قصة الكتيبه المصريه التى حاربت فى المكسيك
.
هل تعلمون بقصة الجنود
المصريون الذين تم نقلهم للمكسيك بناء علي أوامر والي مصر ليحاربا باسم
إمبراطور فرنسا نابليون الثالث (و الذي كان يحارب أهل المكسيك باسم أرشدوك
النمسا!)
لسبب ما لا تشير الكتب العسكرية الفرنسية القديمة التي تناولت حرب
المكسيك إلي جنود مصريين او سودانيون عند الحديث عن الفرق والوحدات التي
بعثت بها فرنسا إلي المكسيك ،بينما أشارت بعض المصادر الطبية إلي أن كثيرا
من الجنود الفرنسيس كانوا قد وقعوا فريسة للحمي الصفراء عند قدومهم للمكسيك
بينما قاومت أجساد الجنود المصريين ذلك المرض، و كان ذلك مصدر اهتمام
واختلاف بين الأطباء فعزا بعضهم ذلك لاختلاف عرقي يتمثل في مقاومة طبيعية
افترضوا وجودها لدي الافارقه. وأيد ذلك الزعم طبيب أمريكي هو ها. ر. كارتر في
كتابه الشهير عن الحمى الصفراء و الصادر في 1931، بينما رأي الطبيب
البريطاني هوير في مقال له في المجلة الطبية لانست Lancet عام 1934 أن
مقاومة الجنود المصريين للحمي الصفراء قد تعزي لتعرض هؤلاء الرجال لعدوي
ذات المرض في وقت سابق لسفرهم للمكسيك مما قد يكون قد أكسبهم مناعة ضد ذلك
المرض. رصد بعض المؤرخين الفرنسيس كتابات متفرقة عن تاريخ الجنود
المصريين في المكسيك، بيد أن ما كتبه الأمير عمر طوسون عام 1933 عن
"بطولة الأورطة (الكتيبة- المترجم) المصريه في المكسيك" يعد من أكمل ما
كتب عن الموضوع، و لما كان مقال الأمير بالعربية، فإنه لم يك معروفا لأغلب
الباحثين و المهتمين بتاريخ تلك ا الكتيبة. ركز مقال توماس المنشور في
"المجلة الأوغندية" علي بقايا أغراض تم العثور عليها في الاستوائية و
يوغندا لبعض أولئك الجنود العائدين من المكسيك. و في ما عدا ذلك فإن ما هو
موثق لأولئك الجنود لا يتعدي بعض الوثائق المطمورة في أضابير أرشيف الحكومة
أو في رسائل قديمة منسية لبعض الأفراد أو في بعض الكتابات التاريخية التي
خطها بعض الجنود المصريين مثل عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" علي جدران
بعض الكنائس والمعابد القديمة المتهالكة
شهد تاريخ المكسيك منذ
سقوط الإمبراطوريات الأيبيرية 1884
تشاحن ملتهب وتمرد عنيف و صراعات مدمرة كانت إمبراطورية ماكسميليان تمثل
فقط أحد فصولها الدامية. كانت أوصال المكسيك تتمزق بين عامي 1858 – 1861 في
رحى حرب أهلية بين حكومتين متناحرتين، إحداهما دينية محافظة يقودها محارب
طموح قدير يسمي ميجيل ميرامون Miguel Miramonوكانت الأخرى تقدمية علمانية
يقودها رجل هندي يمتاز بوضوح الفكرة و البيان و يدعي بنيتو يوريز Benito
Juarez (قيل أن بنيتو موسوليني قد سمي عليه) وكان رجال الكنيسة الكاثوليكية
لا يكفون عن الهجوم عليه لقيامه بإجراءات عنيفة و شاملة هدفت إلي تقليم
أظافر الكنيسة و سلطتها و ثرواتها الطائلة. لجأ الطرفان إلي السلاح و
احتكما إليه وفي ذلك اعتمدا علي المال الذي كانا يقترضانه من أوروبا، و لم
يقصرك طرف من الطرفين المتحاربين في بذل الوعود السخية بدفع تلك الديون
حالما تضع الحرب أوزارها وينتصر علي عدوه اللدود. كانت الولايات المتحدة
تعترف بحكومة بنيتو يوريز وتقف في صفها، بينما ظفر الطرف الآخر بعون رجال
المال في أوروبا، فقام مصرفي سويسري يقيم في باريس أسمه جيكير Jekker
بإقراض حكومة ميجيل ميرامون 750000 دولار أمريكي مقابل أن يعطيه ميرامون
سندات (بفائدة 6 %) قيمتها الاسمية نحو 15 مليون دولار أمريكي! خسر ميرامون
الحرب في 1861 بيد أن ذلك لم يمنع ذلك المصرفي السويسري من أن "يقنع"
بوسائل فاسدة القنصل الفرنسي في المكسيك ديبو دي سالقني Dubois de Saligny
بحقه في استرداد أمواله من قدر له الانتصار وحكم المكسيك، و تبني الشقيق
الأصغر للإمبراطور نابليون الثالث مطلب جيكير في استرداد أمواله مضاعفة
أضعافا كثيرة من يحكم المكسيك، بعد أن ينال هو 30% (كحقه) في العملية! لم
يك من العسير إثارة اهتمام نابليون الثالث بالمغامرة في المكسيك، فلقد ظل
الرجل في معتقله في هام Ham يحلم بأمريكا وسطي متحضرة ومنتعشة اقتصاديا
ومنفتحة علي التجارة العالمية والأسواق بواسطة بقناة تصلها بالمحيط. وساهم
رجالات الدين المكسيك المهاجرين في باريس (و منهم بطريك المكسيك) في
استمالة الإمبراطورة أيوجيني Eugenie (وهي من أصل إسباني) "لتقنع" زوجها
الإمبراطور بمساندة إنشاء مملكة وكنيسة متحدة مركزية في المكسيك. بدا أمر
طرد الهنود الملحدين من المكسيك وإنشاء إمبراطورية كاثوليكية تحت إمرة
التاج الفرنسي هدفا جاذبا وذا منافع مادية مغرية لرجالات الكنيسة
المكسيكية. كانت المكسيك بالنسبة للفرنسيين بلدا غريبا بعيدا لا يعلمون عن
طقسه و جغرافيته إلا النذر اليسير، والذي لا يتعدي أن المكسيك بلد واسع
شاسع مترامي الأطراف وبه من الثروات ما به. كان الوقت ملائما لفرنسا للقيام
بمغامرة غزو المكسيك إذ أن الولايات المتحدة كانت في شغل شاغل بحربها
الأهلية بين الشمال والجنوب، ومثلت الفوضى الحادثة في المكسيك والتعدي علي
الأجانب من قبل الطرفين المتحاربين ذريعة مواتية للتدخل الأجنبي، فلقد
اعتدت الحكومة المكسيكية علي ممثلي السفارة البريطانية والبابوية وعلي وزير
إسباني وتم طرد ممثلي جواتيمالا والإكوادور لاتهامهما بالتدخل السافر في
شئون البلاد لصالح القوى الرجعية. وأوقف برلمان تلك الحكومة دفع ديون
بريطانيا المستحقة في1861، وتم في مرات عديدة استهداف أرواح وممتلكات
الأوربيين دونما تعويض أو حتى مجرد تفسير. تحالفت فرنسا مع بريطانيا العظمي
وإسبانيا علي العمل سويا علي هدف محدد ومحدود إلا وهو استرداد الأموال
التي أقرضوها للمكسيك مع أرباحها، وتم التوقيع علي ميثاق ذلك التحالف في
لندن يوم 31/ 10/ 1861. وما أن حل يوم 14 /12 من ذات العام حتى كانت القوات
الأسبانية تحت إمرة الجنرال بريم Prim تحتل فيرا كرز وأعقب ذلك بفترة
وجيزة وصول الأسطول الفرنسي محملا بالجنود الفرنسيين لاحتلال كامل شواطئ
وموانئ خليج المكسيك وتحصيل الجمارك لصالح الدول الثلاث إلي حين التوصل إلي
تسوية شاملة. بعثت بريطانيا العظمي بسفنها للمنطقة بيد أنها أكتفت بإنزال
700 فقط من جنودها في المكسيك. ولما كان الطقس وخيما في فيرا كرز فلقد قر
رأي الدول المشاركة في الحملة بعد عقدهم لمؤتمر مشترك مع الحكومة المكسيكية
في سولي داد Soledad علي أن تعترف هذه الدول باستقلال المكسيك شريطة أن
تسمح الأخيرة لجنود أجانب بالتقدم نحو أوري زابا Orizaba. هنا بدأ الخلاف
يدب بين الدول الثلاث المتحالفة في مستقبل حملتهم المشتركة وطبيعتها
وأهدافها النهائية. ولما كانت فرنسا هي التي أخذت زمام المبادرة باستضافتها
لقادة المعارضة من الرجعيين المكسيك وتبنيها لمطلب المصرفي السويسري جيكير
وإظهارها لشهية عظيمة في التدخل في الشئون الداخلية للمكسيك فلقد آثرت كل
من بريطانيا العظمي وإسبانيا الانسحاب من المكسيك في مارس عام 1862 وترك
"الجمل المكسيكي" بما حمل لفرنسا. بعثت فرنسا بمزيد من جنودها للمكسيك
وتصدت لهم قوات زاراقوزا Zaragoza وبورفيرو ديازPorfirio Diaz في معركة
سنكو دي مايو Cinco de Mayo في يوم 5/5/ 1862 .وفي سبتمبر 1862 أمدت فرنسا
جيشها في المكسيك بثلاثين ألفا من الرجال تحت إمرة الجنرال فوري Forey
وقضت تلك القوات الشتاء في أوري زابا ثم تقدمت في 17/ 2/ 1863 نحو بيوبلا
ودخلت عاصمة المكسيك في السابع من يونيو. وضح من واقع الحال أن الأمر إن هو
إلا حرب احتلال سافرة تهدف إلي قلب حكومة جوريز وإحلال إمبراطورية
كاثوليكية في المكسيك تحت إمرة فرنسا. وتم إقناع ماكسميليان (وهو شقيق
إمبراطور النمسا) ليكون إمبراطورا علي المكسيك (وكان في الواقع إمعة ودمية
في يد الحكومة الفرنسية). كان ماكسميليان رجلا وسيما محسنا لين الجانب رقيق
الحاشية، ومن النوع المتحرر الذي لا يتوقع أحد أن يرفض أي شعب توليه
لمقاليد حكمه. بيد أن شعب المكسيك لم يرض به وثار عليه و كلف ذلك كله
الحكومة الفرنسية أموالا طائلة ورجالا كثيرين لم تك تتوقع خسارتهم.
