت لا تزال تفضل العيش مع رفاقك تحت حمايتي ". لكن الأصدقاء الشجعان اختاروا أن يواصلوا حياتهم ، حياة الحرية والمغامرات في غابات كثيفة من أشجار البلوط المعمرة مئات السنين .
* William de Cloudlessly
الفارس جيريان*
(حكاية من القرن الثالث عشر)
تتبعها إحدى سيدات مجلسها ، كانت زوجة الملك أرثر تتجول في مجنبات القلعة . وهما تمتطيان الخيل عبرتا الجسر المقام على النهر ، وابتعدتا في الحقل الأخضر بين المروج والأشجار . توقفت الملكة لسماعها وقع حوافر حصان كان يأتي في الاتجاه نفسه . وبعد فترة قصيرة ظهر أمامها فارس شاب من النبلاء ، يرتدي معطف عباءة واسعة ومفتوحة ، وعلى جانبه سيف له قبضة من ذهب . : " أهلا وسهلا أيها الفارس _ قالت الأميرة له وتابعت _ لم اكن أتوقع هكذا صحبة سعيدة ، تعال فاليوم سنصل إلى مدخل الغابة ". وقبل الوصول توقفوا عندما شاهدوا بين الأشجار رجلاً بديناً يرافقه قزم ٌ ، يأتيان على حصانيهما بخطوات بطيئة ومعهما امرأة كانت تمشي بثوبها الداخلي ، المخرّم والمصنوع من الذهب إلى جانب فارس له طابع مستبد ومدجج بسلاح ثقيل و يلمع . أرسلت الأميرة وصيفتها سيدة الشرف لتسأل القزم عن اسم سيده ، وعندما سألته بلطف و أدب رد القزم: " لن أقول لك شيئاً ، فأنت لست أهلاً للاقتراب من سيدي " . أرادت السيدة أن تتجه نحو الفارس المجهول الهوية ، لكن القزم تدخل وضربها بالسوط على وجهها . استعد جيريان ليقتص من تلك الفعلة الدنيئة ، و وضع يده على سيفه ، لكنه توقف ، لأنه اعتبر من غير المشرف أن ينتقم من ذلك الرجل الصغير عديم القيمة ، عندها طلب الإذن من الملكة ليتبع أولئك المجهولين حتى يجد الفرصة ، ليرتدي ثياب الحرب ويعاقب الفارس الفظ .
: " اذهب _ قالت الملكة _ وسننتظر عودتك في المجلس بفارغ الصبر ". تابع جيريان أولئك المجهولين ، وبعد أن اجتازوا نهر اليوسك usk وصلوا إلى مدينة ، عند مدخلها كانت تقوم قلعة جبارة ، مرّ بها الفارس المدجج مع سيدته وقزمه ، فنهض الناس يؤدون طقوس الاستقبال و يقدمون التحيات . كانت البيوت والنوافذ مزينة بدروع ملونة ورايات وردية ، وفي كل محددة كان هناك رجال منهمكون في صقل السيوف و تدبيب الرماح وتلميع الخوذات و الدروع . دخل القزم والسيدة والفارس إلى القلعة وسط صفين من المحاربين كانوا قد خرجوا واصطفوا عند ما شاهدوا الفارس وجماعته يصلون . بقي "جيريان" يفكر دون أن يعرف إلى أين يتجه ، لكنه رأى قلعة قديمة مهدمة ونائية شيئاً ما ، فمشى إلى هناك يطلب مأوى لتلك الليلة . وعندما أحسوا بقدومه خرج لاستقباله رجل ٌ مسن ٌ ، وله لحية وشعر ابيض، تبدو عليه علامات النبل على الرغم من ثيابه البالية والذي رحّب بالفارس بعبارات كيّسة ، وقدّم له ضيافة متواضعة . نزل "جيريان" عن حصانه في الحديقة المحاطة بأنقاض آثار، ظنّ أنها لقلعة كانت هنا في أزمان أخرى ، مع أنه يرى بعض الأسوار والأقواس ، وقد تشققت وبعض الأبراج والمنارات مدمرة ، و بعض سقوف من حجر بقيت واقفة ، وكذلك بعض الغرف التي تكوّن هذا المأوى المسكين . قدّمه المسن إلى زوجته وابنته "إيناد" التي وان كانت بملابس بسيطة ، فقد بدت لـ"جيريان" أجمل النساء وأكثرهن روعة .
قال المسن لـ"إيناد" : " اعتني بحصان ضيفنا ، واجعلي منزلنا الفقير مضيفاً طيباً للفارس ". فقامت الشابة العذراء بترتيب كلّ شيء بطيبة نفس و ثقة . حضّرت العشاء ، وجلسوا إلى المائدة ، وبقيتالشابة ايناد تقدم الخدمات ، وبعد الأكل شرح جيريان عن احترافه كفارس وعن قربه من الملك أرثر ، وبعدها أبدى اهتمامه لمعرفة لمن تعود تلك القلعة المبادة ؟. قال المسن: " هذه!! إنها آخر ممتلكاتي،الوحيدة المتبقية !! لقد أعلن حفيدي الجاحد الحرب عليّ ، و جردّني من كل أملاكي!! أقدم لك نفسي : أنا "الكونت ينيوال" ، أراني الآن و بسبب غدره قد انحدرت إلى هذا الفقر ". : " سيدي _ سأل جيريان_ من هو الفارس الذي وصل إلى القلعة مع زوجته والقزم ؟ و ما الأمر الذي يتم تحضيره في هذه المدينة المزدانة جدا ؟ : " إنه حفيدي الكونت الخائن ، هو من رأيته يدخل القلعة، لقد نظم حفل مبارزة سيقام غدا في السهل الكبير الذي نراه من هنا . إنه سيغرس في وسط الحقل رمحا يكون في طرفه صقر من الذهب كجائزة للمنتصر . والجميع في المدينة يحضرون السلاح والخيول ، ولن يأخذ مكانته في تلك المنازلة من لا يذهب بصحبة زوجته !! إن هذا الشرير الملعون الذي رأيته يصل اليوم إلى المدينة ، كان قد اغتصب للمرة الثانية الصقر الذهبي ، وإذا استطاع أن ينتصر غدا من جديد فانه سيغتصب لقب الفارس الصقر ". : " سيدي !! قال جيريان : عليّ أن انتقم لذلك الجور الذي سببه حفيدك لي وللملكة . وهكذا أرجوك أن تعيرني درعاً، وان تسمح لي أن أدخل المنازلة ، على شرف ابنتك "إيناد" ، والتي إن خرجت منتصرا فسأبقى أحبها طالما حييت ". : " إنك تقدم لي سعادة عارمة ، وغدا عند شروق الشمس سيكون لك درع ٌ جاهزٌ وحصانك ، وأنا وابنتي سنرافقك " .
