خطبة: (الخيل النفسية) فضيلة الشيخ: سلمان ابن فهد العوده
.
خطبة: (الخيل النفسية)
فضيلة الشيخ: سلمان ابن فهد العوده
.............................................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتبعاه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد………….
والعنوان كما سمعتم ورأيتم الحيل النفسية:
وأود أن أقول للأخوة في البداية إن هذا الموضوع هو استكمال لموضوع كنت بدأته من قبل وخرج بعنوان الأمة الغائبة.
ولعل هذا الموضوع هو تشخيص لبعض أسباب غياب الأمة، وهو أيضا مثل سابقه عبارة عن مطالبة بالمشاركة.
أي لون من ألوان المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل، إذ نحن لا نشترط حين نطالبك أنت بشخصك وعينك أيها القاعد بين أيدينا، لا نشترط لمشاركتك في العلم والدعوة والإصلاح والأمر بالمعروف شكلا معينا ولا مقارا معينا أو حجما معينا.
لكن نطلب منك مطلق المشاركة بقدر ما تستطيع.
لأننا نعلم أولا أنك تقدر فإن الله تعالى خلقك إنسانا، وكلمة إنسان بذاتها قبل أن ندخل في أي لفظ شرعي، كلمة إنسان يقول أهل اللغة: (هي مشتقة من النوس، ناس، ينوس إذا تحرك).
إذا أنت متحرك بطبيعتك، وفعال بطبيعتك، فأنت تستطيع أن تصنع الكثير، فنحن نطالبك أولا بهذا.
وثانيا لا نشترط قدرا معينا لأننا نعلم أن الناس ليس نسخة واحدة طبق الأصل بعضهم من بعض، كلا.
فالذي في كبينة القيادة أحيانا شخص واحد أو اثنان وعلى العموم هم أفراد.
لقد حرصت أيها الأخوة في هذه المحاضرة على الوضوح والمباشرة وعدم التعقيد العلمي، لأن المخاطب بهذه الكلمات ليسو هم النخبة وعلية القوم من المثقفين والخاصة والدعاة،…. كلا.
بل نريد أن نخاطب بهذه الكلمات كل إنسان مسلم بغض النظر عن مستواه العلمي والثقافي، وعن عمره وعن أي شيء آخر، ولذلك فلا غرابة أن أحرص على توضيح العبارات وبسطها والبعد عن أي لون من ألوان الترتيب العلمي الذي قد يصعب ويشق على الناس فهمه.
ومن قبل كان أبن قتيبة رحمه الله يقول في بعض كتبه:
(ينبغي أن يكون الخطيب متخير اللفظ قليل اللحظ لا يحرص على تدقيق العبارة ولا على تخصيص المعاني).
أي أنه يذكر معاني مجملة عامة يسهل على كل إنسان فهمها وليس فيها من الغموض والدقة أي مقدار.
ومن بعده كان الإمام الشاطبي أيضا يقول:
( إن السلف رحمهم الله تعالى كان الواحد منهم لا يهتم بالألفاظ، بل يلقي الكلام على عواهله وكيفما أتفق متى ما علم أن هذا الكلام يؤدي المعنى المقصود، ويصل إلى ذهن السامع ويبلغ المعنى الشرعي).
إذا لندرك أننا في هذه الجلسة لا يعنينا تزويق الألفاظ.
ولا تصفيف العبارات، ولا الترتيب العلمي والموضوعي بقدر ما يعنينا أن أمامنا عددا من الحيل النفسية التي نتستر بها أحيانا ينبغي أن نكتشفها ونفضح نفوسنا فيها حتى نضعها أمام الحقيقة وجها لوجه، ولا نبقي عذرا لمعتذر يقعد عن أن يقوم بعمل في سبيل الله عز وجل.
إذا لا تنتظر مني استكمالا للموضوع ولا تطويلا فيه ولا تنظيرا، بل ولا حسن ترتيب، فحسبي أن تفهم الكلام الذي أقوله وتوقن أو تعلم بأنه حق وأنه ينبغي أن نعالجه.
وبادئ ذي بدء نلاحظ أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى عن العجز واستعاذ منه فقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم وهو حديث طويل:
( أحرص على ما ينفعك وأستعن بالله ولا تعجز).
وهذا نهي ، ولا تعجز، إذا أمسك بيدك كلمة العجز حتى نفكر بعد قليل ما هو العجز.
ثم تنتقل فتجد أن من دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي ثبت عن جماعة من الصحابة كأنس أبن مالك مثلا أو غيره أنه كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من العجز:
( وأعوذ بك من العجز). والحديث جاء عن أنس وزيد أبن أرقم وهو في الصحيح وغيره.
وتجد في القرآن الكريم كلمة العجز أيضا موجودة في مواضع منها:
(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما…..الآيات)
إلى قوله تعالى:
(فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين)
إذا هنا يبرز أمامك العجز، فالعجز إذا داء، مرض يكون سببه الغفلة وعدم الاهتداء، حتى أن هذا الإنسان مثلا لم يكن عاجزا عن أن يحفر الأرض ليدفن أخاه الذي قتله، ولكنه غفل عن هذا المعنى ولم يتفطن له حتى رأى الغرب يبحث في الأرض فاستيقظ وتنبه ولام نفسه أن يكون الغراب معلماً له ويسبقه إلى هذه القضية فيحفر في الأرض فقال:
(قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين).
وبذلك قد نكتشف أن العجز هو صفة ملازمة للمعتدين أحيانا، لأن هذا الإنسان كان معتديا، فالاعتداء غلف قلبه وغطى على فطرته حتى لم يتفطن إلى مسألة أن يحفر الأرض أخاه.
إذا الزيادة أو النقص الإفراط أو التفريط كل هذه الأشياء تكون سببا في ابتلاء الإنسان بالعجز والقعود وترك العمل.
الإنسان يتعلم إذا حتى من الحيوان، وأنت تعرف قصة الإنسان الذي أراد أن يتعلم النحو ففشل مرة ومرتين وثلاث، وبعد ذلك رأى نملة تصعد وكلما صعدت سقطت ثم تكرر المحاولة.
فبعد ذلك تلقن من ذلك درسا أنه يجب أن يحاول ويكرر المحاولة فيستجيب حتى من الحيوان أو الطير أو غيره، حتى يذكرون هذه القصة عن سيبويه أو غيره.
ولذلك وصم الله المنافقين الذين تخلفوا أنه أراد سبحانه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وبما كسبت أيديهم، وكذلك بعض المؤمنين أيضا الذين هربوا أو تولوا من المعركة:
(إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم). (فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون).
هذا العجز الوارد في الشرع هو ما يمكن أن نعبر عنه أحيانا بالعوائق النفسية أو الحيل النفسية وهو داء في القلب أو في النفس لكن لا يصل إلى حد أن نعتبر أن صاحبه بالضرورة كما قد يتوهم البعض مريضا نفسيا أو مجنونا مثلا.
لا.. لكن عنده نوع من الخلل، وأنت تلاحظ الفرق بين إنسان سوي النفس سليم القلب ملتزم بالكتاب والسنة كثير الإقبال عليهما شديد التوكل على الله، تجد أن موازينه وحساباته مضبوطة.
وآخر أعماله النفسية كلها غير طبيعية بل هي مصابة بالخلل بسبب نوع من عدم الاعتدال عنده.
فتجد مثلا قضية الإدراك عنده غير منضبطة، لا يدرك الأمور إدراكا صحيحا، ولا يتصورها تصورا صحيحا، ولا يتذكرها ولا يتخيلها بشكل صحيح، فهو يدركها على غير صورتها وبذلك يخطئ الحسابات كما سوف يأتي أمثلة لذلك بعد قليل، وبالتالي تجد أن هذا الإنسان لا يعمل.