فقدت فرنسا في الفترة بين نوفمبر 1861 – يونيو 1873 ما يقارب من 37000 من
الرجال علي شواطئ المكسيك الموبوءة بالأمراض. مات من أولئك الرجال نتيجة
الحمى نحو 1410 رجلا بينما لم يمت نتيجة القتال المباشر سوي 330 رجلا فقط.
فتكت بأولئك الرجال الحمى الصفراء والدوسنتاريا. وضاقت المقابر في فيرا
كرز– علي أتساعها- عن استيعاب الموتى من الجزائريين والفرنسيين، وأطلق
بعضهم ساخرا علي المقبرة التي ضمت أجساد أولئك الجنود "حديقة التأقلم"
Garden of acclimatization . عند ذلك طلب نابليون الثالث من سعيد باشا
والي مصر والابن المفضل لمحمد علي باشا مد يد العون له بفرق مصرية علي
أمل أن تتحمل أجساد أولئك الجنود أمراض المكسيك بأفضل مما فعل
الفرنسيس، و لقد نما لعلم الإمبراطور أن الجنود المصريين قد تم
"استخدامهم" من قبل و بنجاح باهر من قبل محمد علي في اليونان - ومن قبل إبراهيم باشا
في الجزيرة العربية. استجاب سعيد باشا لذلك الطلب بيد أنه بعث فقط بكتيبة
واحدة من فوج المشاة التاسع عشر تتكون من 453 من الضباط و الجنود. كان علي
رأس تلك القوة البمباشي جبر الله محمد أفندي مع نائبه اليوزباشي محمد الماظ
أفندي. أبحرت السفينة سرا من
ميناء الإسكندرية بين ليل السابع و الثامن من يناير واتجهت إلي المكسيك حيث
وصلت إلي فيرا كيرز يوم 23/2/ 1863 أي بعد 47 يوم في عرض البحر. كانت
الكتيبة مكونة من قائد واحد ورائد وملازم واحد وثمانية من الرقباء و15
عريفا و359 من الجنود و39 من المجندين و22 من الأطفال تراوحت أعمارهم بين
10 – 15 عام. كان المجندون – و الذين بعثت بهم شرطة الإسكندرية مساء يوم
الرحيل – شبه عراة، بيد أن بقية رجال الكتيبة- كانوا في كامل زيهم العسكري وهم يحملون عدتهم وعتادهم. مات في
عرض البحر سبعة من الرجال، ربما بسبب حمي التايفويد أو أمراض صدرية، وبعد
الوصول إلي فيرا كيرز بقليل مات 15 رجلا آخرا، و لم يتحدد إن كان هؤلاء
الجنود قد ماتوا بسبب الحمى الصفراء أم بغيرها. كان الكثيرون يعتقدون بأن
تلك الحمى لم تكن موجودة في منطقة فيرا كيرز بين يناير وأبريل 1863 لذا
فلقد ساد الاعتقاد بأن أولئك الجنود قد ماتوا لأسباب ليست الحمى الصفراء
واحدة منها. ومع حلول
شهر إبريل عاودت الحمى الصفراء الظهور في فيرا كيرز بضراوة شديدة و استمرت
في الانتشار حتى ديسمبر من ذات العام. قضت تلك الحمى علي قائد القوات
الفرنسية في المنطقة وأحد عشر من كبار الضباط وكثير من الجنود الفرنسيين،
ولسبب ما لم تصب تلك الحمى أي من الجنود المصريين عدا قائد الجنود المصريون البمباشي جبر الله محمد الذي كان الوحيد من بين المصريين
الذين تسببت الحمى الصفراء – حسب السجلات الرسمية- في موته. ! ترك البمباشي جبر الله محمد بعد موته 5667 فرانك فرنسي تم إرسالها
إلي حكومة مصر لتقوم بإرسالها لورثته. تمت ترقية نائب القائد محمد الماظ
أفندي إلي رتبة البمباشي و تولي القيادة مكان البمباشي الراحل جبر الله
محمد. لم يسلم المصريون تماما من الآثار الممرضة لطقس المكسيك رغم أنهم
أبدوا مقاومة أشد لها من رصفائهم الفرنسيين، بل والمكسيكيين أنفسهم. فعند
نهاية 1863 مات 47 من الجنود منذ سفرهم من الإسكندرية، بينما سقط نحو 43
منهم فقط فريسة لأمراض أخري وقد عزاها البعض لعدم الاهتمام الذي لقيه أولئك
الجنود عند وصولهم لأول مرة في فيرا كيرز، فلم يحاول أحد أن يتعرف علي
لغتهم أو أذواقهم أو طباعهم. لم تكن عملية تنظيم إطعام هؤلاء الجند كافية
وكان الطعام المقدم لهم قليلا لا يتناسب مع الأعمال الشاقة التي كان عليهم
أدائها. وصل المجندون الذين دفعت بهم شرطة الإسكندرية جياعا و شبه عراة في
مساء يوم الرحيل إلي فيرا كيرز وهم في حالة مزرية يرثي لها و كانت أغلب
حالات الموت وسط الجنود من هؤلاء المجندين. تم بعد فترة قليلة من وصل
الجنود إدخال بعض الإصلاحات علي الأوضاع. تمت عملية إعادة تنظيم للكتيبة
علي النسق الفرنسي فتم تقسيمها إلي أربعة فرق و صرفت أوامر محددة تحدد
واجبات كل فرقة وتمت ترقية العديد من أفراد الكتيبة. بعث لخديوي مصر بنسخ
من هذه الأوامر والترقيات للمصادقة عليها. بعث الخديوي بهذه الواجبات و
الترقيات لوزارة الحربية المصرية في 16/3/ 1864 وسرت تلك الترقيات بأثر
رجعي من يوم 11/3/ 1863. كانت أسلحة الجنود المصريون ممتازة بيد أن
بنادقهم كانت من نوع مختلف عما هو مستعمل في الجيش الفرنسي و كان ذلك يمثل
عقبة في ما يتعلق بالذخيرة مما دعا الفرنسيين إلي إعطاء الجنود المصريون
بنادق فرنسية و الاحتفاظ بالبنادق التي جلبها هؤلاء الجنود لحين انتهاء
الحملة. مثلت لغة الجنود المصريون عقبة أخري، إذ لم يكن هنالك من يفهم
لغتهم و لم يكن من السهل شرح كيفية استعمال هذه البنادق الفرنسية الجديدة
لهم.. أشاد الجميع بانضباط هؤلاء الجنود و بالسرعة الفائقة
التي تأقلموا فيها علي الأوضاع الجديدة و ذلك عقب معرفة الفرنسيين
باحتياجاتهم و معالجة مشاكلهم الصحية الصغيرة و التعرف علي مواطن القدرة و