وعند الصباح استعد الفارس جيريان ،فارتدى الحديد ، و سنّ سيفه ، ثم امتطى الحصان ، وتسربل بالدرع ، وحمل الرمح ليتجه إلى المنازلة . عندما وصلوا إلى الحقل كان فارس القلعة متأكداً من انتصاره ، ويؤشر لزوجته أن تأخذ الصقر الذهبي جائزة المنتصر ، لكن في تلك اللحظة ظهر الفارس جيريان وقال: " الصقر الذهبي ليس لك ، ولا يمت إليكم بصلة . أدعوك لمنازلتي أيها الفارس الخائن ، إنني سأهزمك ، وعليك أن تعلن أن زوجتي هي السيدة الأكثر جمالا و روعة ". وبعد أن قال جيريان ذلك اتجه على وقع حوافر خيله نحو أطراف الحقل ، ليكون مستعداً للقتال . كان الفارس الفظ غاضباً جداً . وانطلق الغريمان بأقصى سرعة حصانيهما كل ٌ باتجاه الآخر، و لثلاث مرات تكسرت الرماح على الدروع ، و لثلاث مرات قام الكونت المسن ينيوال والقزم المتعجرف بتقديم السلاح للخصمين ، وأخيراً قال الرجل المسن لـ"جيريان": "هذا الرمح الذي أخذته في شبابي عندما سلّحوني لأكون فارساً ، ولقد قاوم الرمح في الكثير من المعارك ولم يتكسّر ". كان جيريان مصمماً على الفوز ، فرمى خصمه بقوة ، ومزّق درعه فيها ، وأسقط الخائن على الأرض . ترجّل جيريان عن خيله ، وبدأ المبارزة حيث راحت السيوف تقعقع ، واقترب المسن إلى المسافة التي أمكنه الاقتراب إليها وقال : " يا فارس الملك أرثر تذكر الإهانة التي سببها لك ".
عندها استجمع جيريان كل طاقته وقوته وركـّزها في المعركة ، وبضربة رهيبة قصم خوذة خصمه الذي سقط مهزوماً على الأرض ، وراح يطلب الرأفة . فقال جيريان له : " أسامحك بحياتك تحت شرط واحد أن تمثل أمام الملكة ، وأن تطلب منها الغفران عن إساءتك ، و عندها سينطق فرسان المجلس بالعقاب الذي تستحق ". قام جميع رجال الخائن المحاربين ، وجميع فرسان المدينة بتقديم التحية إلى الفارس المنتصر ، الذي رجع مع المسن وعائلته إلى القلعة المهدمة ، وهم مزدانون بالورود و بالمشاعل المنيرة . حضر الكونت المهزوم إلى هناك ، ليتفرغ جيريان له وقال له: " سأعود غداً إلى البلد الذي أتيت منه ، و سأذهب مصحوباً بـ"إيندا" التي ستصبح زوجة لي ، لكن قبل أي شيء عليك بإعادة كل شيء اغتصبته من الكونت يونيوال ". وهذا ما كان قبل انطلاق إيندا وجيريان نحو مجلس الملك أرثر
*
ضع تعليقك ://///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////// |
| |
New Life الخميس 2 يونيو 2011 - 1:12 | | حكايـات وأساطير عالمية . كتاب الخامس
أفريقيا
بلاد النيجر
في شمال غرب أفريقيا وبين حدود الصحراء وغابات النيجر وفي قرى من أكواخ مدورة ،هناك، يعيش فلاحون الفلوبيس* Flubes ، الذين يتقاسمون السهل الكبير مع قبائل متنقلة من طوارق وعرب و أفارقة . في كل المنطقة تلك تم اكتشاف آثار مدن ، وأنقاض وأسوار وقلاع كعلامات عن حضارة قديمة ومزدهرة ، قد تقوضت واختفت . شعب الفولبيس المكون من رجال لهم سحنة قمحية وذكاء حاد متخصص بالرعي وزراعة الحقول و أعمال أخرى . ويمثل شعب الفولبيس تأكيداً كبيراً لأولئك الذين في أزمان أخرى ، صنعوا واحدة من أهم الحضارات الإفريقية والمثيرة للفضول . وإلى جانب الآثار والأنقاض ، فلقد تم اكتشاف والتقاط أساطير وحكايات قيّمة عن الحب والفروسية ، رغم أن شعب تلك المنطقة كباقي شعوب أفريقيا قد عانى من استعمار القوى الغاشمة .
* تطلق على الشعوب التي تسكن في القسم الغربي من الصحراء الافريقية(المترجم)
سامبا غانا*
في مدينة " واغنا Wagna " كانت الملكة " أناليا- تو-باري/ Analia Tu-bari" ، وكان والدها هو أمير واغنا وسيد قرى كثيرة ، وفي إحدى المرات خاض حرباً مع أمير عدو انهزم فيها والد " أناليا " ، فتم تجريده من ممتلكاته ، وكان عليه أن يسلّم احدى قراه ، لكن كبرياءه لم يسمح له بتحمل ذلك ، فمات كمداً وغماً و ورثت أناليا كلّ المملكة عن أبيها . حضر أعدادٌ كبيرة من الفرسان إلى مدينة "واغنا" ، يطلبون يدها للزواج ، لكن " أناليا " كانت تحزم بطلبها ، ليس فقط أن يستردوا القرية الضائعة ، إنما ثمانين مدينة أخرى !! لكن لا أحد من الفرسان تجرأ على هذا المهر الحربي . ومرّت السنوات وفقدت " أناليا " كل سعادتها ، ومع أنها كانت تزداد جمالاً في كل يوم ، إلا أنها كانت تزداد حزناً في بلدٍ مجاورٍ كان لأميرها ولدٌ يدعى "سامبا - غانا" ، وعندما كبر هجر مدينة أبيه حسب عادات البلد ، وخرج ليحتل أراض ٍ ومدن ٍ أخرى ، كي يقيم عليها مملكته . كان "سامبا- غانا" شابا مبتهجاً دائماً ، وقد خرج سعيداً من مدينة والده يرافقه اثنان مدرعان . أعلن سامبا الحرب على أمير مدينة و تحدّاه إلى منازلة فتصارع الاثنان ، والمدينة كلها تشاهدهم ، وأخيراً انتصر "سامبا غانا " فطلب الأمير المهزوم منه أن يعفوعن حياته ، ويقدم له مدينته . فبدأ سامبا يضحك ويقول: " ابق َ مع مدينتك فهي لا تهمني ".
تابع " سامبا " طريقه ، وهزم الأمراء واحداً تلو الأخر ، و دائماً كان يعيد كلّ ما يحصل عليه بفوزه إلى كل أميرٍ مهزوم ، ويقول له: " ابقَ مع مدينتك فمدينتك لا تهمني ". تمكن " سامبا غانا "من هزيمة كل أمراء البلاد ، ومع ذلك لم يكن يملك أرضاً ولا مدينة ، لأنه بعد كل انتصاراته كان يعيد كلَّ شيءٍ ، ويمضي ضاحكاً مبتهجاً و حالماً . وفي يوم كان يرتاح فيه مع مرافقه عند ضفاف نهر النيجر ، غنّى المرافق الأغنية الرائعة لـ"أناليا- تو- باري" ، و المليئة بالحزن وعزلة الأميرة . قال المرافق : " الرجل الذي سيحظى بـ"أناليا" وسيجعلها تضحك هو فقط ذاك الفارس الذي سيسترد ثمانين مدينة " عندما سمع "سامبا غانا" ذلك وثب بقفزة سريعة ، وصاح : " هيا يا أصحاب العضلات اسرجوا الخيول !! هيا بنا إلى بلاد أناليا- تو- باري ". انطلق سامبا بمسيرة مع المرافقين المدرعين ، واستمروا أياماً وليالي يمتطون الجياد يوماً ،حتى وصلوا إلى مدينة " أناليا تو باري " ، فرأى "سامبا غانا" امرأةً رائعةَ الجمال وشديدة الحزن . فقال لها : " أناليا أنا سأسترد المدن الثمانين ". وقرر أن ينطلق في مسيرة ثانية . قال لمرافقه : "ابق هنا مع أناليا ،غنّ لها وروّحها عن نفسها ، اجعلها تضحك ". فبقي المرافق في مدينة "أناليا توباري " ، وكلّ يومٍ صار يغني لـ"أناليا " أغنيات عن أبطال بلادها ، وعن مدنها ، وعن أفاعي النهر التي تجعل مستوى المياه يرتفع ، فتجعل الناس يخزنون الأرز لسبع سنوات ويبقون جائعين لسبع سنين أخرى .