أحيانا هناك إنسانا قاعدا لا يعمل، ولو قلت له، قال لك نعم أنا لا أفعل شيء، لماذا ؟
قال لك عسى الله يهديني، والله أنا قادر ومستطيع، فلا يخدع نفسه أو يضحك عليها.
ولكن هناك آخر تجد أنه إذا حادثته وقلت لماذا لا تفعل شيء؟
بدأ يفلسف هذا العجز، ويظهره بصورة العقل أحيانا،
أو بصورة الفهم أو الحكمة، أو حتى بصورة الشرع كما سوف يبدو لك.
فما هي هذه الأعذار التي نتستر ورائها أحيانا حتى نترك العمل ؟
قبل أن أذكرها أود أن أقول لك نقطة حتى تدرك هل أنت تعيش نوعا من الحيل النفسية.
تصور وأنت قاعد بين يدي الآن، هل تشعر أنك المخاطب وأن الكلام وموجه لك مباشرة؟
أم تشعر أنه يعني أناس آخرين غيرك؟
فإن كنت تتصور أن الكلام موجه لك أنت بالذات دون غيرك، فهذا دليل على نوع من الوضوح والصراحة مع نفسك.
لكن إن كنت تشعر بأن المخاطبين أناس موجودين في كوكب آخر، فيجب أن تتنبه إلى أن هذه بداية الحيل النفسية، أنك تجعل الكلام يزل عن يمينك وشمالك ولا يصيبك.
أول هذه الحيل التواضع الوهمي الكاذب.
فيرى الإنسان نفسه ليس أهلا لشيء، لا لعمل ولا لوظيفة ولا لشهادة ولا لإمامة ولا لخطابة ولا لدعوة ولا لتصدر ولا لإدارة ولا لشيء.
يقول يا أخي أنا أعرف نفسي، لا تظن أني متواضع، لا.
الحقيقة لو تعرف ما في نفسي من العيوب لعذرتني وأدركت أنني لا أقول إلا الحقيقة، فدعني ونفسي.
وعبثا تحاول إخراج بعض هؤلاء الناس من تواضعهم الوهمي الذي أصبح يحول بينهم وبين أي عمل.
وليست المشكلة في وجود الشعور نفسه، كون الإنسان يتكلم عن نفسه بازدراء أو احتقار أو يهضم نفسه أو يوبخها، هذا لا شيء فيه بل هو أمر فطري بل المؤمن الصادق هو كذلك، لا يصاب بغرور ولا عجب ولا يرى نفسه شيئا.
وكما قال أبن مسعود رضي الله عنه كما في الصحيح: (إن المؤمن يرى ذنوبه مثل جبل على رأسه يخشى أن يقع عليه، والمنافق كذباب وقع على وجهه فقال به هكذا بيده فطار).
إذا نحن لا نعيبك أن توبخ نفسك ولا أن تزدري نفسك ولا أن تحتقرها فهذا لا شيء فيه.
ولكن المشكلة أن يتحول هذا الشعور عندك إلى منهج يحكم كل تصرفاتك وأعمالك.
فإذا قلنا لك يا فلان تعال أمسك المسجد وصلي بالمسلمين أو درّس أو أمسك هذه الوظيفة المهمة أو ألف كتابا أو ألقي درسا أو محاضرة أو أمر بمعروف أو أنهى عن منكر، هززت رأسك وقلت:
الله المستعان، لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني، فتحول هذا الشعور إلى عائق وحائل يمنع الإنسان من العمل.
وأنت تجد أن كلام السلف يدل على أن المشكلة ليست في وجود هذا الشعور والكلام، ولكن المشكلة في كونه يتحول إلى ذريعة لترك العمل الصالح.
مثلا أبو الوفاء أبن عقيل – رحمه الله – صاحب كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد وهو من أذكياء العالم، له كلام عجيب في توبيخ نفسه نقله أبن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، وقال أبن الجوزي بعد ما وبخ نفسه وذمها وعاتبها قال:
( وقد رأيت الإمام أبو الوفاء أبن عقيل قد ناح على نفسه نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فنقلتها ها هنا).
يقول أعجبني صياحه وبكائه على نفسه.
ماذا قال أبو الوفاء؟ قال كلاما طويلا مقصده وخلاصته أن أبا الوفاء أبن عقيل يخاطب نفسه ويقول:
(يا نفس ماذا استفدت من عمرك الطويل؟ استفدت من أن يقال لك أنك إنسان مناظر قوي الحجة لا غير، مثل ما يقال للمصارع المنتصر الغارة (يوصف بهذا الوصف أو يسمى بهذا الاسم).
قال: وعما قليل تترك ذلك في الموت، بل حتى في حياتك لو برز للناس شخص أو شاب افره من وأقوى منك عبارة لربما موهوا له بالقول وركضوا ورائه وتركوك، فماذا انتفعت من قول الناس لك يا مناظر ؟ وأنت تعلم ما في نفسك وما في قلبك.
ثم قال والله ما أعلم في نفسي حسنة أستطيع أن أسأل الله بها فأقول: اللهم إني أسألك كذا بكذا.
مثل اللهم أني أسألك الجنة بأني أقوم الليل أو بأني أصوم النهار أو بصلة رحم مثلا، يقول إني لا أعلم لنفسي حسنة أستطيع أسأل الله بها فأقول اللهم إني أسألك كذا بكذا.
(وعما قليل أموت فيقول الناس مات الرجل الصالح العالم الورع الـ.. الـ.. وولله لو علموا حقيقتي ما دفنوني.)
وكلام من هذا القبيل طويل، كلام ثم قال:
(والله لأنادين على نفسي وأفضحها لعل الله أن يرحمني بذلك).
كلام أبن الجوزي مثلا، وكلا أبو الوفاء أبن عقيل وغيرهم من أهل العلم لعل الكثيرين منكم يفضحون نونية القحطاني:
والله لو علموا قبيح سريرتي ….لأبى السلام علي من يلقاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي…ولبؤت بعد كرامة بهواني
إلى آخر قصيدته.
لكن السؤال، أبو الوفاء أبن عقيل وأبن الجوزي والقحطاني ومن قبلهم ومن بعدهم حتى الصحابة رضي الله عنهم لهم في ذلك كلام كثير في ازدراء النفس، هل هذا الشعور جعلهم لا يعملون، لا يجاهدون، لا يأمرون بالمعروف لا ينهون عن المنكر؟ لا.. أبو بكر هو الخليفة وأمور المسلمين كلها في عنقه ومع ذلك كثيرا ما يوبخ نفسه، فإذا مدحوه قال:
(اللهم أغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيرا مما يظنون).
وكثير ما كان أبو بكر رضي الله عنه يقبل على نفسه فيوبخها ويذمها.
ومثله عمر، خليفة وتعرف عمر ماذا فعل رجل إيجابي من الدرجة الأولى، ومع ذلك عمر كما في الأثر الصحيح كان يقول: (بخٍ بخ يا أبن الخطاب، بالأمس ترعى غنم الخطاب، واليوم أمير المؤمنين، والله لتتقين الله أو ليعذبنك).
إذا فرق بين شعورك بالازدراء والاحتقار لنفسك الذي هو خير وضمانة –إن شاء الله- عن العجب والاغترار وعن حبوط العمل وعن الكبر وعن الغطرسة وعن رد الحق، فرق بين هذا، وبين هذا الاحتقار للنفس الذي هو مدخل من مداخل الشيطان يجعلك لا تقوم بأي عمل صالح ولا تمارس أي دور.