القوة و التميز عندهم. سرعان ما اكتشف الفرنسيون نشاط و همة هؤلاء الجنود
وأنهم أكثر إجادة من غيرهم في المراقبة والرصد وشجاعتهم تفوق الوصف عند
احتدام الوغى، وأنهم يخاطرون بأرواحهم في مواضع يتوجس ويجفل منها الجنود
الفرنسيين. نجح الجنود المصريون نجاحا باهرا في تعقب الفدائيين ورجال
العصابات المكسيكية الذين كانوا لا يكفون عن مهاجمة القوافل التي كانت تحمل
الزاد والمؤن في الأراضي المنخفضة في فيرا كرز، ويعتدون علي نقاط الدفاع
قليلة الحماية. خلال حصار بيبالا (ثانية أكبر المدن المكسيكية) و التي تم
الاستيلاء عليها وعلي حاميتها المكونة من 26 جنرالا و 90 ضابط و12000 فردا
من مختلف الرتب في يوم 17 / 5/ 1863 أمر الجنود المصريين بحماية خطوط
الاتصالات بين تلك المدينة والساحل والتي حاول المكسيك مرارا قطعها. وكلف
الجنود المصريون أيضا بحماية خط السكة حديد الذي كان في طور التشييد مما
عجل بإكماله في وقت وجيز. رافق بعض الجنود المصريون القائد العام للجيش
الفرنسي مارشال بازين Marshal Bazaineعند دخوله لمدينة مكسيكو العاصمة يوم
7/6/ 1863 وشاركوا بفعالية في معارك سبقت وأعقبت سقوط العاصمة، وعندما أقام
الفرنسيون احتفالا ضخما حضره كل ممثلي السلطات المدنية و العسكرية بمناسبة
الاستيلاء علي العاصمة وقع الاختيار علي فرقة مصرية لتكون حرس الشرف، و
بعد الاحتفالات قام الجنود [size=16]المصريون بعرض عسكري في أكبر ساحة عامة في
العاصمة. أثبت الجنود المصريون كفاءة واقتدارا عظيمين لفتا نظر القادة
الفرنسيين مما دعا القائد العام الفرنسي لينتقي من بين الجنود المصريون
فرقة "قوة خاصة" وأن يصرف لكل فرد من أفراد هذه القوة الخاصة علاوة قدرها
65 سنت (تعادل قرشين ونصف) في اليوم، وأن يشرف ويميز أفرادها بلبس شارة
صفراء خاصة علي الذراع. ساهم هذا الإجراء في رفع الروح المعنوية للجنود
والضباط إذ أنه أثبت أن الجنود المصريون قد نالوا احترام و تقدير رؤسائهم
الفرنسيين. ومع انصرام عام 1863 كان الجنود المصريون قد خاضوا ثمان
معارك سجلوا فيها أعلي درجات الامتياز. كتب عنهم حاكم فيرا كيرز و هو يصف
معركة خاضوها في 2/10/ 1863 : " لقد حمل الجنود المصريون العبء الأكبر من
تلك المعركة، ولقد توجتهم تلك الموقعة بأكاليل الفخار. لم يبال أحد منهم
بالنيران الكثيفة التي كان العدو يرميها عليهم من كل صوب. كان عدد أفراد
جيش العدو يفوقهم بتسعة أضعاف، ورغما عن ذلك فلقد نجحوا في "اجتثاثه". كان
أهم إنجاز للكتيبة السودانية هو احتلال فيرا كيرز و حماية خطوط الاتصالات
بين تلك المدينة و الوحدات المتقدمة في داخل البلاد. وتكمن أهمية فيرا كيرز
في أنها الميناء الذي تأتي عبره القوات الغازية والمواد التموينية. لذا
كان من المهم جدا تأمين تلك المدينة و الاتصالات بينها وبين بقية البلاد.
وقام الجنود المصريون بتلك المهمة دون كلل أو ملل من فبراير 1863 إلي حين
مغادرة الجيش الفرنسي للمكسيك في 1867. علقت أميرة في بلاط الإمبراطور
ماكسميليان علي الجنود المصريون قائلة: " هؤلاء السود من أبناء أفريقيا
شديدو الاحتمال لطقس المكسيك وخيم الهواء"، و قامت ذلك الأميرة برحلة من
فيرا كيرز إلي ميدلين Meddelin كان حراسها الشخصيين فيها من الجنود المصريون . وصفت الأميرة الرجال بأنهم طوال نحفاء وأقوياء الجسم يرتدون
زيا أبيضا ناصع البياض و يعتمرون عمامات أنيقة وفي أيديهم بنادق طويلة وفي
أحزمتهم خناجر. وقالت ما معناه: يا لروعة أن تكون في حراسة هؤلاء "الأسود
السود" الذين يمنحونك شعورا عظيما بالأمن والأمان. وصفهم أحد القواد
الفرنسيين بأنهم رجال منظمون، وأضاف ببعض المبالغة أن أحدا منهم لم يمرض
أبدا، وكان يشاهدهم وهم رقود في منتصف النهار القائظ يغطون في نوم عميق تحت
أشعة الشمس الحارقة ويستيقظون دونما أي إحساس بألم أو صداع. وكان يقول أن
أي فرنسي يحاول أن يفعل مثلهم لن يستيقظ من نومته تلك أبدا. ووصفهم قائد
آخر بأن :"لهم روحا قتالية لا تدعهم يتركون أسيرا ليعيش. لم أر في حياتي
روحا قتالية كالتي رأيتها عند هؤلاء المصريون. تري إصرارهم في نظرات
أعينهم و شجاعتهم تفوق الوصف. إنهم ليسوا ببشر بل هم أسود ضارية" منح
الأمباشي عبد الله حسين باشا ميدالية حربية عرفانا بشجاعته وإقدامه وشراسته
عند الوغى لتكبيده العدو أفدح الخسائر. ذكر أن ذلك الأمباشي طعن بسنكي
بندقيته رجلا مكسيكيا رفعه بيد واحدة و السنكي ما يزال منغرسا في جسده.
رفع قائد الجيش الفرنسي في المكسيك و محمد الماظ أفندي تقريرين لوزارة
الحربية المصرية بإنجازات الجنود المصريون في حرب المكسيك وبخسائرهم
وبتفاصيل أخري. رفع الوزير التقرير للخديوي إسماعيل والذي فرح كثيرا
بإنجازات جنوده وقوتهم ومهارتهم وقرر صرف معاشات لأرامل وعائلات من قتلوا
أو ماتوا من الجنود وترقية بعض من تميزوا من أفراد الكتيبة، ووعد بإقامة
احتفالات ضخمة لهم عند أوبتهم لمصر "سالمين غانمين إن شاء الله".