وكانت اناليا تستمع له ، بينما " سامبا غانا " كان يقطع الأمصار ، ويحارب الأمراء واحداً تلو الآخر . فأخضع ثمانين أميراً ، ولكلّ مهزومٍ منهم كان يقول : " عليك الحضور أمام أناليا توباري ، وأن تقول لها : إن مدينتك صارت لها ". ذهب الأمراء الثمانون يرافقهم أعداد كبيرة من المحاربين إلى مدينة "واغانا" ، وسكنوا هناك ، فأخذت مدينة أناليا تتسع وتتسع ، إلى أن أصبحت ملكة على الأمراء والمحاربين في كل الأمصار . قال سامبا غانا لها: " كل شيء تمنيته قد أصبح ملكا ً لك ". فقالت أناليا : " لقد وفّيت بوعدك ،سأكون زوجتك ". فقال سامبا غانا : " لماذا أنت حزينة؟ إنني لن أتزوج منك إلا عندما تعود البسمة إليك ، وأراك تضحكين ". قالت أناليا : " لقد كان عار والدي المهزوم يبعث الحزن فيّ ، والآن لا أقدر على الضحك ، لأنني لم أجد أحداً يقدر على اتمام رغبتي " . قال سامبا غانا: " أشيري عليّ ماذا عليّ أن أفعل ؟ " . قالت : " اقتل الأفعى التي في النهر !! فهي تأخذ الخيرات لسنة كاملة فيكون هناك مجاعة لسنة كاملة ، وأنا سأكون سعيدة لقتلها " . قال سامبا : " لم يجرأ أحدٌ على ذلك ، لكنني سأقوم به " . اتجه سامبا غانا مع رجاله الثلاثة نحو النهر، و بحث عن الأفعى واستمر في المسير والبحث ، فوصل إلى مدينة فلم يعثر على الأفعى، واستمر يمشي مع النهر ويبحث عن الأفعى ، فوصل إلى مدينة أخرى ولم يجدها !
واستمر في البحث إلى أن عثر عليها أخيراً ، وبدأ يتصارع معها !! وفي النهاية انهزمت الأفعى وكذلك سامبا غانا !! كان تيار النهر يأخذهما من جهة إلى جهة ، ويمر بين الجبال ، ثم يفتح أراض ويدخل فيها . استمر الصراع ثماني سنوات بين سامبا والأفعى ، وفي العام الثامن هزمها . وخلال هذا الوقت كسر سامبا ثمانمائة رمح وثمانين سيفاً ، و أخذ أحد الرماح المليئ بالدم فأعطاه إلى مرافقه قائلا : " خذها إلى أناليا ، وقل لها : إنني هزمت الأفعى ، وانظر إليها جيداً لترها إن كانت ستضحك " . عاد المرافق وسلّم هدية سامبا غانا ، وعندما سمع سامبا كلام أناليا قال: هذا عظيم جداً . أخذ سامبا السيف المبلل بالدم و غرسه في صدره وضحك مرة ثانية قبل أن يسقط ميتاً . أخذ المرافق السيف المدمي ، و امتطى الخيل ، ومضى باتجاه أناليا ،وعند الوصول قال لها : " هذا سيف سامبا غانا ، والدم الذي عليه هو دم الأفعى و دم سامبا الذي ضحك لآخر مرة " . جمعت أناليا كلّ الأمراء والمحاربين في المدينة ، وامتطت خيلها ، فامتطى الجميع خيولهم ، وتبعوها نحو البلد الذي مات فيه سامبا غانا . وصلت أناليا إلى المكان الذي كانت فيه جثة سامبا غانا وقالت: " لقد كان بطلاً عظيماً ، ليس له مثيل عند من سبقوه ، أقيموا له ضريحاً ، وليكن الأعلى بين أضرحة الملوك والأمراء والأبطال " .
وبدأ العمل لذلك ، فحفر الأرض رجالٌ حاصل عددهم هو ثمانية أضعاف الرقم ثمانمائة . ونفس العدد من الرجال قاموا ببناء الضريح ،و كذلك الرقم من الرجال قاموا بتجميع التراب فوق الضريح ، و رصرصوها ثم أحرقوها فظهر هرمٌ كبير . عند كل غروب كانت أناليا وأمراؤها و رجالها المحاربون يصعدون إلى قمة الهرم وكل مساء كان المرافق يغني أغنية البطل ، وعند كل صباح كلّما كانت أناليا تستيقظ كانت تقول: " الهرم ليس عالياً بما يكفي ، يجب رفعه كي تُرى منه كلُّ مملكة واغانا " . ثمانية أضعاف العدد ثمانمائة من الرجال حفروا الأرض ورصرصوها ثم حرقوها . وطوال ثمانية أعوام كان الهرم يكبر و يطول ويرتفع ، ومع نهاية العام الثامن نظر المرافق بعينيه الدائريتين وقال: "يا أناليا توباري اليوم يمكنك رؤية "واغنا".. نظرت أناليا نحو الغرب وقالت: " ها أنا أرى "واغنا" و ضريح سامبا غانا هو العظمة التي يستحقها اسمه " . وضحكت أناليا !! نعم ضحكت كثيراً !! وقالت: " الآن انفصلوا أيها الأمراء ، تفرقوا في أنحاء الأرض ، و كونوا أبطالاً مثل سامبا غانا " . وضحكت أناليا مرة ثانية قبل أن تسقط ميتة ، ويدفنوها في سرداب الهرم إلى جانب سامبا غانا .
* Samba Gana
الأصيل ابن الأصول
خلال زمن طويل كانت عائلة "الأردو" هي التي تحكم بلاد الفلوبيس* .وكان "غوربو—ديكي" الشاب القوي تنحدر سلالته من تلك العائلة النبيلة ، ولأنه لم يكن الإبن البكر ، لم تكن له مدينة يحكمها ، لهذا كان يمضي هائما في بلاد الـ"بام مانا/ Bammana" وبمزاجه المعكر ينشر المعاناة بين سكانها ، فجعلهم يخشون بطشه بشدة لأنه كان قاسياً و عنيفاً . كان الباممانيون المرعوبون يستعجلون تدبير الأمر ، فنادوا على" ألآل" المدرع مرافق "غوربو — ديكي" وقالوا له : " أنت الوحيد الذي يمكنه إقناع البلدة ، ويا ليتك تقدر أن تجعل "غوربو—ديكي" يرحل عن البلاد !! فسوف نعطيك كمية جيدة من الذهب " . وبعد انقضاء عدة أسابيع قال" ألآل" لـ"غوربا ديكي": اسمع !! البامانا لم يفعلوا شيئا سيئا لك حتى تعاملهم بهذه الطريقة ، ولو كنت بمكانك ، لذهبت إلى عائلة الفلوبيس ليعطوني مملكة " . : " لديك حق— قال غوروبا - لكن أية مدينة تريدني أن اختارها ؟ ". فسأله المدرّع : " ما هو رأيك لو أنك تذهب إلى بلاد "ساريام" التي يحكمها حمّادي أردو؟ " . قال غوروبو: " يبدو لي حسنا ، هيا بنا إلى هناك " .