كلام أبو الوفاء أبن عقيل وأبن الجوزي والقحطاني ومن قبلهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وفلان وعلان لم يمنع آخرين من أن يتكلموا عن ما وهبهم الله من الخير والنعم.
لأن النعمة يجب أن تشكر، وأول مراحل الشكر للنعمة هو أن تعرف النعمة، يقول الله عز وجل:
(يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون).
فأول مراحل الشكر للنعمة المعرفة، فإذا كان الله أعطاك مواهب لابد أن تعرف هذه المواهب حتى تشكرها، ولو جحدتها لكنت منكرا نعمة الله تعالى عليك.
يوسف عليه السلام نبي الله: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم).
ما منعه أن يطالب بأن يكون على خزائن الأرض لأنه يعلم أن الله تعالى قد أختصه بهذه المزايا.
أبن عباس يقول: (أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله (وما يعلم تأويله إلا الله)، وفي قوله تعالى ، (ما يعلمهم إلا قليل)، أنا من القليل الذين يعلمه). لم يمنعه تواضعه أن يقول هذا.
عثمان أبن أبي العاص كما في السنن وهو حديث صحيح: (يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال أنت إمامهم، واقتدي بأضعفهم، وأتخذ مؤذنا لا يأخذ على آذانه أجرا).
فعثمان ابن أبي العاص لم يمنعه تواضعه وهضم نفسه من أن يطلب أن يتولى عملا دينيا وهو الإمامة.
ليس عملا دنيويا إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه، ولكن العمل الديني.
ولهذا الله تعالى وصف المتقين كلهم بأنهم عباد الرحمن بأنهم يقولون:
(ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما).
اجعلنا للمتقين إماما، ما طلبوا فقط أن يكونوا من المتقين.
بل طلبوا أن يكونوا أئمة للمتقين، ليسوا أئمة للمؤمنين أو المسلمين فقط، بل للمتقين.
ولا شك أنه من الغبن أن يقول العبد في سجوده، واجعلنا للمتقين إماما، ثم يطلب منه أن يتولى أمر ثلاثة في دعوة أو إصلاح أو قيادة أو توجيه أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، ثم ينفض ثوبه ويتنصل ويقول:
لا أستطيع …لا أستطيع.
لأن مقتضى الشرع أن الدعاء يتطلب العمل الصالح، فإذا قلت:
(واجعلنا للمتقين إماما) ينبغي أن تسعى إلى تحقيق الإمامة في الدين. قال الله تعالى:
(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
قال سفيان: (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين).
ولما قال ربيعة ابن مالك الأسلمي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم):
(يا رسول الله أدعو الله أن أكون رفيقك في الجنة، قال أعني بكثرة السجود).
إذاً، إذا دعوت بشيء عزز دعائك بفعل الأسباب، وكما قال عمر رضي الله عنه:
(أخلط مع دعاء العجوز شيئا من القطران).
كانوا يقولون إذا أصاب أبل الصدقة الجرب، نذهب إلى عجوز هناك تدعو فيشفيها الله تعالى، فقال عمر رضي الله عنه:
لا بأس هذا جيد أذهبوا للعجوز لكي تدعو.
ولكن وفي نفس الوقت هاتوا القطران وهو نوع من العلاج اطلوا به هذا الجرب فيزول بأذن الله تعالى.
فالسبب لابد من فعله، الدعاء سبب وفعل العمل الصالح من السجود أو السعي إلى الإمامة في الدين بالصبر والتقوى واليقين هو أيضا مطلوب.
وأحيانا تجد أن المعصية أو النقص أو التقصير يتسبب للإنسان في ترك العمل الصالح، وكأنه يظن أنه لا يعمل للخير إلا الكامل فلا يعملون، مع أنك لو نظرت للنص الشرعي وجدت غير هذا.
يا فلان لماذا لا تدعو إلى الله ؟
قال الله المستعان، روائح ذنوبي فاحت.
أنا أستحي أن أقف أمام الناس، أستحي من الله تعالى.
أخجل أن أعظ الناس وأنا أحتاج إلى من يعظني.
طيب يا أخي، الآن أنت عندك مال، هل تزكيه؟
قال نعم أزكيه لأنه بلغ النصاب.
طيب، المال بلغ النصاب تزكيه، لكن ألم تعلم أن العلم عليه زكاة أيضا، وفي نفس الوقت العلم ليس له نصاب، فالرسول عليه الصلاة والسلام بين النصاب في الأموال الزكوية، ولكن بالنسبة للعلم ماذا قال ؟ قال:
(بلغوا عني ولو آية). كما في الصحيح.
آية واحدة فقط أو حديثا.
(نظّر الله امرؤا سمع منا حديثا فبلغه).
آية وحدة أو حديث واحد، من يوجد من المسلمين كلهم من لا يحفظ آية أو يحفظ حديثا؟
فيجب أن تتفطن أن كل قدر من العلم ولو قل عندك عليه زكاة، وأن تقصيرك أنت بفعل المعصية، ليس موجبا بل ولا مبيحا لترك النهي عنه، وتقصيرك بترك الطاعة ليس موجبا بل ولا مبيحا بترك الأمر بها.
بمعنى يجب أن تأمر بالمعروف ولو كنت تاركا له، ويجب أنت تنهى عن المنكر ولو كنت واقعا فيه.
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب….فمن يعظُ العاصين بعد محمدِ
ولا شك في هذا بل هو يكاد يكون إجماعا لأهل العلم.
إذ كونك تركت المعروف بنفسك هذا خطأ، تعالجه بخطاء آخر أنك أيضا لا تأمر به.
وكونك فعلت المنكر هذا خطأ، لكن تعالج هذا الخطاء بخطأ آخر هو أنك لا تنهى عن المنكر.
وأضرب لك مثالا بسيطا:
أنت – وحاشاك إن شاء الله – مبتلى بشرب الدخان لأنك نشأت في بيئة لم تعودك على ترك هذا، فأخذته بالتقليد والعادة وأصبح صعبا عليك تركه بسبب الإدمان.
تزوجت ورزقت بأولاد فوجدت أبن عشر سنوات من أولادك يدخن.
هل تقول حين إذا لا أنهاه لأني أنا مدخن؟
قطعا لا… بل ستقول أمنعه وستتخذ من كونك مدخنا حجة عليه، وستقول له يا ولدي
أنا جربت قبلك وابتليت بهذا الداء الذي أخرج من مالي وأتركه لكن عجزت.
فأنت الآن ما دمت في بداية الطريق أبتعد عن هذا الشيء.
فتستفيد من الخطأ الذي وقعت فيه في نهي الناس.
مع أنك مطالب بترك المعصية ومطالب بفعل الطاعة، ولكن ليس من شروط الأمر بالمعروف أن تكون فاعله.
ولا من شروط النهي عن المنكر أن تكون تركا له.
أما قول الله تعالى:
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم).
هذا نعم.. لا شك أنه يوبخ لأن الآمر للناس عالم، وكان مفروضا أن يكون أول الممتثلين، كما قال شعيب عليه السلام:
(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه).
لكن كونك قصرت في هذا لا يبيح لك أن تقصر في الثاني.
مثله قوله عليه السلام كما في حديث أسامة في صحيح البخاري:
(يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى بالنار …إلى قوله كنتم آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
نقول هذا هل دخل النار لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟
كلا…الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنية الصالحة عمل صالح يدخل الجنة ويباعد عن النار، وإنما دخل النار لأنه يفعل المنكر ويترك المعروف.
أو لأنه يأمر وينهى على سبيل النفاق والخداع والتغرير لا على سبيل الصدق والإخلاص والعمل الصالح.
ولإنسان الإيجابي الفعال له منطق آخر.