أشاد الفرنسيون بحسن انضباط الجنود المصريون فذكر أحد كبار قادتهم أن كل
فرد من أفراد الكتيبة مفعم قلبه بحسن أداء الواجب علي أتم وجه، وأنه لم
تسجل حالة واحدة لسوء سلوك من أي فرد فيها ولم يتم القبض علي جندي واحد وهو
نائم عن حراسة ليلية أو غافلا عن واجب أو غائبا بدون عذر. و تمت الإشادة
علي وجه الخصوص بالتالية أسمائهم: ملازم فرح الزين، وملازم أول محمد سليمان
والذي ظل واقفا يقاتل رغم تلقيه لستة طلقات نارية أدت لجروح خطيرة ونزف دم
كثير. نال ذلك الضابط فيما بعد ميدالية العشرين من ديسمبر وتمت ترقيته إلي
يوزباشي. كان الجنود المصريون يزيدون – من تلقاء أنفسهم- من أعداد من
عليهم الحراسة دون أن تصدر أوامر لهم بذلك حتى لا يؤخذوا علي حين غرة. و في
ذات مرة كان الملازم صالح حجازي يقود عشرين من الرجال في مهمة معينة، وفي
الطريق اعترض طريقهم 200 من الجيش المكسيكي. لم تثن المصريون قلة عددهم
فمضوا في مقاتلة العدو وتمكنوا من الانسحاب المنظم دونما خسائر. و بما أن
سمعة هؤلاء الجنود المصريون في المكسيك قد عمت في المكسيك وفرنسا ومصر
فلقد أعطي لبعض أولئك الجنود شرف إطلاق مدافع الشرف تحية للإمبراطورة
شارلوت (Charlotte) عند وصولها لفيرا كيرز في ديسمبر 1865. وكان 50 منهم
يمثلون حرس الشرف للأميرة الزائرة و التي نقلت لبعلها ماكسمليان إعجابها
بمقدرات هؤلاء الرجال الاستثنائية وعن حسن مظهرهم ونظافتهم أيضا. عندما بلغ
مكسميليان ذلك أمر لهم بزيادة في الراتب بلغت ثلاثا وثلاثين و نصف سنتا
(تعادل قرشا وربع) يوميا. وعند أوبة الأميرة إلي أوروبا في يوليو من عام
1866 كان الجنود المصريون هم الجنود الوحيدون بالمدينة نالوا شرف
توديعها رسميا. ومع نهاية عام 1865 كانت الأورطة المصريون قد خاضت 37
معركة، كان أغلبها في الشهور الأخيرة لتلك السنة. وخاضت في 1866 احدي عشر
معركة أخري. كانت أعداد الثوار المكسيك تزداد يوما بعد يوم و أشتد رحى حرب
العصابات حتى أنه هاجمت ذات ليلة قوة مؤلفة من 200 من الثوار نقطة مراقبة
كان بها 26 من الجنود المصريون. أتي الهجوم المكسيكي مباغتا، إلا أنالمصريون – رغم قلة عددهم – صمدوا و مضوا في الدفاع عن موقعهم حتى الساعة
الخامسة والنصف صباحا. حينها انسحبت قوات العدو مخلفة العديد من القتلى و
الجرحى ورائها. ومع التزايد اليومي لعدد الثوار المكسيك اتضح جليا ضرورة
الدفاع عن مدينة فيرا كيرز خشية من سقوطها في يد الثوار إلي حين إرسال مدد
جديد من فرنسا بالرجال و العتاد.
نقل للخديوي إسماعيل باشا تقارير عن وضع جنوده في المكسيك وفكر في إرسال
كتيبة أخري ولكن من السودان لمعاونة الكتيبة المصريه المتواجدة هنالك، فأصدر أوامره في 27 فبراير
1865 لجعفر باشا مظهر الحاكم العام للسودان حينها لينتقي من بين مشاة قوة
السودان أفرادا صغار السن أقوياء البنية حسني المظهر كي يبعثوا عن طريق
سواكن إلي مصر. وفي 12/4/1865 بعث الخديوي لقائد الكتيبة السودانية
بالمكسيك برسالة يقول فيها: " الرجاء إعلام كل رجالنا معكم بضرورة الجلد
والصبر حتى يحافظوا علي السمعة الحسنة التي اكتسبوها في المكسيك وأن
يواصلوا أعمالهم بكل جد حتى يعودوا لديارهم و يحصلوا علي عظيم التقدير
والامتنان من إخوانهم، وسوف نقوم بتجهيز مزيد من القوات لعونهم وسيصلهم هذا
المدد قريبا إن شاء الله. عندها سنأمر بعودتكم إلي أوطانكم بعد أن تطاول
بقائكم في المكسيك". وبعث الخديوي مع ذلك الخطاب بالميدالية المجيدية من
الطبقة الرابعة إلي الجنرال الفرنسي مارشال، وهو الضابط الفرنسي المسئول عن
الكتيبة السودانية، ولم يتسلم الجنرال الفرنسي الميدالية إذ أنه كان قد
قتل في إحدى المعارك في الثاني من مارس 1865! أرسل الخديوي السفينة
"الإبراهيمية" إلي سواكن استعدادا لجلب مزيد من الجنود السودانيين ليرسلوا
للمكسيك و بعث برسائل مستعجلة لحاكم التاكا وسواكن لاستعجال بعث أولئك
الجنود. لم تجد "الإبراهيمية" عند وصولها لسواكن أي أثر لجنود. وبعد أيام
سري في سواكن وباء (لم تحدد طبيعته) أضطر معه قائد السفينة للعودة خالي
الوفاض إلي مصر بدلا من الانتظار إلي ما لا نهاية. كان إسماعيل باشا قد أمر
في هذا الأثناء باختيار جنود من حاميتي بربر و دنقلا ونقلهم لمصر عبر نهر
النيل دونما تأخير. رغما عن كل المحاولات التي بذلها الخديوي لإرسال مزيد
من الجنود للمكسيك إلا أنه لم يتمكن من إرسال جندي إضافي واحد
لذلك البلد. كذلك لم ينجح ماكسميليان في الحصول علي أي عون من أوربا رغم
نداءاته العاجلة المتكررة.
وضعت الحرب الأميركية الأهلية أوزارها في ربيع 1865، وفي خريف ذات العام
أيقن الجميع فشل الحرب المكسيكية. و قامت الحكومة الأميركية التي هزمت
ولايات الجنوب بمطالبة الحكومة الفرنسية بسحب قواتها من المكسيك و رفضت
الاعتراف بالحكومة العميلة التي نصبها الفرنسيون. و أتبعت واشنطن القول
بالعمل فحركت قواتها في بدايات 1866 نحو ريو جراندىRio Grande بعدها أيقن
نابليون الثالث أن لا قبل له بأمريكا وجنودها فأعلن صاغرا عن نيته في سحب
جيشه من المكسيك. أحس ماكسميليان بأنه بقي وحيدا بعد خذلان الفرنسيين له
فالتجأ إلي الحزب الكاثوليكي ثم فكر في التنازل عن العرش رغم ضغوط زوجته
شارلوت والتي سافرت لفرنسا لحث نابليون علي نصرة زوجها، فلم تلق منه إلا
الإعراض والصدود، فصوبت وجهها نحو روما وتشرفت بالسلام علي البابا وحادثته
في أمر زوجها. لم يك حظها مع البابا بأفضل من ما كان مع نابليون الثالث.
انتهي الأمر بالإمبراطور ماكسمليان أن يخونه أقرب رجال المكسيك له وأن يقع
في أسر الثوار والذين سجنوه لمدة قصيرة قبل تقديمه للمحاكمة وأعرض
الإمبراطور – في نبل وإباء- عن محاولة الهرب من الأسر رغم عديد الفرص التي
"أتيحت" له. حوكم الإمبراطور بتهم تضمنت التمرد و القتل والسطو المسلح
وأعدم رميا بالرصاص في 19 يونيو 1867 رغم احتجاج ملوك أوروبا وشخصياتها
البارزة من أمثال فيكتور هيجو و جاريبالدي. ولم تسمح الحكومة الثورية
بإعادة جثمانه لأوروبا إلا بعد لأي شديد.
غادرت الكتيبة المصريه المكسيك مع باقي القوات الفرنسية في فبراير من عام
1867 وآبت لمصر عن طريق فرنسا. وخلال الأعوام الأربعة التي قضاها الجند في
المكسيك كانت جملة المعارك التي خاضوها 48 معركة كسبوا جلها و نالوا عظيم
التقدير والإشادة من السلطات العسكرية الفرنسية. وصلت الأورطة إلي باريس في
أبريل 1867 و تم استقبالهم استقبالا شعبيا ورسميا ضخما وأنعم عليهم بأنواط
الشرف وتم عرضهم علي نابليون الثالث والذي تفقد شخصيا طابور الشرف الذي
اصطفوا فيه في يوم 2/5 وكان برفقته شهيم باشا وزير الحربية المصري. صافح
الإمبراطور بيده قائد الأورطة البمباشي محمد الماظ وقلد العديد من الضباط
والجنود الأوسمة ومنح من جرح منهم الكثير من العطايا. غادرت الكتيبة فرنسا
متجهة لمصر في مايو من ذات العام وكان عدد أفرادها 313 (من أصل 453). ولحق
بأفرادها ثلاثة آخرون بعد أن كان أحدهم قد أحتجز في مستشفي بباريس وبعد أن
أطلق سراح أثنين كانا قد وقعا في أسر ثوار المكسيك. وفي 28 مايو 1867 قدموا
عرضا عسكريا أمام الخديوي إسماعيل أمام باحة قصره في رأس التين
بالإسكندرية. وأقام لطيف باشا للضباط منهم حفل استقبال وسهرة شرفها بالحضور
شريف باشا وقنصل فرنسا و غيرهما من كبار الشخصيات.و زينت صالة الاحتفالات
بالأعلام المصرية والفرنسية. أعلن إسماعيل باشا عن ترقيات واسعة في صفوف
تلك الكتيبة ورقي محمد الماظ إلي رتبة الأميرالاي
ضع تعليقك :///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////
.