ووصلا قريبا من "ساريام" وفي قرية في الضواحي توقفوا عند بيت فلاح حرّاث . قال غوربو لحامل الدرع : "ابق أنت هنا مؤقتاً ، وأنا أريد أن أرى المدينة لوحدي أولاً " . خلع الملابس الفارهة ، وطلب من الفلاح ملابس عمل قديمة ، ارتداها وتوجه نحو المدينة ، و أول شيء فعله تحدث مع حداد وقال له : " أنا من "الفلوبيس" وأحوالي سيئة الآن ، ومقابل القليل من الطعام أنا مستعد لمعاونتك في العمل ". قال الحداد: " لم لا !! هل تريد أن تعمل بالكير ؟ ". قال غوروبو : " سأقوم بذلك بامتنان كبير " . وبينما هو يشتغل سال الحداد : " من هو حاكم هذه المدينة ؟ " . : "هنا يحكم حمّادي من عائلة آردو" . أجاب الحداد . : " وهل عند حمّادي الأردو خيول ؟ ". : " نعم !! -قال الحداد- لديه الكثير من الخيول ،إنه ثري جداً ولديه أيضا ثلاث بنات . اثنتان متزوجتان من اثنين من الفلوبيس ، وهما فارسان شجاعان ، أمّا البنت الصغرى واسمها "كودي أردو" فهي أجمل فتيات الفلوبيس في البلاد ، فهي تضع في إصبعها البنصر خاتما من الفضة ، وتقول إنها لن تتزوج إلا بالرجل الذي يدخل الخاتم في البنصر من أصابعه ، وتقول : " إن الرجل الفلوبي الحقيقي يجب أن تكون أطرافه ناعمة وأصابعه لطيفة ". في اليوم التالي ، وكما في كل الأيام تجمع صفوة من شباب الفلوبيس أمام بيت "حمّادي أردو" ، فخرجت ابنة الملك الصغرى والفاتنة الجمال من البيت ، وسحبت الخاتم الفضي من بنصرها ، ثم بحثت بين الرجال الحضور عمن يدخل الخاتم في بنصره . تمكن بعضهم من إدخاله بصعوبة حتى العقدة الأولى من الإصبع ، وبعضهم أوصله إلى العقدة الثانية ، لكن ، أي منهم لم يتمكن من إدخاله كلياً ، عندها فقد الملك "حمّادي أردو" صبره وقال لابنته : "عليك بالزواج من أيّ من الحضور " . الحداد الذي كان يشتغل عنده "غوربو ديكي" سمع تلك الكلمات وقال: " في بيتي يعمل رجل ملابسه رثة ، لكن علامات الفلوبيس تبدو واضحة عليه " . : " احضر الرجل لي—قال الملك—وليجرب خاتم ابنتي ". ذهب الحداد ليحضر غوربو وقال له: " تعال حالاً !! الملك يريد التحدث معك " . ذهب غوربو بملابسه الرثة مع الحداد إلى الساحة ، حيث كان هناك الملك حمّادي أردو وجميع الشخصيات المعتبرة . سأله حمّادي أردو: " هل أنت فلوبيس ؟ " . أجاب غوربو: " نعم أنا فلوبي " . : " ما اسمك؟ ". أجاب غوربو ديكي: " لا اقدر على ذكره ". فقال الملك : " جرب إدخال هذا الخاتم في البنصر من أصابع يدك ". أخذ غوربو الخاتم ، وأدخله في إصبعه فاستقر الخاتم بسهولة . : " أنت من سيتزوج من ابنتي " - قال الملك- فأخذت "كودي أردو" تبكي ، ثم قالت : " لا أريد الزواج من هذا الفلاح ، من هذا الرجل البشع والقذر ، وبقيت كودو تبكي طوال النهار ، لكنها اضطرت أخيراً للزواج من الرجل البشع والقذر ، وأقيمت مراسيم الزواج . في أحد الأيام حدثت حرب بين الملك والطوارق ، وتمكن الطوارق من الاستيلاء على ماشية الملك حمّادي ومواشي مدينة ساريام . تسلح جميع سكان المدينة ، وخرجوا خلف الطوارق ، بينما غوربو كان جالساً في احدى زوايا المدينة ، فقال الملك له: " ألا تريد أن تمتطي حصانا وتأتي معنا إلى الحرب ؟ " . : " أن امتطي حصانا !! أنا لم اركب حصاناً في حياتي، أنا ابن ناسٍ فقراء ، وإذا أعطيتموني جحشاً فربما أقدر على ركوبه" . فصارت "كودي أردو" تبكي . ركب غوربو على الجحش ، وذهب باتجاهٍ معاكسٍ لوجهة للمحاربين ، فقالت "كوردو" وهي تبكي: " آه !! يا أبتي!! آه!! يا أبتي أي حظ تعس!! جلبته لي من تزويجك لي من هذا الرجل؟ " . لقد ذهب غوربو ديكي إلى بيت الفلاح الذي كان قد ترك خيله هناك ، و سلاحه و درعه ، قفز عن الجحش وقال: " يا ألآل !! لقد تزوجت ". : " ماذا؟ تزوجت؟!! ممن تزوجت؟؟ " . : "تزوجت أجمل نساء المدينة إنها ابنة الملك "حمّادي أردو" . : " ماذا ؟! كيف حصلت على هذا الحظ الكبير ؟ ". : " نعم !!-- قال غوربو—لكن يوجد هناك شيء آخر ، لقد سطا الطوارق على ماشية حماي ، فبسرعة البس وتسلح واسرج الخيل علي أن أتقدمَ الجميع ، واختصرَ الطريق " . فحضّر المدرّع كلّ شيء وسأله : " هل يمكنني مرافقتك؟ " . قال "غروبو ديكي" : " لا !! ليس اليوم " . وانطلق بسرعة كبيرة حتى تمكن من اللحاق بهم فشاهده اثنان من أنسباء الملك حمّادي ، وشاهده جميع الفلوبيس وهو على حصانه السريع ، يقطع الحقول المجاورة فقال نسيب للنسيب الأخر: " يبدو إنه "تشينار المستبد" ، وسيكون لصالحنا لو يقف إلى جانبنا فنفوز بالمعركة ، علينا أن نتحدث معه . واتجه عدد من المحاربين نحو غوربو وسألوه : " إلى أين تذهب؟ ما هو غرضك؟ ". : " اذهبُ إلى أين تكون هناك حرب ، وأساعد من يحلو لي " . :" أنت !! ألست َ أنت تشينار !!؟ ". : " نعم ، أنا تشينار " . :" هل تريد مساعدتنا ؟ ". :" كم عدد أنسباء الملك الذين يسيرون معكم؟ " . : " اثنان " . :" إذا دفع كلً واحدٍ منهما أذنه لي فسوف أساعدكم ". :" هذا ليس ممكنا ً!! ماذا سيقال في المدينة؟ " . :" انه بسيط جداً- قال غوربو- فليقولوا إنهم فقدوها في المعركة فهذا يحدث عادة ، وكذلك لأشرف الناس " . مضى الرجال على خيولهم نحو المكان الذي يتجمع فيه الآخرون ، وقصّوا ما سمعوه على نسيبي الملك . في البداية لم يوافقا ، وفيما بعد وافقا على أن تقطع أذناً واحدة من كل واحد منهم ، وبعثوا بهما إلى غوربو . خبّـأ غوربو الأذنين في جيبه ، و تقدم إلى رأس القوات وهو يقول : :" لا تقولوا إن "تشينار" قد ساعدكم " . : " لا !! لا !! لا لن نقول " ، أجاب الفلوبيس . لحقوا بالطوارق، وتحاربوا معهم ، فربح الفلوبيس الحرب ، ابتعد غوربو، ومضى على خيله نحو بيت الفلاح الذي يختبأ عنده رجله المدرع ،وهناك ترجل عن الحصان ، وخلع ملابسه والسلاح ، وارتدى الملابس الرثة ، وركب الجحش وعاد إلى المدينة . وفي طريقه إلى هناك ، وفي طرقات " ساريما " رآه الحداد الذي أمّن له المأوى في اليوم الأول ، فقال له : "لا تدق باب بيتي!! أنت لست فلوبيس!! أنت زنديق !! أو عبد !! أنت لست محارباً ولا فلوبياً !!". وفي الأثناء عاد الفلوبين مبتهجين منتصرين ، ومعهم القطعان التي استردوها ، وقد خرج الناس سعداء ليحييوهم ، وكذلك خرج الملك لاستقبالهم ، وقال: " لا يزال هنا محاربون شجعان ، لا يزال هنا فلوبيس ، هل عاد الجرحى؟ " . أحد نسائب الملك قال: " عندما انطلقت إلى المعركة واجهني أحد الطوارق ، وكان ضخماً جداً فضربني بسيفه ، فأبعدت رأسي فقطع السيف أذني ، وبفضل ذلك فإنني قد نجوت " . قال الصهر الثاني : " عندما كنت أهاجم في الجانب الآخر أحد الطوارق ، وكان قصيراً ، فسارعني من الأسفل بطعنة من سيفه الطويل على عنقي، وكاد أن يقطع رأسي ، لكنني انحنيت فاخذ أذني " . قال الملك حمّادي : " إن سماع مثل هذه الأمور يفرح الروح ، أنتم أبطال ، لكن قولوا لي : ألم تشاهدوا صهري الثالث؟ " . : " آه ذاك!! منذ البداية اتخذ اتجاه معاكساً . قال الجميع ذلك وهم يهزأون . وفي هذه اللحظة كان "غوربو" يأتي من الجانب الثاني ، يركب على الجحش ، وعندما اقترب منهم ، سرّح الدابة فراحت تخبب . وعند رؤيته قادماً بهذه الهيئة المسيئة بدأت "كودو" بالبكاء بمرارة ، وهي تقول: " يا أبتي!! يا أبتي!! أية تعاسة جلبتها لي!! " . خلال الاحتفال كان صفوة الفلوبيس يجلسون على شكل دائرة ، يروون ما فعلوه ، فسمعهم "غوربو" من احدى الزوايا ،غقال أحدهم: " عندما جندلت أول واحد على مرأى من الأعداء...." . وقال الثاني : "عندما استوليت على الخيول... ". وقال ثالث : " نعم فأنتم لستم مثل زوج "كودي أردو" فأنتم أبطال بحق وحقيق " . كان النسيبان الاثنان يكرران نفس الرواية عن فقدانهم لآذانهم في المعركة . وكان غوربو هناك في الجانب يستمع إلى كل شيء ،وفي جيبه كانت الأذنان . وعندما حلّ الليل ذهب إلى البيت فقالت "كوردو" له : "أنت جبان !! " . في اليوم التالي هاجم الطوارق المدينة بأعداد كبيرة ، وعند مشاهدتهم من بعيد اجتمع كل رجال المدينة القادرين على حمل السلاح ، وركب غوربو الجحش، ثم انسل خفية من المدينة ، فأخذت الناس تصيح : " انظروا إلى هناك!! إلى نسيب الملك!! كيف يهرب نسيب الملك ؟ " . وبدأت "كوردو" تبكي وتقول: " يا أبتي!! يا أبتي!! أية تعاسة جلبت لي!! ". ذهب غوربو إلى بيت الفلاح الذي ترك ملابسه عنده وحصانه وسلاحه ، وعندما وصل قفز عن الجحش وقال لرجله المدرع : " بسرعة! بسرعة! هيئ لي خيلي وأشيائي ، فاليوم هناك تطورات مهمة ، لقد هاجم الطوارق المدينة بأعداد كبيرة جداً ، ولا يوجد هناك من يعرف كيف يصدونهم " . : " وهل يمكنني مرافقتك؟ ". سأل " ألآل" . قال "غوربو ديكي ": "لا ، ليس اليوم " . ارتدى ثيابه الجيدة ، وأخذ سلاحه ، و وثب إلى حصانه ، وانطلق على وقع الحوافر القوية والسريعة . في الأثناء كان الطوارق قد اقتربوا كثيراً ، و هاجموا المدينة حتى انهم تمكنوا من دخولها ، وقسم منهم تقدم باتجاه قصر الملك . وصل غوربو في الوقت المناسب ، اخترق صفوف الطوارق يضرب بسيفه يميناً وشمالاً . لقد وصل في اللحظة الحاسمة إلى قصر حماه . في تلك اللحظة ، كان بعض الطوارق يحاصرون "كودو أردو" ، يريدون سبيها ، وعندما رأت "كودي أردو" الفارس الفولبي الشجاع يصل ، استغاثت بصوت عال: " يا آخي العظيم!! تعال و خلصني !! لقد فرّ زوجي بجبن وخسة " . وبرمح طويل أبعد "غوربو" أحد الطوارق ، وجرح طوارقياً آخر ، لكن أحدهم تمكن من جرحه قبل أن يفروا جميعهم ، وعندما رأت "كودي أردو" الجرح البالغ والخطير صاحت : " أوآه أيها الأخ العظيم !! لقد أنقذتني ، لكنك أُصبت " . مزقت نصف ثوبها ، وربطت بالقماش فخذه النازف . وفي الحال خرج "غوربو" من هناك وهجم على الطوارق ، يضربهم بسيفه في كل الاتجاهات ، ويجعلهم يفرّون ، عندها خرج الفلوبيس يلاحقونهم ، لكن غوربو ذهب الى بيت الفلاح ، حيث هناك رجله المدرع "ألآل " ، وهناك ربط الحصان وخلع ملابسه و سلاحه ، ثم ارتدى ملابسه الرثة ، وعاد إلى المدينة وهو يركب الجحش . وعندما رآه الحداد الذي كان قد استقبله أول مرة من قبل صاح الحداد: " انظروا إلى هذا البائس! الزنديق! هذا الكلب الأجرب! هذا الجبان ! هيا أسرع بالمرور من جانب بيتي !! " . فقال غوربو: " ماذا تريد؟ منذ أن جئت إلى هنا وأنا أقول إنني ابن ناسٍٍٍٍ فقراء " . وبعد أن قال ذلك ، سرّح الجحش واتجه إلي الساحة الكبيرة ، حيث كان هناك عدد كبير من الفلوبيس مجتمعين في مجلس الملك حمّادي ، يتحدثون عما جرى ذلك اليوم وكانت كودو بينهم . عندما وصل غوربو بهيئته البائسة ، بدأت كودو تبكي و تقول : " آه ياأبتي آه يا أبتي أية تعاسة جلبت لي!! فلقد كان من بين الفلوبيس رجال أكثر شجاعة وفروسية " . فقال غوربو : " منذ اليوم الأول لزواجنا قلت لك : إنني ابن ناسٍٍ فقراء ، وقلت لأبيك : إنني لا أفهم في الخيول ولا في الحروب " . فأخذت كودو تبكي وتقول: " جبان! بائس ! خوّاف!" . وجلس غوربو غير مبالٍ في إحدى الزوايا . حلّ الليل و ذهب الفوليبس إلى بيوتهم ، ولم تقدر كودو على النوم ، كانت تفكر في زوجها الجبان وفي الفارس الشجاع الذي أنقذها ، وفي منتصف الليل نظرت إلى مكان نوم زوجها ، فشاهدت آثار دماء ، كانت تنزّ من ربطةٍٍٍ على فخذه ، والربطة كانت قطعة من ثوبها الذي مزقته من أجل إسعاف الفارس الشجاع . كانت الربطة مشدودة على فخذ زوجها الذي عاد راكبا على الجحش ، فنهضت كودو وسألت زوجها: " قل لي : من أين جاءتك هذه الجرح؟ " . فرد عليها غوربو: " خمّني " . فسألت كودو: "من قصّ الثوبَ لربط جرحك؟ " . قال غوربو: " خمّني " . فسألت كودو: " من تكون أنت؟ " . فقال غوربو : " ابن أحد الملوك ، لكن لا تقولي شيئاً الآن ، قومي و حضّري زبدة لتضعيها على جراحي " . أحضرت كودو الزبدة ، وسخنتها ثم صبّتها على الجرح وربطتها ، وبعدها خرجت لترى أمها ، فجلست إلى جوارها ،وبدأت تبكي وتقول: " زوجي ليس جباناً ، لم يهرب ، إنه الرجل الذي أنقذ اليوم المدينة من الطوارق ، لكن لا تقولي ذلك لأحد " . وانسلت بصمت . في اليوم التالي عاد غوربي يركب الجحش ، وذهب إلى بيت الفلاح الذي ترك فيه رجله المدرع وأسلحته وثيابه و حصانه. : " الآل !! قال لرجله المدرع ، لقد حل اليوم الذي علينا فيه أن نقدم أنفسنا إلى ساريام وإلى الملك العظيم حمّادي ، اسرج خيلي وخيلك أيضا ". وارتدى غوربو ثيابه الفارهة ،وأخذ سلاحه ،ودخل ساريام ممتطيا حصانه يتبعه الرجل المدرع . توقف في الساحة الكبيرة ، حيث كانت أعداد من الفلوبيس مجتمعين . غرس المدرّع قطعتين رائعتين من الفضة ليربط بهما رسن الخيل . نادى غوربو على زوجته التي جاءت في الحال و حيّاها مبتسماً وبعدها اتجه نحو الفلوبيس وقال: أنا غوربو ديكي وهذه زوجتي كودي أردو ، أنا ابن أحد الملوك ، أنا من هزم الطوارق البارحة وأول البارحة . : " لا أصدق ذلك " . قال الملك . فرد عليه غوربو: " اسأل من كان معي في القتال " . فقال الجميع: " هل هذا صحيح ؟ لقد رأيناك تفرّ دائما على الجحش " . لكن نسيبي الملك فقط هما اللذان قالا : " لسنا متأكدين " . عندها أخرج غوربو الأذنين من جيوبه ، و قال : " هل تعرفون هذين الأذنين؟ " . اخفض الاثنان رأسيهما ولم يقولا كلمة واحدة . اقترب الملك من غوربو ، وركع أمامه قائلا: " اعذرني ، وهاك المُلكُ من يدي " . فقال غوربو: " أيها الملك حمّادي أردو ، أنا لست أقل منك ، أنا أيضاً ابن عائلة من الأردو ، و بما أنني أصبحت ملكاً فإنني آمر بإحضار الحدّاد الذي هزّأني وسخر مني لمرات عدة . آمر أن يجلد مائة سوط على إليته . وهذا ما حصل.
* Flubes :الفلوبيس تطلق على سكان القسم الغربي من الصحراء الافريقية (المترجم )
دان— أوتا
هذه إحدى الحكايات التي يرويها كبار السن في ليالي الشتاء حول مواقد النار عند القبائل في أراضي مالي الشاسعة .
قبل سنين بعيدة ، في وقت ألقى الزمان به من وراء ظهره ، تزوج رجل من امرأة ، وذهبا وحيدين إلى الغابة ، وهناك زرعا الأرض واستخرجا منها ما يكفي حاجتهما ، وبعد انقضاء سنة ولدت لهما ابنة أسميها "سارا " ، و استمرا وحيدين ، وعندما أصبحت " سارا " شابةً ، جاءهما طفلُ آخر أسمياه "دان—أوتا " . وبعد فترة مرض الأب فقال لنفسه:" إنني أموت" . ونادى على ابنته سارا وقال لها : " يبقى " دان أوتا " معك ، لا تتركيه ، وفوق كل شيء اعملي على أن لا يبكي دان أوتا أبداً " . و ما أن قال الأب ذلك حتى مات . وبعد فترة مرضت الأم وقالت لنفسها :" إنني أموت " . ونادت سارا وقالت أمها لها: " ليبقى دان أوتا معك ، لا تتركيه ، و فوق أي شيء إياك أن يبكي أبداً " . وماتت الأم بعد أن قالت ذلك . بقي الطفلان وحيدين في الغابة ، وكان قد تبقى لهما مخزون قليل من الذرة ، ومن الطحين المستخرج من شجرة الخبز ومن الفاصولياء الناشفة ، فقالت سارا : " بهذا لدينا ما يكفينا ، لنأكل إلى أن يصبح دان أوتا رجلاً ويمكنه زراعة الأرض " . وبدأت سارا تطحن الذرة لتحضّر الطعام، و عندما أصبحت الذرة طحيناً وضعته في إحدى القرعات ، وأخذته إلى الكوخ لتخبزه ، وبعدها خرجت لتبحث عن الحطب ،وقد تركت دان أوتا وحيداً يحبو على الأرض ، وبالكاد يحاول الوقوف على قدميه ، وعندما شعر أوتا بالملل اقترب من القرعة ، فقلبها ، وأخذ جمرة من الموقد ، وخلطها بالطحين . عندما عادت سارا ورأت ما فعله دان أوتا صرخت : " أي ! يا أخي دان أوتا ماذا فعلت؟! لقد أتلفت طحين طعامنا اليوم !! " . فبدأ دان أوتا بالبكاء ، لكن سارا قالت في الحال : " لا !! لا تبكِ يا دان أوتأ ، فأبوك وأمّك قالا لي ألا ّ أدعك تبكي أبداً " . عادت سارا للخروج ، و عاد دان إلى الملل . وعندما رأى الجمرات تتوهج أخذ دان واحدة منها ، و زحف خارج الكوخ ، فأشعل النار في مخزون الذرة وفي طحين شجرة الخبز والفاصولياء ،عندها وصلت سارا ورأت كلّ شيء ، وقد أكلته النار فصرخت : " أي !! يا أخي دان !! ماذا فعلت ؟ لقد حرقت كلّ شيء كان عندنا لنأكله !! كيف سنعيش الآن؟ " . وعندما سمعها دان ، بدأ بالبكاء ، لكن سارا قالت له بسرعة: " يا أخي دان أوتا لا تبكِ لقد أوصاني أبوك وأمك ألاّ تبكي أبداً ،وها أنت قد أحرقت كل ما كان عندنا ، لا بأس ، تعال لنرى ماذا نفعل لنأكل " . وضعت سارا دان على ظهرها ، وربطته بثوبها وانطلقت نحو الغابة ، فعثرت على طريق مشت فيه حتى وصلت إلى إحدى المدن ، فوجدت نفسها في حي الملك ، وهناك استقبلتهما الزوجة الأولى للملك ، وأبقتهما ليسكنا معها ، و صارت تقدم لهما الطعام يومياً . كانت سارا دائماً تحمل دان أوتا على ظهرها ، فأخذت النساء الأخريات يسألنها : " سارا لماذا تحملين دان على ظهرك دائماً ؟ لماذا لا تضعيه على الأرض و تتركيه يلعب مع الأطفال الآخرين؟ " . فأجابت سارا: " دعوني وحالي فان أبي وأمي أوصياني ألاّ يبكي أبداً ، وعندما أحمله على ظهري فإنه لا يبكي ، عليّ أن أحرص ألاّ يبكي " . لكن دان أوتا في يوم من الأيام قال لسارا : " أريد أن ألعب مع إبن الملك " . فوضعته سارا على الأرض ، و أخذ دان يلعب مع ابن الملك ، تناولت سارا جرّة وخرجت لتبحث عن الماء ، وفي الأثناء أخذ ابن الملك غصنًا فأخذ دان غصناً أخر وبدأ الاثنان يلعبان بالأعواد ، فقلع دان إحدى عيون ابن الملك والذي ارتمى سريعاً على الأرض . في هذه اللحظة كانت سارا قد وصلت ، ورأت دان و قد اقتلع عين ابن الملك . لم يكن أحدٌ هناك ، لكن ابن الملك بدأ يصرخ، فتركت سارا الجرّة ، وأخذت دان اوتا و خرجت من حي الملك ، ومن ثم خرجت من المدينة كلها بما أمكنها من عجلة . لم يكن أحدٌ موجوداً عندما اقتلع دان عين ابن الملك ، لكن الطفل استمر بالبكاء والصراخ فسمعه الملك وسأل: " لماذا يبكي ابني؟ " . خرجت نساؤه ليرين ماذا حدث ، وعندما لاحظن المصيبة ، أخذن بالصراخ فسمع الملك صرخات زوجاته الأربعين ، فهرع إلى المكان . : " ما هذا؟ من فعل ذلك؟ " . سأل الملك . فأجابه ابنه: " إنه دان أوتا " . قال الملك لحراسه: " اخرجوا ، اذهبوا في كل أرجاء المدينة ، ابحثوا عن سارا و دان أوتا " . انطلق الحراس وبحثوا في كل بيت ، لكنهم لم يجدوا ضالتهم، فجمع الملك كل ناسه وكل جنوده الراجلين المشاة والخيالة وقال لهم : " لقد هربت سارا ومعها أخوها دان أوتا من المدينة ، فابحثوا عنهما في الغابة ، وأنا سأذهب بنفسي مع الخيالة للبحث عنهما " . لقد مضى يومان متتاليان على سارا وهي تمشي ، ودان أوتا على ظهرها ، ولم تقو بعد ، لكنها رأت من بعيد الملك وجنوده قادمين ، وكان بالقرب منها شجرة ضخمة، فقالت سارا لنفسها : " سأصعد هذه الشجرة ، وهكذا يمكنني الاختباء بين أوراقها " . وصعدت إلى الشجرة يرافقها دان على ظهرها ،واختبآ بين الخضرة الكثيفة ، وبعد قليل وصل الملك وجنوده إلى الشجرة فقال الملك : " لقد امتطيت خيلي ليومين وأنا متعب ، ضعوا كرسيّ الخيزران تحت هذه الشجرة ، أريد أن أرتاح " . نفذّ الجنود ما آمر به الملك ، واسترخى الملك على كرسيه تحت الغصن الذي تجلس عليه سارا ودان أوتا . تململ دان أوتا ، لكنه شاهد الملك في الأسفل فقال : "سارا ! سارا !" . : " اسكت يا دان أوتا !! اسكت!!". فبدأ دان بالبكاء ، وأخذت سارا تقول له : " لا تبكِ يا دان أوتا !! لا تبكِ فأبوك وأمك قالا لي : ألاّ تبكِ أبداً ، فقل ما تشاء " . فقال دان أوتا : " سارا أريد أن "أسوي بيبي" ، أن أبول على رأس الملك ". فغضبت سارا و قالت : " أي يا دان أوتا !! سوف يقتلنا إذا فعلت ذلك " . فبدأ دان بالبكاء . فقالت سارا له : لا تبكِ ،وافعل ما تشاء " . وفعل دان ما يريد ، وسقط السائل على رأس الملك ، الذي وضع يده على رأسه ، وتحسس الشيء الذي سقط على رأسه وقال : " هذا براز !! " . فنظر الملك إلى أعلى ، و رأى سارا و دان أوتا . فصرخ : " احضروا الفؤوس ، وقصوا الشجرة " . فركض رجاله ، و جلبوا الفؤوس ، وبدؤوا يضربون على جذع الشجرة . أخذت الشجرة تهتز ، وازدادت ضرباتهم القوية ، فانحنت الشجرة ، عندها قالت سارا :" الآن سيقبضون علينا ، وسوف يقتلوننا " . في الحال انطلق طائر عملاق فوق الغابة ، وجاء ليحطّ على الشجرة التي كانت سارة ودان يختبئان فيها ، شاهدت سارا الطير و هو يقترب فقالت : " يا طائري العملاق إن رجال الملك سيقتلونني أنا و دان آخي ، إذا أنت لم تنقذنا " . سمع الطير العملاق ما قالته سارا ، فاقترب منها ومن أخيها ، فوضعت سارا دان على ظهرها ، لكن الشجرة سقطت في الحال ، فالتقط الطائر سارا وأخيها وطار بهما عالياً فوق الغابة ، واستمر بالتحليق عالياً . نظر دان إلى الطائر، فلاحظ أنه يحرك ذيله كأنه مقود، فتمتع برؤية ذلك ، لكنه بعد قليل تململ وقال : " سارا ! سارا ! " . ردت سارا : "ماذا تريد بعد يا دان أوتا ؟ " . فبدأ دان بالبكاء . فقالت سارا: " لا تبكِ !! لا تبكِ !! فأبوك وأمك أوصياني ألاّ تبكي ، افعل ما تشاء " . : " أريد أن أضع إصبعي في هذه الفتحة التي تحت ذيل الطائر !! " . فقالت سارا : " إذا فعلت ذلك فسيدعنا الطير نهوي ، و سوف نموت ، لكن لا تبك ، وافعل ما يحلوا لك " . فأدخل دان إصبعه في المكان الذي قال عنه ، عندها طوى الطائر جناحيه ، فسقطت سارة وهي تحمل دان على ظهرها ، وعندما كانا قريبين من الأرض ، بدأت رياح قوية تصفر بزوابعها ، فرأتها سارا وقالت لها : " أيتها الريح !! إننا نسقط ،و بعد قليل سنرتطم بالأرض ، وسنموت إذا لم تنقذيننا " . فوصلت الريح ، و اختطفت سارا و دان وحملتهما إلى مكان بعيد، ثم ألقت بهما بهدوء على الأرض ، فكان ذلك المكان غابة في إقليم بعيد . تقدمت سارا مع دان في الغابة وعثرت على طريق . ومشت فيه ودان على ظهرها ، حتى وصلا إلى مدينة كبيرة وأكبر من كل المدن ، يحيط بها سورٌ كبيرٌ وقويّ ، وفي الجدار كانت بوابة ضخمة من الحديد ، كانت تغلق عند الليل لأنه كل ليلة وبعدما ينقضي النهار بقليل ، كان يظهر شبح مخيف يدعونه " دود/ Dod" ، كان مرتفعاً مثل البغل ، لكنه لم يكن بغلاً ، وكان طويلاً مثل أفعى ضخمة ، لكنه لم يكن أفعى ، كان قوياً مثل الفيل ، لكنه لم يكن فيلاً ،كانت له عينان تتقدان فتضيئان في الليل مثل الشمس في النهار ، وكان له ذنب . كلّ ليلةٍ ، كان الدود يزحف باتجاه المدينة ، ولهذا السبب أقاموا السور والبوابة الضخمة ، ومن تلك البوابة دخلت سارا تحمل دان على ظهرها ، وخلف السور مباشرة ، والى جانب البوابة ، كانت تسكن امرأة عجوز، فطلبت سارا منها أن تشفق عليهما ، فقبلت العجوز وقالت لهما : " كلّ ليلةٍ يأتي "دود" المريع أمام المدينة ، ويبدأ بالغناء بصوت قويّ وإذا ردد أحد غناء الدود فإنه يدخل المدينة ، ويقتلنا جميعاً ، فاحذري أن يصرخ دان ، وهذا هو شرطي الوحيد لاستقبالكما " . سمع دان كلّ شيء ، وفي اليوم التالي ذهبت سارا إلى