تجده ممكن يلقي درسا عن قيام الليل وفصل قيام الليل ويرغّب الناس فيه، فإذا قالت له زوجته وهي تعرف أنه لا يقوم الليل، أو قال له زميله الذي يعرف انه لا يقوم الليل:
يا فلان أتحث الناس على قيام الليل وأنت منجعف على فراشك تتقلب، ما تخاف الله ؟ ما تستحي ؟
حاول أن يقوم وبذل الجهد، لكنه يقول في نفسه أيضا ربما قام أحد هؤلاء الناس الذين سمعوا موعظتي فدعا الله سبحانه وتعالى فكنت أنا شريكا في الأجر لأنه قام بسببي، وربما أشركني بدعوة صالحة، والدال على الخير كفاعله.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه)
وفي حديث جرير أبن عبد الله البجلي: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)
فيأخذ الأمر من هذا المنطلق.
أضرب لكم مثالا يسيرا، وإنما اخترته لكثرة تكرره:
رأيت الكثيرين من الشباب، أئمة مساجد وأساتذة، ومدرسين في حلقات، ومشرفين على نشاطات خيرية، تجد الواحد منهم يتبرم من عمله ويتضايق ويهم بالترك حتى كأنه عصفور في قفص، وقد التقيت بالكثيرين منهم فأساله لماذا؟
فيقول عندي عيوب عندي أخطاء، أنا ما أستاهل، أنا..أنا..
وبعدما الغلغه واخرج ما في نفسه أكتشف مثلا أن هذا الإنسان مبتلى بما يسمى بالعادة السرية.
طيب..هذا خطأ وينبغي أن تبذل جهدك للخلاص منه.
ولو لم يكن من سيئاته إلا ما أوجده في قلبك من الضيق والتبرم والحسرة والشقاء والخجل لكان كافيا.
ولكن هذا الذنب حتى مع القول بتحريمه وهو قول كثير من أهل العلم وإن لم يقولوا أنه من كبائر الذنوب بل هو من صغائرها. هذا الذنب هل يوجب ترك الإمامة وترك الخطابة وترك الدعوة وترك التعليم وترك التوجيه؟
يا أخي ربما يغفر لك بسبب إنسان علمته أو دعوته أو وجهته أو ركعة ركعتها أو صلاة صليتها بالمسلمين.
وهذا ضرره قاصر على نفسك لا يتعدى إلى غيرك، لكن أعمال الخير التي تقوم به أنت نفعها متعدي إلى الأمة كلها.
فلا يخدعنك الشيطان، يجرك من الأعمال الصالحة بهذه الحجة الواهية.
ثم بعد ذلك لا أنت تركت المعصية أو الذنب الذي أنت واقع فيه ولا أنت قمت بهذه الأعمال الصالحة التي هي تقاوم الإثم والسيئة، والله عز وجل يقول: (إن الحسنات يذهبن السيئات).
وفي حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
إذا لا بد من النزول للميدان، لابد من المشاركة في الأعمال، لابد من التوكل على الله عز وجل، لابد من العلم الصحيح الذي يضئ للإنسان الطريق ويبين له ما يأخذ وما يدع، ولابد من أن يهتم الإنسان بأمر نفسه ودعوته، فيهتم بموضوع القدوة ويهتم أيضا بموضوع الدعوة، فإذا أراد أن يقوم بعمل من الأعمال الصالحة فإنه يحرص على إتقانها وأدائها.
الحاجز الثاني أو الوهم الثاني وهو الخوف:
والخوف أذل أعناق الرجال، وكما أسلفت أحيانا عندما يكون عند الإنسان خلل في نفسيته يكون عنده خلل في تصوره للأمور, وإدراكه للأمور وتخيله لها، فتجد أنه يخطئ في الحسابات ويضخم الأمور تضخيما مبالغا فيه.
فمثلا إنسان عنده وسواس، ولاشك أن الوسواس نوع من الخلل، تجد هذا الموسوس يخاف من الكفر، فيقول يا أخي أنا قلت كذا هل يعتبر هذا العمل كفر؟ تقول له لا.
بعد فترة يقول لك أنا جاء في قلبي كذا، هل تعد هذا من الكفر؟ تقول له لا.
وربما سألك في اليوم الواحد عشرين سؤالا كلها تدور حول هل يعد من الكفر؟ هل يعد من الكفر؟
طيب..أنت إنسان موصول القلب بالله عز وجل، مقبل على الله تعالى، محب لله ولدينه، حريص على تجنب حتى الشبهة فضلا عن الحرام، فضلا عن الكبائر، فضلا عن الكفر، فكيف تحول الأمر إلى خوف في قلبك؟
هذا بسبب أن عنده خلل في نفسيته فصار عند خلل في إدراك الأشياء وتصورها وتخيلها ومعرفتها.
فتجد أن الإنسان يخاف، يخاف من الطلاق مثلا، حتى أن بعضهم مجرد خاطر في قلبه يأتيه الشيطان ويلقي عنده خاطر أنه إذا لم تتجاوز هذه السيارة وتسبقها فزوجتك طالق، مجرد خاطر.
فتجده يسرع بقوة حتى يتجاوز هذه السيارة، فإذا وصل إلى الإشارة وضع الشيطان عند وهم أنه إذا ما رجعت من عند هذه الإشارة وأخذت الدورة مرة أخرى من عند الرصيف الآخر فزوجتك طالق.
فتجد هذا المسكين يركض كالمجنون، تركض وراء ماذا؟ تبحث عن ماذا؟
مجرد أوهام يلقيها الشيطان وأخيلة نتيجة خلل في النفسية واضطراب وعدم وضع للأمور في مواضعها.
هذا نموذج قد يكون واضح، وربما البعض يضحك منه.
لكن خذ أمثلة مشابهة قد لا تضحك منها بل ربما تقول أنا مبتلى بها.
مثلا الخوف من رجال الأمن، الخوف من أجهزة المخابرات وأجهزة المباحث.
تجدها ترسم بصماتها أحيانا على بعض الناس فيخاف من كل شيء ويقرأ في كل حركة وفي كل لفتة وفي كل نضرة.
يخاف من المباحث يخاف من الاستخبارات، يخاف من الدول، سواء ما يسمونها الدول العظمى أو غيرها حتى يقول أحدهم وكان إنسانا أخطأ فهرب فيقول معبرا عن هذا المعنى بالضبط يقول:
لقد خفت حتى لو تمر حمامة….لقلت عدو أو طليعة معشر
فإن قيل خير قلت هذه خديعة….وإن قيل شر قلت حق فشمر
يقول إذا جاءني واحد وقال أبدا اطمأن الأمور طيبة، قلت هذا مرسول ليخدعني، وإن جاءني أحد وقال أهرب الطلب في أثرك، قلت هذا صادق ثم شمرت وركضت. هذا خوف.
والآخر يقول:
حتى صدى الهمسات غشاه الوهن…لا تنطقوا إن الجدار له إذن.
والثالث يقول:
لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان
قلت له يا حضرة السلطان
كلابك المفترسات دائما ورائي
كلابك المفترسات مزقت حذائي
ومخبروك دائما ورائي
أنوفهم ورائي، عيونهم ورائي
آذانهم ورائي
كالقدر المحتوم كالقضاء
يستجوبون زوجتي
ويكتبون عنهم أسماء أصدقائي.
والرابع الذي يقول:
(هناك مخبر يدخله مع الشهيق، ويخرج مع الزفير أو يرسل التقرير مع الزفير).
طبعا هذا شاعر، ومن عادة الشاعر أنه يحب المبالغة بطبيعته، وليس بالضرورة أنه يعيش هذه الأوهام، لكن هو يصور حقيقة لكن بالغ في تصويرها، ولكن هذه المبالغة تتحول إلى إحساس حقيقي عند بعض المرضى.