هل تعلمون بقصة الجنود
المصريون الذين تم نقلهم للمكسيك بناء علي أوامر والي مصر ليحاربا باسم
إمبراطور فرنسا نابليون الثالث (و الذي كان يحارب أهل المكسيك باسم أرشدوك
النمسا!)
لسبب ما لا تشير الكتب العسكرية الفرنسية القديمة التي تناولت حرب
المكسيك إلي جنود مصريين او سودانيون عند الحديث عن الفرق والوحدات التي
بعثت بها فرنسا إلي المكسيك ،بينما أشارت بعض المصادر الطبية إلي أن كثيرا
من الجنود الفرنسيس كانوا قد وقعوا فريسة للحمي الصفراء عند قدومهم للمكسيك
بينما قاومت أجساد الجنود المصريين ذلك المرض، و كان ذلك مصدر اهتمام
واختلاف بين الأطباء فعزا بعضهم ذلك لاختلاف عرقي يتمثل في مقاومة طبيعية
افترضوا وجودها لدي الافارقه. وأيد ذلك الزعم طبيب أمريكي هو ها. ر. كارتر في
كتابه الشهير عن الحمى الصفراء و الصادر في 1931، بينما رأي الطبيب
البريطاني هوير في مقال له في المجلة الطبية لانست Lancet عام 1934 أن
مقاومة الجنود المصريين للحمي الصفراء قد تعزي لتعرض هؤلاء الرجال لعدوي
ذات المرض في وقت سابق لسفرهم للمكسيك مما قد يكون قد أكسبهم مناعة ضد ذلك
المرض. رصد بعض المؤرخين الفرنسيس كتابات متفرقة عن تاريخ الجنود
المصريين في المكسيك، بيد أن ما كتبه الأمير عمر طوسون عام 1933 عن
"بطولة الأورطة (الكتيبة- المترجم) المصريه في المكسيك" يعد من أكمل ما
كتب عن الموضوع، و لما كان مقال الأمير بالعربية، فإنه لم يك معروفا لأغلب
الباحثين و المهتمين بتاريخ تلك ا الكتيبة. ركز مقال توماس المنشور في
"المجلة الأوغندية" علي بقايا أغراض تم العثور عليها في الاستوائية و
يوغندا لبعض أولئك الجنود العائدين من المكسيك. و في ما عدا ذلك فإن ما هو
موثق لأولئك الجنود لا يتعدي بعض الوثائق المطمورة في أضابير أرشيف الحكومة
أو في رسائل قديمة منسية لبعض الأفراد أو في بعض الكتابات التاريخية التي
خطها بعض الجنود المصريين مثل عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" علي جدران
بعض الكنائس والمعابد القديمة المتهالكة
شهد تاريخ المكسيك منذ
سقوط الإمبراطوريات الأيبيرية 1884
تشاحن ملتهب وتمرد عنيف و صراعات مدمرة كانت إمبراطورية ماكسميليان تمثل
فقط أحد فصولها الدامية. كانت أوصال المكسيك تتمزق بين عامي 1858 – 1861 في
رحى حرب أهلية بين حكومتين متناحرتين، إحداهما دينية محافظة يقودها محارب
طموح قدير يسمي ميجيل ميرامون Miguel Miramonوكانت الأخرى تقدمية علمانية
يقودها رجل هندي يمتاز بوضوح الفكرة و البيان و يدعي بنيتو يوريز Benito
Juarez (قيل أن بنيتو موسوليني قد سمي عليه) وكان رجال الكنيسة الكاثوليكية
لا يكفون عن الهجوم عليه لقيامه بإجراءات عنيفة و شاملة هدفت إلي تقليم
أظافر الكنيسة و سلطتها و ثرواتها الطائلة. لجأ الطرفان إلي السلاح و
احتكما إليه وفي ذلك اعتمدا علي المال الذي كانا يقترضانه من أوروبا، و لم
يقصرك طرف من الطرفين المتحاربين في بذل الوعود السخية بدفع تلك الديون
حالما تضع الحرب أوزارها وينتصر علي عدوه اللدود. كانت الولايات المتحدة
تعترف بحكومة بنيتو يوريز وتقف في صفها، بينما ظفر الطرف الآخر بعون رجال
المال في أوروبا، فقام مصرفي سويسري يقيم في باريس أسمه جيكير Jekker
بإقراض حكومة ميجيل ميرامون 750000 دولار أمريكي مقابل أن يعطيه ميرامون
سندات (بفائدة 6 %) قيمتها الاسمية نحو 15 مليون دولار أمريكي! خسر ميرامون
الحرب في 1861 بيد أن ذلك لم يمنع ذلك المصرفي السويسري من أن "يقنع"
بوسائل فاسدة القنصل الفرنسي في المكسيك ديبو دي سالقني Dubois de Saligny
بحقه في استرداد أمواله من قدر له الانتصار وحكم المكسيك، و تبني الشقيق
الأصغر للإمبراطور نابليون الثالث مطلب جيكير في استرداد أمواله مضاعفة
أضعافا كثيرة من يحكم المكسيك، بعد أن ينال هو 30% (كحقه) في العملية! لم
يك من العسير إثارة اهتمام نابليون الثالث بالمغامرة في المكسيك، فلقد ظل
الرجل في معتقله في هام Ham يحلم بأمريكا وسطي متحضرة ومنتعشة اقتصاديا
ومنفتحة علي التجارة العالمية والأسواق بواسطة بقناة تصلها بالمحيط. وساهم
رجالات الدين المكسيك المهاجرين في باريس (و منهم بطريك المكسيك) في
استمالة الإمبراطورة أيوجيني Eugenie (وهي من أصل إسباني) "لتقنع" زوجها
الإمبراطور بمساندة إنشاء مملكة وكنيسة متحدة مركزية في المكسيك. بدا أمر
طرد الهنود الملحدين من المكسيك وإنشاء إمبراطورية كاثوليكية تحت إمرة
التاج الفرنسي هدفا جاذبا وذا منافع مادية مغرية لرجالات الكنيسة
المكسيكية. كانت المكسيك بالنسبة للفرنسيين بلدا غريبا بعيدا لا يعلمون عن
طقسه و جغرافيته إلا النذر اليسير، والذي لا يتعدي أن المكسيك بلد واسع
شاسع مترامي الأطراف وبه من الثروات ما به. كان الوقت ملائما لفرنسا للقيام
بمغامرة غزو المكسيك إذ أن الولايات المتحدة كانت في شغل شاغل بحربها
الأهلية بين الشمال والجنوب، ومثلت الفوضى الحادثة في المكسيك والتعدي علي
الأجانب من قبل الطرفين المتحاربين ذريعة مواتية للتدخل الأجنبي، فلقد
اعتدت الحكومة المكسيكية علي ممثلي السفارة البريطانية والبابوية وعلي وزير
إسباني وتم طرد ممثلي جواتيمالا والإكوادور لاتهامهما بالتدخل السافر في
شئون البلاد لصالح القوى الرجعية. وأوقف برلمان تلك الحكومة دفع ديون
بريطانيا المستحقة في1861، وتم في مرات عديدة استهداف أرواح وممتلكات
الأوربيين دونما تعويض أو حتى مجرد تفسير. تحالفت فرنسا مع بريطانيا العظمي
وإسبانيا علي العمل سويا علي هدف محدد ومحدود إلا وهو استرداد الأموال
التي أقرضوها للمكسيك مع أرباحها، وتم التوقيع علي ميثاق ذلك التحالف في
لندن يوم 31/ 10/ 1861. وما أن حل يوم 14 /12 من ذات العام حتى كانت القوات
الأسبانية تحت إمرة الجنرال بريم Prim تحتل فيرا كرز وأعقب ذلك بفترة
وجيزة وصول الأسطول الفرنسي محملا بالجنود الفرنسيين لاحتلال كامل شواطئ
وموانئ خليج المكسيك وتحصيل الجمارك لصالح الدول الثلاث إلي حين التوصل إلي
تسوية شاملة. بعثت بريطانيا العظمي بسفنها للمنطقة بيد أنها أكتفت بإنزال
700 فقط من جنودها في المكسيك. ولما كان الطقس وخيما في فيرا كرز فلقد قر
رأي الدول المشاركة في الحملة بعد عقدهم لمؤتمر مشترك مع الحكومة المكسيكية
في سولي داد Soledad علي أن تعترف هذه الدول باستقلال المكسيك شريطة أن
تسمح الأخيرة لجنود أجانب بالتقدم نحو أوري زابا Orizaba. هنا بدأ الخلاف
يدب بين الدول الثلاث المتحالفة في مستقبل حملتهم المشتركة وطبيعتها
وأهدافها النهائية. ولما كانت فرنسا هي التي أخذت زمام المبادرة باستضافتها
لقادة المعارضة من الرجعيين المكسيك وتبنيها لمطلب المصرفي السويسري جيكير
وإظهارها لشهية عظيمة في التدخل في الشئون الداخلية للمكسيك فلقد آثرت كل
من بريطانيا العظمي وإسبانيا الانسحاب من المكسيك في مارس عام 1862 وترك
"الجمل المكسيكي" بما حمل لفرنسا. بعثت فرنسا بمزيد من جنودها للمكسيك
وتصدت لهم قوات زاراقوزا Zaragoza وبورفيرو ديازPorfirio Diaz في معركة
سنكو دي مايو Cinco de Mayo في يوم 5/5/ 1862 .وفي سبتمبر 1862 أمدت فرنسا
جيشها في المكسيك بثلاثين ألفا من الرجال تحت إمرة الجنرال فوري Forey
وقضت تلك القوات الشتاء في أوري زابا ثم تقدمت في 17/ 2/ 1863 نحو بيوبلا
ودخلت عاصمة المكسيك في السابع من يونيو. وضح من واقع الحال أن الأمر إن هو
إلا حرب احتلال سافرة تهدف إلي قلب حكومة جوريز وإحلال إمبراطورية
كاثوليكية في المكسيك تحت إمرة فرنسا. وتم إقناع ماكسميليان (وهو شقيق
إمبراطور النمسا) ليكون إمبراطورا علي المكسيك (وكان في الواقع إمعة ودمية
في يد الحكومة الفرنسية). كان ماكسميليان رجلا وسيما محسنا لين الجانب رقيق
الحاشية، ومن النوع المتحرر الذي لا يتوقع أحد أن يرفض أي شعب توليه
لمقاليد حكمه. بيد أن شعب المكسيك لم يرض به وثار عليه و كلف ذلك كله
الحكومة الفرنسية أموالا طائلة ورجالا كثيرين لم تك تتوقع خسارتهم.