وسط المدينة ، لتحضر طعاماً ، وفي الأثناء أحضر دان أغصاناً يابسة وقطعا صغيرة من الخشب ، وجدها إلى جانب السور ، وبعد ذلك انطلق باتجاه المدينة ، وكلما رأى حجراً من "الماكودي/ Makodi" ، وهو حجر الصوان الذي يستخدم للجاروشة، كان دان أوتا يأخذه ، وهكذا جمع مائة حجر صوان وبعدها قال : " تبقّى لي بعض الجمر ، وتابع في المدينة فرأى بعضها ملقى ومهملاً . وإلى جانب السور الذي كوّم عنده الحطب ، وضع أحجار "الماكودي" وأخفى الجمرات تحتها . ولم يشعر أحد بفعلته هذه . في الليل قالت سارا له : "ادخل بسرعة إلى البيت يا دان أوتا ، فـ"دود" المرعب سيأتي بعد قليل ، و يمكن أن يقتلنا " . فأجاب دان أوتا: " هذا اليوم أريد أن أبقى في الخارج " . قالت سارا :" ادخل إلى البيت " . وبدأ دان بالبكاء ، لكن سارا بسرعة قالت له: " يا أخي دان أوتا !! لا تبكِ !! فأبوك وأمك أوصياني ألاّ تبكي ، وإذا أردت البقاء خارج البيت ، فابق " . دخلت سارا إلى البيت عند العجوز وبقي دان أوتا في الخارج، يجلس أمام بيت العجوز. كان كلّ سكان المدينة في بيوتهم ، وقد أغلقوا الأبواب عليهم ، وكان دان أوتا هو الاستثناء الوحيد ، فركض إلى المكان الذي كوّم فيه الحطب ، وأشعل فيه النار فصارت أحجار الصوان حمماً متقدة ، وفي هذه اللحظة أحس بقدوم الوحش "دود" ، فصعد دان أوتا على السور ، وشاهد "دود" قادماً من بعيد ، كانت حدقات عينيه تضيئان مثل الشمس ، وسمع دان أوتا "دود" وهو يغني بصوت قوي و مرعب : : " فوايانني أغارينانا ني "دود " /vuayanni agarinana ni dod " . ومعناها : من يشبهني في هذه المدينة أنا "دود"... عندما سمع دان أوتا ذلك ، وهو يجلس على الجدار ، فلقد بدأ بالغناء و بكل قوته وجه صوته نحو "دود": " ناي ياكاي أغارينانا ناي ياكي ني أوتا/ naiyakay agarinana naiyakai ni auta " ومعناها: " أنا أشبهك في هذه المدينة أ نا أوتا " . عندما سمع "دود" ذلك ، بدأ يقترب من المدينة ، و يقترب ، ويقترب ، فوصل قريباً جداُ ، وصار يغني : " من يشبهني في هذه المدينة أنا "دود" " . وعندما غنى "دود" ذلك ، بدأت الأشجار تهتز في الغابة ، والأعشاب اليابسة بدأت تشتعل ، لكن أوت أجابه : " أنا من يشبهك في هذه المدينة ، أنا أوتا " . قفز "دود" عن السور ، ونزل أوتا راكضاً ، وذهب إلى جانب النار التي أشعلها ، فكانت أحجار الصوان تتوهج متقدة . عندها غنّى الدود ثانية بصوت أكثر رعباً من قبل ، فأجابه دان أوتا مرة ثانية ، بينما كان الناس في المدينة يرتجفون من شدة الخوف والهلع لسماعهم صوت الشبح المريع . فاستوحش "دود" واستشرس كما لم يكن من قبل ، و بدأ يردد أغنيته ، وعندما فتح فمه وقال : " فواياننيvuayanni/من يشبهني .... " . قذفه دان أوت بأحجار الصوان العشرة ، فدخلت إلى حلقه . واستمر "دود" ، يريد إكمال أغنيته وقال: " في هذه المدينة..." . عندها قذفه أوتا بعشرة أحجار اخرى ، فبلع الصوان المتقد ، وهاج ، و بصوت منخفض أتمّ المقطع الأخير من أغنيته : أنا"دود"... انتهز دان أوتا فتح الشبح لفكيّه ، وأدخل فيها ما تبقى من الصوان المشتعل ، فصار الشبح يتلوى ، ثمّ سقط على الأرض هامداً . فصعد أوتا إلى الجدار وبدأ يغني بصوته الطفولي: " من يشبهني في هذه المدينة ؟ أنا أوتا ". ونزل عن السور ،وأخذ سكينا كان قد أخرجها من بيت العجوز وأخفاها عن أخته ، وبتلك السكين قطع أوت ذيل الشبح ، وأخفاه في مخلاة ، ودخل بها إلى غرفة العجوز،حيث انسل إلى فراش سارة ونام . في صباح اليوم التالي ، خرج جميع الناس سكان المدينة من بيوتهم ، أمـّا أرفعهم شأنا ، فلقد ذهبوا للقاء الملك ، الذي سألهم: ما هذا الذي جرى في الليلة الماضية؟ ". فأجابوه : " لا نعرف ، لقد كدنا نموت من الخوف، ولقد جرى الحادث قرب السور والبوابة الحديدية " .عندها قال الملك لوزيره المتخصص بشؤون الصيد: " اذهب ، وانظر ماذا حصل " . ذهب وزير الصيد إلى المكان ، و صعد إلى السور فشاهد "دود" ميتاً . فعاد راكضاً إلى الملك وقال له : " إنّ رجلاّ جباراً قد قتل الدود " . فأراد الملك رؤية ذلك ، وامتطى جواده ، وانطلق إلى السور ،وهناك رأى الشبح ممدداً وقد فارقته الحياة ، فصاح: " حقاً !! لقد مات الدود !! و قد قُُطعَ ذيلـُه !! احضروا لي الرجل الشجاع الذي قتله " .أحد الرجال ممن كان يمتلك لبوة ، قام بقتلها وقطع ذيلها ، وآخر كان عنده جمل فقد ذبحه وقطع ذيله ، وآخر كانت عنده بقرة فذبحها وقطع ذيلها . و ذهب كلّ واحد منهم إلى الملك و أبرز ذيل حيوانه وكأنه ذيل "دود" ، لكن الملك عرف الخديعة فقال: " كلكم مخادعون !! ولم تقتلوا "دود"!! فالدود لم يقتله رجل من المدينة ، أنا والجميع سمعنا صوت طفل " . وسأل: " هل يسكن بالقرب من البوابة الحديدية أيّ طفل غريب؟ ". فذهب الجنود إلى بيت العجوز وسألوها: " أيتها العجوز !! هل يسكن هنا طفل جاء من الغابة؟ " . : " يسكن معي سارا وأخيها دان أوتا " . فتوجه الجنود بالسؤال إلى سارا: " سارا !! هل كان أوتا الصغير هو من قتل "دود" ؟ " . أجابت سارا : " أنا لا أعرف شيئاً !! اسألوه هو!! ". :" دان أوتا !! هل أنت من قتل "دود" ؟، فالملك يريد أن يعرف ذلك " . لم يجب دان أوتا ، إنما أخذ المخلاة وذهب مع الجنود إلى الملك ، وهناك فتح المخلاة وأخرج ذيل "دود" ، ثم أبرزه إلى الملك ،عندها قال الملك : " نعم دان أوتا!! دان آوتا هو الذي قتل "دود" المريع " . وقام الملك بمنح مائة زوجة إلى دان آوتا و مائة حصان و مائة عبد و مائة بقرة ومائة ثوب و مائة نعجة و نصف المدينة .
ضع تعليقك ://///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////// |
| |