وبعض المصابين فتجد أنه يخاف من كل شيء،لا يعمل شيء، تخايله الأوهام دائما وأبدا.
وبالعكس تجد أحيانا دولا أو مسؤولين في دول أو شخصيات تجده يخاف من الناس يخاف من شعبه.
يفسر كل حركة وكل خطوة وكل سكنة وكل محاولة وكل شيء بأنه ضده وأنه المقصود فيه، فتجده يواجه هذا ويحارب هذا ويفرق المجتمع ويجمع المتفرق، ويقوم بحركات تنبئ عن الخوف.
هذا الخوف هو في كثير من الأحيان عبارة عن وهم نفسي، وليس حقيقة واقعة، وبالتالي قد يتصور أنه يستطيع أن يؤذ الناس أو أن يبطش بهم أو ينكل أو يكمم الأفواه أو ما أشبه ذلك ولكن هيهات.
وهذا ما يسمى أحيانا بعقدة المؤامرة التي توجد لدى الفرد أو الجماعة أو الدولة، شعورك بأن كل شيء مؤامرة ومخطط ضدك أو ضد هذه الدولة أو ضد الإسلام أو ضد جماعة بعينها مثلا.
نعم نحن ندرك أن هناك مؤامرات، ويجب أن نعرف الواقع، ونعرف حجم عدونا ونعرف كيف يفكر وكيف يعمل.
وحتى لا نبالغ فنحن في أحيان كثيرة نتكلم عن مؤامرات الأعداء ونشخصها.
وقبل أيام كان لي درس عن وسائل المنصرين، وسأتحدث عن هذا الموضوع أيضا مرات أخرى.
لكن فرق بين أن تدرك الواقع على طبيعته وبين أن تضخم هذا الواقع حتى يتحول إلى عقدة عندك تتصور كل شيء ورائه مؤامرة، حتى لو كان شيء في صالحك تخيلت أن ورائه مؤامرة وبذلك توقفت عنه.
مثل إنسان يقدم له طعاما طيبا فيقول والله ممكن أن هذا الطعام فيه شيء فيه حاجة، إذا لا داعي، فيتركه خوفا أن يكون ورائه شيء، فيحرم نفسه من خير أتيح له.
وينبغي أن تدرك أن العدو والأعداء، وأن أجهزة المخابرات العالمية مثل المخابرات الأمريكية أو الموساد الإسرائيلية أو المخابرات الروسية، أو أي جهاز مخابرات في العالم.
بل حتى الدول نفسها تعتمد على ما يسمى بالحرب النفسية، حرب التخويف والتضليل وإلقاء الرهبة في نفوس الشعوب.
حتى تجد أن الواحد ينهزم قبل أن يخوض المعركة لأنه يشعر أنه ضعيف وأنه لا يملك شيء في حين أنه يواجه عدوا مدججا يملك كل شيء.
ولعلكم تعرفون على سبيل المثال أفلام الرعب التي تعرض الآن في التلفاز أو في الفيديو وأكثر من يشاهدها الأطفال.
مسلسلات للرعب كيف تغرس في نفوس الأطفال؟
تغرس في نفوسهم المخاوف، وتغرس في نفوسهم الرعب حتى إن إحدى المستشفيات استقبلت في أسبوع أكثر من أربعين حالة لبعض الأطفال بسبب فيلم أو مسلسل عرض في التلفاز.
أيضا تعرف كتب الجاسوسية بالآلاف، الكتب التي تتكلم عن التجسس والجاسوسية، وأعمال الجاسوسية وغيره، بعضها حقائق وبعضها غير صحيح ولكن ربما بعض الوكالات تقوم بنفسها بالتأليف عن نفسها من أجل أن تضخم حقيقتها في نفوس الشعوب، لأن الخوف أحيانا يريحهم من أشياء كثيرة.
مجرد الخوف منعك من العمل ومنعك من المشاركة ومنعك من الإقدام فلم يحتاجوا بعد ذلك إلى شيء آخر، وهم يعتمدون على التهويل والمبالغة، بل يقومون أحيانا بتسريب بعض المعلومات والأخبار غير الصحيحة من أجل الحرب النفسية.
وأوضح مثال اليهود:
الآن هناك عشرات الكتب تتكلم عن اليهود، اليهود القوة الخفية في العالم.
اليهود الذين يملكون الاقتصاد ويملكون الإعلام ويملكون أمريكا ويملكون روسيا.
واليهود الذين يملكون التصنيع.،حتى تصور البعض أن اليهود وراء كل شيء ووراء كل عمل وأن أمريكا دمية بيد اليهود، وأن روسيا كذلك، وأن العالم كله.
وبناء عليه فليس هناك داعي أن نواجه اليهود، ولا أمل في الانتصار عليهم.
طيب.. لماذا لا تفترض أن هذه الصورة الوهمية الخيالية المبالغ فيها أن اليهود هم الذين سعوا إلى رسمها لأنفسهم في نفسي ونفسك حتى نبقى خائفين، ولا شك أن الخوف بداية الهزيمة.
خاصة إذا تصورنا أن اليهود عندهم خطط في الحرب النفسية ناجحة في مجال الإعلام، نعم في مجال الحرب النفسية والمخابرات لديهم خطط، فلا غرابة أن يخططوا لمثل هذا، لكن تصور أن اليهود يتحكمون في كل شيء هذا وهم.
والأمر كما قال أحد الكتاب:
(قال اليهود لا يصنعون الأحداث، ولكنهم يستغلونها).
وهم أعجز من أن يديروا كل شيء ويعملوا كل شيء، لكن عندهم قدرة على استثمار الأحداث بقدر الإمكان لصالحهم، وهذا لا ينكر، واليهود لديهم قوة ولديهم قدرة ولديهم تغلغل.
مثلا في أمريكا وفي روسيا وفي عدد من البلاد، وأعطاهم الله سبحانه وتعالى بعض التمكين، لكن مع ذلك أقول أن الصورة التي ترسم في أذهاننا هي في كثير من الأحيان صورة خيالية ومبالغ فيها عن حقيقة القوة اليهودية.
مثل ذلك أيضا قصص التعذيب:
كثير من شباب الدعوة أول ما يبدأ في القراءة يقرأ مثلا كتاب:
البوابة السوداء، في الزنزانة، لماذا أعدم سيد قطب وإخوانه ؟، في غياهب السجون.
وعشرات الكتب التي تتكلم عن سجون عبد الناصر
وألوان التعذيب، أو السجون الآن في تونس أو في الجزائر أو في أي بلد آخر.
فالشاب الذي هو في أول حياته لم ينضج بعد، ولا يزال غضا طريا نشأ على هذه المعاني وهذه المفاهيم فتولد عنده رعب وخوف، ونشأ في نوع من الذل ونوع من الهزيمة ونوع من الضعف.
فأصبح مثل الشجرة التي نشأت في الظل ليس فيها قوة واخضرار ونماء، تجد فيها صفرة وفيها ضعف ولا تقاوم العواصف خاصة إذا كان هذا في أول عمره وتربى عليه وأكثر من قراءته ففي الغالب أن هذا يحدث عنده أثرا سلبيا.
إذا لابد من تحطيم هذه المخاوف وهذه الهيبة والحديث بصورة معتدلة عن كل هذه الأمور.
فمثلا لماذا لا نتحدث الآن عن سقوط أمريكا؟
وقد ظهرت الآن كتب ودراسات وتحقيقات علمية عن بداية السقوط لأمريكا، ليس بأقلام علماء ومشايخ وكتاب مسلمين، لا.. بل بأقلام أمريكان.