فقدت فرنسا في الفترة بين نوفمبر 1861 – يونيو 1873 ما يقارب من 37000 من
الرجال علي شواطئ المكسيك الموبوءة بالأمراض. مات من أولئك الرجال نتيجة
الحمى نحو 1410 رجلا بينما لم يمت نتيجة القتال المباشر سوي 330 رجلا فقط.
فتكت بأولئك الرجال الحمى الصفراء والدوسنتاريا. وضاقت المقابر في فيرا
كرز– علي أتساعها- عن استيعاب الموتى من الجزائريين والفرنسيين، وأطلق
بعضهم ساخرا علي المقبرة التي ضمت أجساد أولئك الجنود "حديقة التأقلم"
Garden of acclimatization . عند ذلك طلب نابليون الثالث من سعيد باشا
والي مصر والابن المفضل لمحمد علي باشا مد يد العون له بفرق مصرية علي
أمل أن تتحمل أجساد أولئك الجنود أمراض المكسيك بأفضل مما فعل
الفرنسيس، و لقد نما لعلم الإمبراطور أن الجنود المصريين قد تم
"استخدامهم" من قبل و بنجاح باهر من قبل محمد علي في اليونان - ومن قبل إبراهيم باشا
في الجزيرة العربية. استجاب سعيد باشا لذلك الطلب بيد أنه بعث فقط بكتيبة
واحدة من فوج المشاة التاسع عشر تتكون من 453 من الضباط و الجنود. كان علي
رأس تلك القوة البمباشي جبر الله محمد أفندي مع نائبه اليوزباشي محمد الماظ
أفندي. أبحرت السفينة سرا من
ميناء الإسكندرية بين ليل السابع و الثامن من يناير واتجهت إلي المكسيك حيث
وصلت إلي فيرا كيرز يوم 23/2/ 1863 أي بعد 47 يوم في عرض البحر. كانت
الكتيبة مكونة من قائد واحد ورائد وملازم واحد وثمانية من الرقباء و15
عريفا و359 من الجنود و39 من المجندين و22 من الأطفال تراوحت أعمارهم بين
10 – 15 عام. كان المجندون – و الذين بعثت بهم شرطة الإسكندرية مساء يوم
الرحيل – شبه عراة، بيد أن بقية رجال الكتيبة- كانوا في كامل زيهم العسكري وهم يحملون عدتهم وعتادهم. مات في
عرض البحر سبعة من الرجال، ربما بسبب حمي التايفويد أو أمراض صدرية، وبعد
الوصول إلي فيرا كيرز بقليل مات 15 رجلا آخرا، و لم يتحدد إن كان هؤلاء
الجنود قد ماتوا بسبب الحمى الصفراء أم بغيرها. كان الكثيرون يعتقدون بأن
تلك الحمى لم تكن موجودة في منطقة فيرا كيرز بين يناير وأبريل 1863 لذا
فلقد ساد الاعتقاد بأن أولئك الجنود قد ماتوا لأسباب ليست الحمى الصفراء
واحدة منها. ومع حلول
شهر إبريل عاودت الحمى الصفراء الظهور في فيرا كيرز بضراوة شديدة و استمرت
في الانتشار حتى ديسمبر من ذات العام. قضت تلك الحمى علي قائد القوات
الفرنسية في المنطقة وأحد عشر من كبار الضباط وكثير من الجنود الفرنسيين،
ولسبب ما لم تصب تلك الحمى أي من الجنود المصريين عدا قائد الجنود المصريون البمباشي جبر الله محمد الذي كان الوحيد من بين المصريين
الذين تسببت الحمى الصفراء – حسب السجلات الرسمية- في موته. ! ترك البمباشي جبر الله محمد بعد موته 5667 فرانك فرنسي تم إرسالها
إلي حكومة مصر لتقوم بإرسالها لورثته. تمت ترقية نائب القائد محمد الماظ
أفندي إلي رتبة البمباشي و تولي القيادة مكان البمباشي الراحل جبر الله
محمد. لم يسلم المصريون تماما من الآثار الممرضة لطقس المكسيك رغم أنهم
أبدوا مقاومة أشد لها من رصفائهم الفرنسيين، بل والمكسيكيين أنفسهم. فعند
نهاية 1863 مات 47 من الجنود منذ سفرهم من الإسكندرية، بينما سقط نحو 43
منهم فقط فريسة لأمراض أخري وقد عزاها البعض لعدم الاهتمام الذي لقيه أولئك
الجنود عند وصولهم لأول مرة في فيرا كيرز، فلم يحاول أحد أن يتعرف علي
لغتهم أو أذواقهم أو طباعهم. لم تكن عملية تنظيم إطعام هؤلاء الجند كافية
وكان الطعام المقدم لهم قليلا لا يتناسب مع الأعمال الشاقة التي كان عليهم
أدائها. وصل المجندون الذين دفعت بهم شرطة الإسكندرية جياعا و شبه عراة في
مساء يوم الرحيل إلي فيرا كيرز وهم في حالة مزرية يرثي لها و كانت أغلب
حالات الموت وسط الجنود من هؤلاء المجندين. تم بعد فترة قليلة من وصل
الجنود إدخال بعض الإصلاحات علي الأوضاع. تمت عملية إعادة تنظيم للكتيبة
علي النسق الفرنسي فتم تقسيمها إلي أربعة فرق و صرفت أوامر محددة تحدد
واجبات كل فرقة وتمت ترقية العديد من أفراد الكتيبة. بعث لخديوي مصر بنسخ
من هذه الأوامر والترقيات للمصادقة عليها. بعث الخديوي بهذه الواجبات و
الترقيات لوزارة الحربية المصرية في 16/3/ 1864 وسرت تلك الترقيات بأثر
رجعي من يوم 11/3/ 1863. كانت أسلحة الجنود المصريون ممتازة بيد أن
بنادقهم كانت من نوع مختلف عما هو مستعمل في الجيش الفرنسي و كان ذلك يمثل
عقبة في ما يتعلق بالذخيرة مما دعا الفرنسيين إلي إعطاء الجنود المصريون
بنادق فرنسية و الاحتفاظ بالبنادق التي جلبها هؤلاء الجنود لحين انتهاء
الحملة. مثلت لغة الجنود المصريون عقبة أخري، إذ لم يكن هنالك من يفهم
لغتهم و لم يكن من السهل شرح كيفية استعمال هذه البنادق الفرنسية الجديدة
لهم.. أشاد الجميع بانضباط هؤلاء الجنود و بالسرعة الفائقة
التي تأقلموا فيها علي الأوضاع الجديدة و ذلك عقب معرفة الفرنسيين
باحتياجاتهم و معالجة مشاكلهم الصحية الصغيرة و التعرف علي مواطن القدرة و