ومن آخر هذه الكتب وأخطرها وأكثرها شهرة كتاب أسمه "صعود القوى العظمى وانحطاطها"، يتكلم عن ما جرى للاتحاد السوفيتي ويقول إن السنة ماضية وأن أمريكا تسير على الأثر.
ثم رصد عدد من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تأكد أن أمريكا سوف تتفتت وتنهار بطريقة أو بأخرى كما انهار الاتحاد السوفيتي.
فلماذا لا نتكلم عن هذا المعنى حتى نزيل الرهبة الموجودة في نفوس البعض.
والذين يتصورون أن أمريكا تستطيع أن تفعل كل شيء، وأنها تهيمن عل كل ما يقع في هذا الكون حتى تحولت إلى شبح ليس في نفوس البسطاء والسذج فقط، بل في نفوس الساسة أحيانا وفي نفوس المفكرين وفي نفوس الصحفيين والإعلاميين.
ولعلكم تسمعون وتقرءون كيف يتكلمون عن هذه القوة التي يقدسونها ويسبحون بحمدها أحيانا ويضفون عليها من أوصاف الجلال والقوة والقدرة والهيمنة شيء لا عهد للتاريخ بمثله.
لماذا لا نحطم هذه الهيبة بالكلام عن سقوط أمريكا هذا السقوط الوشيك خمس سنوات عشر سنوات الأمر يسير.
لماذا لا نتكلم مثلا عن سقوط اليهود سواء من خلال الأحداث الواقعية أو من خلال النصوص الشرعية؟.
لماذا لا نتكلم عن ضعف البشر وأن جميع أجهزة البشر وإمكانيات البشر مهما بلغت من قوة ومن دقة فهي ضعيفة، ولو أردت أن أحدثكم في هذا الموضوع لفعلت ولكن ليس هذا موضوع حديثي.
المهم أن نثبت أن البشر ضعاف ومهازيل ويفوتهم الكثير وتنطلي عليهم أمور كثيرة جدا، وهم لا يدركون إلا القليل، وحتى هذا القليل الذي يدركونه قد لا يدركونه تماما وعلى حقيقته بل يدركون شيئا منه:
(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا).
وبالمقابل لا بد من تعظيم الله عز وجل: (ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا).
الإيمان بوعد الله تعالى ولقائه واليوم الآخر الذي تعد الدنيا كلها وما فيها بالنسبة له كقطرة في بحر.
الإيمان تعظيم رسل الله عز وجل ومحبتهم والإيمان بما جاءوا به.
إدراك أو تصور وتذكر الموت الذي يهون عليك كل شيء وهو السبيل إلى الدار الآخرة.
الإيمان بقضاء الله وقدره، كل هذه المعاني إذا تربى عليها الإنسان وأدركها بنفسه إدراكا صحيحا اعتدلت عنده الأمور وأصبح يدرك الأمور على حقيقتها بلا مبالغة.
من ألوان الخوف وهو من أنواع الحيل النفسية، الخوف من الفشل:
فتجد الإنسان لا يقوم بأب عمل لماذا؟
قال أخاف أفشل.
لماذا مثلا لا تدرس؟
قال أخشى من الرسوب.
طيب أقترح عليك لو تقوم تلقي كلمة.
قال والله أخاف أخطئ في اللغة أو آتي بكلمة مضحكة فيسخر الناس مني ثم بعد ذلك لا أقوم أبدا ولا تقوم لي قائمة.
طيب..لماذا لا تفتح مؤسسة تجارية تستفيد منها وينتفع من ورائها المسلمون؟
قال والله أخاف من الخسارة.
إذا هذا الخوف إذا لاحق الإنسان سيمنعه من أي عمل.
وبناء عليه يجب أن تدرك أن أي عمل في الدنيا يتطلب قدرا من التضحية وقدرا من المغامرة.
فالعمل التجاري مثلا، خاصة إذا كان عملا مدروسا قد يفشل فعلا، لكن كم نسبة فشله؟
إذا كان مدروسا فقد تكون نسبة الفشل عشرة بالمائة، وهذه نسبة لا يلتفت إليها، ثم لو حصل الفشل، تصور ما النتيجة؟
ربما تخسر عشرة آلاف ريال، خمسة عشر ألف ريال، عشرين ألف ريال فقط وتستطيع أن تسددها، ليس الفشل معناه أنك خسرت الدنيا والآخرة مثلا.
ولذلك تفكر بقدر إمكانياتك، لا تفكر تفكيرا خياليا.
طيب.. الكلمة التي نطالبك أن تتكلم بها أمام الناس أو تلقي موعظة، تقول يمكن أخطئ.
إذا أخطأت كان ماذا؟ سأستحي وأخجل.
ممكن وصحيح، لكن هذا الخجل ستنساه خلال يوم أو يومين، وتمتنع عن الكلمة أسبوع، وفي الأسبوع الثاني ربما تكرر المحاولة ولا تعود إلى الفشل بأذن الله تعالى.
ومع ذلك نحن نقول ينبغي أن تحتاط وتضبط الكلام وتعده إعدادا جيدا وحتى تطمئن إن شاء الله أنك لن تخطئ، وإن كان خطأ فهو خطأ يسير ممكن أن يحتمل، مثل أن يكون خطأ في اللغة فقط.
طيّب.. حتى لو تصورت السباحة مثلا، كم واحد لا يجيد السباحة؟
لماذا؟.. عملية بسيطة لا تحتاج إلى جهود ولا إلى تعب، الحيوانات تسبح تلقائيا إذا وضعت في الماء.
لكن تجد الإنسان لأنه تعلم الخوف، فتجده يخاف ولا يسبح أحيانا، لماذا؟
لأنه عنده عقدة الخوف، أخاف من الغرق.
وبهذه العقدة توقفه عن أي عمل إيجابي ومثمر.
إذا لابد أن تعمل أعمال الخير، بل حتى أعمال الدنيا المطلوبة منك باجتهادك، ولئن تعمل باجتهاد ويتبين لك في ما بعد أن هذا الاجتهاد مرجوح خير من أن تقعد.
يعني الذي يعمل ويخطئ أحب إلينا من الذي لا يعمل أصلا.
فكونك تأمر بالمعروف ثم اكتشفت الحقيقة أنك المرة هذه أغلظت في الأمر بالمعروف، أنت أحب إلينا من إنسان لم يأمر، خاصة إذا كان الإغلاظ بقدر معقول، لماذا ؟
لأنك استفدت درسا من الإغلاظ هذه المرة، فالمرة الثانية إن شاء الله سوف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالحسنى والحكمة والكلمة الطيبة ولن تغلظ إلى أحد بقول أو فعل.
لكن ذلك الإنسان الذي لم يأمر بمعروف ولم ينهى عن منكر هو قد قصر في أصل الواجب.
وأنت مطالب بأن تعمل وتصحح وتواصل، لا تقف عند الخطأ، صحح الخطأ وواصل.
ولو تأملت القرآن والحديث لوجدت أن ترك العمل خوف الفشل من سمات المنافقين، وإياك أن تكون منهم.
(الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا).
خضنا معركة وقتل منا من قتل، فجاء واحد وقال:
قتلوا هؤلاء، يا أخي نزفت دماء.
هؤلاء لو أطاعونا وجلسوا في بيوتهم ما قتلوا.
(قل فأدروا عن أنفسكم الموت).
من لم يمت بالسيف مات بغيره، قتل هؤلاء في معركة شهداء في سبيل الله.
طيّب.. كم يموت ويقتل في سبيل الطاغوت ؟
كم يقتل في سبيل الدنيا ؟
كم يقتل من مهربي المخدرات ؟
كم يقتل من اللصوص، كم يقتل.. وكم يقتل ؟
أعداد غفيرة من الناس.
طيّب..كم يموت بالمرض ؟
كم يموت بالجوع والعطش والعري والبرد والحر ؟
أعداد غفيرة من الناس، فلماذا تستكثر أن يموت في سبيل الإسلام بضعة أشخاص أو مئات أو ألوف، ولا تستكثر أن يموتوا في سبيل الدنيا، الموت أمر طبيعي، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره.
(لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا).
يقولون نحن ما كان رأينا الخروج في المعركة، كان رأينا نجلس في المدينة.
فلو كان الرسول (عليه السلام) استشارنا ما قتلنا ها هنا.
( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).
إذا المؤمن بالقضاء والقدر ما يأتي دائما وأبدا لو.. لو.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال في نفس حديث أبي هريرة الذي سقته أولا:
(ولا تعجز) لاحظ قرن بين هذا وهذا قال ولا تعجز فنهاك نهي عن العجز، من أسباب العجز الخوف من الفشل، أن تقول لا أفعل أخاف، ولهذا قال:
(وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح حمل الشيطان).
من ألوان وصور الخوف أيضا الخوف من النقد والتبرم به:
فالكثيرون من الناس يمتلكون حساسية مفرطة شديدة، لا يحب أن يسمع كلمة نقد، وإذا انتقد يحس بأنه اختل توازنه، ويتمنى أن تنفتح الأرض لتبتلعه خجلا.
أو أحيانا تجد بعض الناس يستكبر عن النقد ويتعجرف عن أن يسمع، مع أن الواقع أن الإنسان إذا قام بعمل فهو عرضة للنقد، ولهذا قالوا:
(من ألف فقد أستهدف).
يعني لما تكتب كتاب وتقدمه للناس فسيقرئه مئات أو ألوف.
هذا أعجبه الكتاب وهذا ما أعجبه، وهذا أعجبه لكن له ملاحظات، وهذا.. وهذا.
هذا شيء طبيعي، وحينما تلقي درسا أو محاضرة أو كلمة.
سيقول هذا زاد وهذا نقص وهذا أخطأ وهذا لحن وهذا أفرط وهذا فرط..إلى أخره.
وهذا طبيعي، فأنت حينما تقوم بأي عمل، ضع باعتبارك أنك عرضة للنقد، حتى الأعمال الدنيوية.
تجارة مثلا.. سيقول لك واحد والله يا فلان لو كانت البقالة في المكان الفلاني كان أفضل.
وآخر يقول لك العامل الذي وضعته غير مناسب وغير مأمون، وهذا أخلاقه سيئة وشرسة مع الناس..وثالث..ورابع.
إذا أنت عرضة للنقد ينبغي أن يكون لديك استعداد للعمل واستعداد لسماع النقد واستعداد للتصحيح أيضا.
لماذا؟.. لأن الناقد يشترط كما يقول بعضهم.
بمعنى أن الناقد يشترط الكمال في ما قلت أو في ما فعلت ولهذا يطالبك بالمزيد من الشروط السليمة.
ولهذا قال الشاعر حتى عن خصومة:
عداتي لهم فضل علي ومنة… فلا أبعد الرحمن عني الأعادي
همُ بحثوا عن زلتي فاجتبتها… وهم نافسوني فاكتسبت المعالي
ما رأيك في إناء يشترك في غسله أيد كثيرة من أيدي الأصدقاء والأعداء، لابد أن يتنظف هذا الإناء ولو بعد حين.
من ألوان الخوف، الخوف على لمكاسب:
هذا موظف مثلا كسب في وظيفته مستوى معينا أو رتبة معينة، فتجده لا يحاول أن ينتقل مثلا إلى إدارة أخرى…لماذا؟
لأنه يخاف على بعض المكاسب التي حصلت له في إدارته.
يقول مثلا أنا أقمت علاقات جيدة مع الرؤساء، فربما لو انتقلت إلى إدارة أخرى قد لا يحصل هذا.
هذا قد يقع، لكن أحيانا تجد أن هذا الخوف قد يحول بينك وبين وظيفة أفضل.
كذلك التاجر، لو تقترح عليه الانتقال إلى عمل تجاري أمثل وافضل، خاف.
حتى بائع المسامير في السوق، لو تأتيه وتقول:
يا فلان أنت تتاجر في المسامير، والناس الآن بنت الدور والقصور وملكت وكذا، لماذا ؟
أنت رجل وعندك عقل وتفكير.
فيتصور هذا الإنسان أنه لو ترك بيع هذه الأشياء البسيطة أنه سوف يموت هو وأولاده جوعا..لماذا ؟
لأنه حصل كسبا بسيطا فهو يخاف على هذا المكسب أن يضيع.
ومثله داعية قام بعمل طيب ولكن هذا الهمل محدود، مثلا أقام مكتبة ونشط في هذه المكتبة وهدى الله على يديه أفراد في الحي، فتقول له يا فلان:
أنت لست حقك أن يهدي الله على يديك خمسة أو عشرة، أنت حقك أن تخاطب بلدا بأكمل أو أمة بأكملها.
قال يا أخي نعم لكن هؤلاء العشرة أخاف عليهم أن يضيعوا وليس لهم أحد غيري.
فالخوف على هذا المكسب تسبب بأن يفوت على نفسه خيرا أكبر واعظم.
قد يكون هذا هو قدره، قد يكون هؤلاء الأفراد هم الحجم المناسب لإمكانياته.
لكن أحيانا قد تجد إنسان يملك مواهب أكبر وأوسع وأكثر وقدرات وإمكانيات قد أهدرها وضيعها..لماذا؟
لأنه أرتبط بهذا الواقع وهذا الوضع فصار يخشى على هذا المكسب، وهو مكسب حقيقي، ولكنه محدود ويمكن أن يقوم به إنسان آخر أقل منه مواهب، فخسرنا بذلك وخسر هو أمور أكبر.
لماذا ؟ لأنه دائما يمد يداً قصيرة، وهو يحامي دون هذه المكاسب ويخاف عليها.
ولذلك كلما قيل له تعال هنا، تعال إلى هذا الميدان
قال لا أخاف على فوات بعض ما كسبت.
إذا لابد من كبر الهمة وعلوها وحسن الظن بالله تعالى، والعوام يقولون في أمثلتهم:
(قل خيرا يقوله الله عز وجل).
ونحن لا نقول هكذا، ولكن نقول كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي وهو صحيح:
(أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء).
فظن بالله خيرا، وأعتقد إن شاء الله أن الله يفتح لك أبواب الخير، متى ما كبرت همتك واتسع نطاق تفكيرك، وانتقل إن شاء الله من مكسب إلى مكسب ومن نصر إلى نصر أكبر منه، ولا تقف عند حد معين وتقول هذا يكفي.
من الحيل النفسية تطلب الكمال مع عدم السعي في تحصيله:
تجد الإنسان أحيانا يفترض هدفا عظيما وكبيرا جدا لا يستطيعه ولا يسعى إليه وإنما يتحسر في نفسه ويدع العمل.
وخذ هذه بعض الأمثلة:
مثلا يفترض المسلم اليوم وجود دولة إسلامية نظيفة ناضجة كاملة على الكتاب والسنة.
يأمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر وتقام الحدود ويمنع الربى.
ولا يوجد فيها منكرا ولا معصية ويدعى فيها إلى السنة، يعني يفترض دولة إسلامية كاملة مائة بالمائة.
ثم ينظر إلى واقع العالم كله اليوم فيجد أن هذا الأمر بعيد المنال، فحين إذ يصبح عنده نوع من الاستحسار وترك العمل.