القوة و التميز عندهم. سرعان ما اكتشف الفرنسيون نشاط و همة هؤلاء الجنود
وأنهم أكثر إجادة من غيرهم في المراقبة والرصد وشجاعتهم تفوق الوصف عند
احتدام الوغى، وأنهم يخاطرون بأرواحهم في مواضع يتوجس ويجفل منها الجنود
الفرنسيين. نجح الجنود المصريون نجاحا باهرا في تعقب الفدائيين ورجال
العصابات المكسيكية الذين كانوا لا يكفون عن مهاجمة القوافل التي كانت تحمل
الزاد والمؤن في الأراضي المنخفضة في فيرا كرز، ويعتدون علي نقاط الدفاع
قليلة الحماية. خلال حصار بيبالا (ثانية أكبر المدن المكسيكية) و التي تم
الاستيلاء عليها وعلي حاميتها المكونة من 26 جنرالا و 90 ضابط و12000 فردا
من مختلف الرتب في يوم 17 / 5/ 1863 أمر الجنود المصريين بحماية خطوط
الاتصالات بين تلك المدينة والساحل والتي حاول المكسيك مرارا قطعها. وكلف
الجنود المصريون أيضا بحماية خط السكة حديد الذي كان في طور التشييد مما
عجل بإكماله في وقت وجيز. رافق بعض الجنود المصريون القائد العام للجيش
الفرنسي مارشال بازين Marshal Bazaineعند دخوله لمدينة مكسيكو العاصمة يوم
7/6/ 1863 وشاركوا بفعالية في معارك سبقت وأعقبت سقوط العاصمة، وعندما أقام
الفرنسيون احتفالا ضخما حضره كل ممثلي السلطات المدنية و العسكرية بمناسبة
الاستيلاء علي العاصمة وقع الاختيار علي فرقة مصرية لتكون حرس الشرف، و
بعد الاحتفالات قام الجنود [size=16]المصريون بعرض عسكري في أكبر ساحة عامة في
العاصمة. أثبت الجنود المصريون كفاءة واقتدارا عظيمين لفتا نظر القادة
الفرنسيين مما دعا القائد العام الفرنسي لينتقي من بين الجنود المصريون
فرقة "قوة خاصة" وأن يصرف لكل فرد من أفراد هذه القوة الخاصة علاوة قدرها
65 سنت (تعادل قرشين ونصف) في اليوم، وأن يشرف ويميز أفرادها بلبس شارة
صفراء خاصة علي الذراع. ساهم هذا الإجراء في رفع الروح المعنوية للجنود
والضباط إذ أنه أثبت أن الجنود المصريون قد نالوا احترام و تقدير رؤسائهم
الفرنسيين. ومع انصرام عام 1863 كان الجنود المصريون قد خاضوا ثمان
معارك سجلوا فيها أعلي درجات الامتياز. كتب عنهم حاكم فيرا كيرز و هو يصف
معركة خاضوها في 2/10/ 1863 : " لقد حمل الجنود المصريون العبء الأكبر من
تلك المعركة، ولقد توجتهم تلك الموقعة بأكاليل الفخار. لم يبال أحد منهم
بالنيران الكثيفة التي كان العدو يرميها عليهم من كل صوب. كان عدد أفراد
جيش العدو يفوقهم بتسعة أضعاف، ورغما عن ذلك فلقد نجحوا في "اجتثاثه". كان
أهم إنجاز للكتيبة السودانية هو احتلال فيرا كيرز و حماية خطوط الاتصالات
بين تلك المدينة و الوحدات المتقدمة في داخل البلاد. وتكمن أهمية فيرا كيرز
في أنها الميناء الذي تأتي عبره القوات الغازية والمواد التموينية. لذا
كان من المهم جدا تأمين تلك المدينة و الاتصالات بينها وبين بقية البلاد.
وقام الجنود المصريون بتلك المهمة دون كلل أو ملل من فبراير 1863 إلي حين
مغادرة الجيش الفرنسي للمكسيك في 1867. علقت أميرة في بلاط الإمبراطور
ماكسميليان علي الجنود المصريون قائلة: " هؤلاء السود من أبناء أفريقيا
شديدو الاحتمال لطقس المكسيك وخيم الهواء"، و قامت ذلك الأميرة برحلة من
فيرا كيرز إلي ميدلين Meddelin كان حراسها الشخصيين فيها من الجنود المصريون . وصفت الأميرة الرجال بأنهم طوال نحفاء وأقوياء الجسم يرتدون
زيا أبيضا ناصع البياض و يعتمرون عمامات أنيقة وفي أيديهم بنادق طويلة وفي
أحزمتهم خناجر. وقالت ما معناه: يا لروعة أن تكون في حراسة هؤلاء "الأسود
السود" الذين يمنحونك شعورا عظيما بالأمن والأمان. وصفهم أحد القواد
الفرنسيين بأنهم رجال منظمون، وأضاف ببعض المبالغة أن أحدا منهم لم يمرض
أبدا، وكان يشاهدهم وهم رقود في منتصف النهار القائظ يغطون في نوم عميق تحت
أشعة الشمس الحارقة ويستيقظون دونما أي إحساس بألم أو صداع. وكان يقول أن
أي فرنسي يحاول أن يفعل مثلهم لن يستيقظ من نومته تلك أبدا. ووصفهم قائد
آخر بأن :"لهم روحا قتالية لا تدعهم يتركون أسيرا ليعيش. لم أر في حياتي
روحا قتالية كالتي رأيتها عند هؤلاء المصريون. تري إصرارهم في نظرات
أعينهم و شجاعتهم تفوق الوصف. إنهم ليسوا ببشر بل هم أسود ضارية" منح
الأمباشي عبد الله حسين باشا ميدالية حربية عرفانا بشجاعته وإقدامه وشراسته
عند الوغى لتكبيده العدو أفدح الخسائر. ذكر أن ذلك الأمباشي طعن بسنكي
بندقيته رجلا مكسيكيا رفعه بيد واحدة و السنكي ما يزال منغرسا في جسده.
رفع قائد الجيش الفرنسي في المكسيك و محمد الماظ أفندي تقريرين لوزارة
الحربية المصرية بإنجازات الجنود المصريون في حرب المكسيك وبخسائرهم
وبتفاصيل أخري. رفع الوزير التقرير للخديوي إسماعيل والذي فرح كثيرا
بإنجازات جنوده وقوتهم ومهارتهم وقرر صرف معاشات لأرامل وعائلات من قتلوا
أو ماتوا من الجنود وترقية بعض من تميزوا من أفراد الكتيبة، ووعد بإقامة
احتفالات ضخمة لهم عند أوبتهم لمصر "سالمين غانمين إن شاء الله".
أشاد الفرنسيون بحسن انضباط الجنود المصريون فذكر أحد كبار قادتهم أن كل
فرد من أفراد الكتيبة مفعم قلبه بحسن أداء الواجب علي أتم وجه، وأنه لم
تسجل حالة واحدة لسوء سلوك من أي فرد فيها ولم يتم القبض علي جندي واحد وهو
نائم عن حراسة ليلية أو غافلا عن واجب أو غائبا بدون عذر. و تمت الإشادة
علي وجه الخصوص بالتالية أسمائهم: ملازم فرح الزين، وملازم أول محمد سليمان
والذي ظل واقفا يقاتل رغم تلقيه لستة طلقات نارية أدت لجروح خطيرة ونزف دم
كثير. نال ذلك الضابط فيما بعد ميدالية العشرين من ديسمبر وتمت ترقيته إلي
يوزباشي. كان الجنود المصريون يزيدون – من تلقاء أنفسهم- من أعداد من
عليهم الحراسة دون أن تصدر أوامر لهم بذلك حتى لا يؤخذوا علي حين غرة. و في
ذات مرة كان الملازم صالح حجازي يقود عشرين من الرجال في مهمة معينة، وفي
الطريق اعترض طريقهم 200 من الجيش المكسيكي. لم تثن المصريون قلة عددهم
فمضوا في مقاتلة العدو وتمكنوا من الانسحاب المنظم دونما خسائر. و بما أن
سمعة هؤلاء الجنود المصريون في المكسيك قد عمت في المكسيك وفرنسا ومصر
فلقد أعطي لبعض أولئك الجنود شرف إطلاق مدافع الشرف تحية للإمبراطورة
شارلوت (Charlotte) عند وصولها لفيرا كيرز في ديسمبر 1865. وكان 50 منهم
يمثلون حرس الشرف للأميرة الزائرة و التي نقلت لبعلها ماكسمليان إعجابها
بمقدرات هؤلاء الرجال الاستثنائية وعن حسن مظهرهم ونظافتهم أيضا. عندما بلغ
مكسميليان ذلك أمر لهم بزيادة في الراتب بلغت ثلاثا وثلاثين و نصف سنتا
(تعادل قرشا وربع) يوميا. وعند أوبة الأميرة إلي أوروبا في يوليو من عام
1866 كان الجنود المصريون هم الجنود الوحيدون بالمدينة نالوا شرف
توديعها رسميا. ومع نهاية عام 1865 كانت الأورطة المصريون قد خاضت 37
معركة، كان أغلبها في الشهور الأخيرة لتلك السنة. وخاضت في 1866 احدي عشر
معركة أخري. كانت أعداد الثوار المكسيك تزداد يوما بعد يوم و أشتد رحى حرب
العصابات حتى أنه هاجمت ذات ليلة قوة مؤلفة من 200 من الثوار نقطة مراقبة
كان بها 26 من الجنود المصريون. أتي الهجوم المكسيكي مباغتا، إلا أنالمصريون – رغم قلة عددهم – صمدوا و مضوا في الدفاع عن موقعهم حتى الساعة
الخامسة والنصف صباحا. حينها انسحبت قوات العدو مخلفة العديد من القتلى و
الجرحى ورائها. ومع التزايد اليومي لعدد الثوار المكسيك اتضح جليا ضرورة
الدفاع عن مدينة فيرا كيرز خشية من سقوطها في يد الثوار إلي حين إرسال مدد
جديد من فرنسا بالرجال و العتاد.
نقل للخديوي إسماعيل باشا تقارير عن وضع جنوده في المكسيك وفكر في إرسال
كتيبة أخري ولكن من السودان لمعاونة الكتيبة المصريه المتواجدة هنالك، فأصدر أوامره في 27 فبراير
1865 لجعفر باشا مظهر الحاكم العام للسودان حينها لينتقي من بين مشاة قوة
السودان أفرادا صغار السن أقوياء البنية حسني المظهر كي يبعثوا عن طريق
سواكن إلي مصر. وفي 12/4/1865 بعث الخديوي لقائد الكتيبة السودانية
بالمكسيك برسالة يقول فيها: " الرجاء إعلام كل رجالنا معكم بضرورة الجلد
والصبر حتى يحافظوا علي السمعة الحسنة التي اكتسبوها في المكسيك وأن
يواصلوا أعمالهم بكل جد حتى يعودوا لديارهم و يحصلوا علي عظيم التقدير
والامتنان من إخوانهم، وسوف نقوم بتجهيز مزيد من القوات لعونهم وسيصلهم هذا
المدد قريبا إن شاء الله. عندها سنأمر بعودتكم إلي أوطانكم بعد أن تطاول
بقائكم في المكسيك". وبعث الخديوي مع ذلك الخطاب بالميدالية المجيدية من
الطبقة الرابعة إلي الجنرال الفرنسي مارشال، وهو الضابط الفرنسي المسئول عن
الكتيبة السودانية، ولم يتسلم الجنرال الفرنسي الميدالية إذ أنه كان قد
قتل في إحدى المعارك في الثاني من مارس 1865! أرسل الخديوي السفينة
"الإبراهيمية" إلي سواكن استعدادا لجلب مزيد من الجنود السودانيين ليرسلوا
للمكسيك و بعث برسائل مستعجلة لحاكم التاكا وسواكن لاستعجال بعث أولئك
الجنود. لم تجد "الإبراهيمية" عند وصولها لسواكن أي أثر لجنود. وبعد أيام
سري في سواكن وباء (لم تحدد طبيعته) أضطر معه قائد السفينة للعودة خالي
الوفاض إلي مصر بدلا من الانتظار إلي ما لا نهاية. كان إسماعيل باشا قد أمر
في هذا الأثناء باختيار جنود من حاميتي بربر و دنقلا ونقلهم لمصر عبر نهر
النيل دونما تأخير. رغما عن كل المحاولات التي بذلها الخديوي لإرسال مزيد
من الجنود للمكسيك إلا أنه لم يتمكن من إرسال جندي إضافي واحد
لذلك البلد. كذلك لم ينجح ماكسميليان في الحصول علي أي عون من أوربا رغم
نداءاته العاجلة المتكررة.
وضعت الحرب الأميركية الأهلية أوزارها في ربيع 1865، وفي خريف ذات العام
أيقن الجميع فشل الحرب المكسيكية. و قامت الحكومة الأميركية التي هزمت
ولايات الجنوب بمطالبة الحكومة الفرنسية بسحب قواتها من المكسيك و رفضت
الاعتراف بالحكومة العميلة التي نصبها الفرنسيون. و أتبعت واشنطن القول
بالعمل فحركت قواتها في بدايات 1866 نحو ريو جراندىRio Grande بعدها أيقن
نابليون الثالث أن لا قبل له بأمريكا وجنودها فأعلن صاغرا عن نيته في سحب
جيشه من المكسيك. أحس ماكسميليان بأنه بقي وحيدا بعد خذلان الفرنسيين له
فالتجأ إلي الحزب الكاثوليكي ثم فكر في التنازل عن العرش رغم ضغوط زوجته
شارلوت والتي سافرت لفرنسا لحث نابليون علي نصرة زوجها، فلم تلق منه إلا
الإعراض والصدود، فصوبت وجهها نحو روما وتشرفت بالسلام علي البابا وحادثته
في أمر زوجها. لم يك حظها مع البابا بأفضل من ما كان مع نابليون الثالث.
انتهي الأمر بالإمبراطور ماكسمليان أن يخونه أقرب رجال المكسيك له وأن يقع
في أسر الثوار والذين سجنوه لمدة قصيرة قبل تقديمه للمحاكمة وأعرض
الإمبراطور – في نبل وإباء- عن محاولة الهرب من الأسر رغم عديد الفرص التي
"أتيحت" له. حوكم الإمبراطور بتهم تضمنت التمرد و القتل والسطو المسلح
وأعدم رميا بالرصاص في 19 يونيو 1867 رغم احتجاج ملوك أوروبا وشخصياتها
البارزة من أمثال فيكتور هيجو و جاريبالدي. ولم تسمح الحكومة الثورية
بإعادة جثمانه لأوروبا إلا بعد لأي شديد.
غادرت الكتيبة المصريه المكسيك مع باقي القوات الفرنسية في فبراير من عام
1867 وآبت لمصر عن طريق فرنسا. وخلال الأعوام الأربعة التي قضاها الجند في
المكسيك كانت جملة المعارك التي خاضوها 48 معركة كسبوا جلها و نالوا عظيم
التقدير والإشادة من السلطات العسكرية الفرنسية. وصلت الأورطة إلي باريس في
أبريل 1867 و تم استقبالهم استقبالا شعبيا ورسميا ضخما وأنعم عليهم بأنواط
الشرف وتم عرضهم علي نابليون الثالث والذي تفقد شخصيا طابور الشرف الذي
اصطفوا فيه في يوم 2/5 وكان برفقته شهيم باشا وزير الحربية المصري. صافح
الإمبراطور بيده قائد الأورطة البمباشي محمد الماظ وقلد العديد من الضباط
والجنود الأوسمة ومنح من جرح منهم الكثير من العطايا. غادرت الكتيبة فرنسا
متجهة لمصر في مايو من ذات العام وكان عدد أفرادها 313 (من أصل 453). ولحق
بأفرادها ثلاثة آخرون بعد أن كان أحدهم قد أحتجز في مستشفي بباريس وبعد أن
أطلق سراح أثنين كانا قد وقعا في أسر ثوار المكسيك. وفي 28 مايو 1867 قدموا
عرضا عسكريا أمام الخديوي إسماعيل أمام باحة قصره في رأس التين
بالإسكندرية. وأقام لطيف باشا للضباط منهم حفل استقبال وسهرة شرفها بالحضور
شريف باشا وقنصل فرنسا و غيرهما من كبار الشخصيات.و زينت صالة الاحتفالات
بالأعلام المصرية والفرنسية. أعلن إسماعيل باشا عن ترقيات واسعة في صفوف
تلك الكتيبة ورقي محمد الماظ إلي رتبة الأميرالاي
ضع تعليقك :///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////