مثالا آخر إنسان بدأ في طلب العلم فتبرز إلى ذهنه أحيانا:
صورة عالم أو فقيه أو مفتي لا يسأل عن مسألة إلا أجاب فيها بالدليل والتعليل والتفصيل.
وأحيان يبرز إلى ذهنه ذاك الأديب الشاعر اللغوي المتكلم.
وأحيانا تبرز إلى ذهنه ذلك الخطيب المفوه الذي يهز أعواد المنابر،.
فتجد هذا الإنسان مشتت، يتصور أنه يكون كل هؤلاء، عالم وفقه وخطيب ومفتي وداعية وشاعر.
فيتصور أن هذا الأمر بعيد المنال فيستحسر ويدع طلب العلم.
لماذا ؟ لأن هذه الصورة التي رسمها صورة مثالية كمالية، هي خيالية قد لا تكون واقعة أصلا أو ممكنة.
إنسان ثالث يتصور أنه مطالب بتربية الشعوب كلها على الإسلام قبل أن يتحقق للإسلام نصر.
فيقول متى نربي الشعوب كلها، الواحد منا يجلس سنوات يربي شخص على الإسلام أو أشخاص، وقد لا يتم له ما أراد، فكيف تربى شعوبا بأكملها، إذا هذا أمر محال فيستحسر ويدع العمل.
وينسى أنه ليس بالضرورة أن تكون تربية الشعوب كلها أن يربون على المنهج الكامل أصولا وفروعا واعتقادا وعملا وعبادة في جميع الجوانب..لا. هذه سنة الله أن البشر فيهم وفيهم.
والرسول عليه الصلاة والسلام كما تعلم مثلا لما جاء إلى صلح الحديبية كان معه ألف وأربعمائة رجل.
وفي فتح مكة زاد العدد فلم يكلم أحد بعد الصلح إلا أسلم..
وبعده في حنين خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) بعشرة آلاف، عشرة آلاف هؤلاء خلال فترة محدودة جدا هي أقل من سنتين، بطبيعة الحال ما تلقوا من التربية قدرا كبيرا، ولهذا لما مروا بقوم على شجرة قالوا :
(يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط).
فقال عليه الصلاة والسلام:
(إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى أجعل لنا إله كما لهم آلهة).
ثم صلى بهم عليه الصلاة والسلام على أثر سماء كانت من الليل، فقال:
( هل تدرون ماذا قال ربكم ؟)
قالوا الله ورسوله أعلم،
قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر إلى آخر الحديث)
المهم تربية عامة وتربية جماعية جماهيرية على قدر معقول من الدين، وقدر معين ولا يلزم أن يكونوا كلهم في الدرجة العليا من الفهم والوعي والعلم والإدراك، بل قد علم كل أناس مشربهم، وكل إنسان له سقف وله مستوى يكفي أن يصل إليه.
مثله أيضا لما يتكلم الإنسان، يلقي درسا أو محاضرة يفترض في نفسه جماهير غفيرة تحضر له، فإذا جاء للمسجد وقد تعب وأعد وجد أن الحضور صف أو صفين أصيب بإحباط ونكسه، ثم تصور أن هذا العمل خطأ.
طيّب.. لماذا تفترض كمال العمل منذ البداية، لماذا لا تعود الناس القوة والجودة في الإعداد والتجديد والبذل، وسيتكاثر حولك الناس حتى ينتفعوا بك ويستفيدوا من علمك.
ومثله تماما أو قريبا منه قضية ترك العمل بحجة عدم صلاح النية.
فتجد لواحد يترك الأعمال يقول أخاف من الرياء.
طيّب.. ليس الحل هو ترك العمل، بل أستمر في العمل وجاهد نفسك على ترك الرياء.
صحح النية وادع الله تعالى وقل كما علم الرسول(صلى الله عليه وسلم) أبا بكر:
(اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلمه، وأستغفرك لما أعلمه).
واستمر على العمل ولا يكون هذا سببا في ترك العمل بسبب فساد النية.
إذا وجود هدف معقول من أسباب حسن العمل.
فأنت مثلا تنشر العلم وليس بشرط لكي تدرس أن تكون عالما فحلا يشار إليك بالبنان، ولكن لو كان عندك معرفة بمتن من المتون فمن الممكن أن تدرسه للناس بقدر طاقتك.
تحفيظ القرآن، لا يشترط لكي تجلس لتحفيظ
ضع تعليقك :///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////
.
فضيلة الشيخ: سلمان ابن فهد العوده
.............................................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتبعاه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد………….
والعنوان كما سمعتم ورأيتم الحيل النفسية:
وأود أن أقول للأخوة في البداية إن هذا الموضوع هو استكمال لموضوع كنت بدأته من قبل وخرج بعنوان الأمة الغائبة.
ولعل هذا الموضوع هو تشخيص لبعض أسباب غياب الأمة، وهو أيضا مثل سابقه عبارة عن مطالبة بالمشاركة.
أي لون من ألوان المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل، إذ نحن لا نشترط حين نطالبك أنت بشخصك وعينك أيها القاعد بين أيدينا، لا نشترط لمشاركتك في العلم والدعوة والإصلاح والأمر بالمعروف شكلا معينا ولا مقارا معينا أو حجما معينا.
لكن نطلب منك مطلق المشاركة بقدر ما تستطيع.
لأننا نعلم أولا أنك تقدر فإن الله تعالى خلقك إنسانا، وكلمة إنسان بذاتها قبل أن ندخل في أي لفظ شرعي، كلمة إنسان يقول أهل اللغة: (هي مشتقة من النوس، ناس، ينوس إذا تحرك).
إذا أنت متحرك بطبيعتك، وفعال بطبيعتك، فأنت تستطيع أن تصنع الكثير، فنحن نطالبك أولا بهذا.
وثانيا لا نشترط قدرا معينا لأننا نعلم أن الناس ليس نسخة واحدة طبق الأصل بعضهم من بعض، كلا.
فالذي في كبينة القيادة أحيانا شخص واحد أو اثنان وعلى العموم هم أفراد.
لقد حرصت أيها الأخوة في هذه المحاضرة على الوضوح والمباشرة وعدم التعقيد العلمي، لأن المخاطب بهذه الكلمات ليسو هم النخبة وعلية القوم من المثقفين والخاصة والدعاة،…. كلا.
بل نريد أن نخاطب بهذه الكلمات كل إنسان مسلم بغض النظر عن مستواه العلمي والثقافي، وعن عمره وعن أي شيء آخر، ولذلك فلا غرابة أن أحرص على توضيح العبارات وبسطها والبعد عن أي لون من ألوان الترتيب العلمي الذي قد يصعب ويشق على الناس فهمه.
ومن قبل كان أبن قتيبة رحمه الله يقول في بعض كتبه:
(ينبغي أن يكون الخطيب متخير اللفظ قليل اللحظ لا يحرص على تدقيق العبارة ولا على تخصيص المعاني).
أي أنه يذكر معاني مجملة عامة يسهل على كل إنسان فهمها وليس فيها من الغموض والدقة أي مقدار.
ومن بعده كان الإمام الشاطبي أيضا يقول:
( إن السلف رحمهم الله تعالى كان الواحد منهم لا يهتم بالألفاظ، بل يلقي الكلام على عواهله وكيفما أتفق متى ما علم أن هذا الكلام يؤدي المعنى المقصود، ويصل إلى ذهن السامع ويبلغ المعنى الشرعي).
إذا لندرك أننا في هذه الجلسة لا يعنينا تزويق الألفاظ.
ولا تصفيف العبارات، ولا الترتيب العلمي والموضوعي بقدر ما يعنينا أن أمامنا عددا من الحيل النفسية التي نتستر بها أحيانا ينبغي أن نكتشفها ونفضح نفوسنا فيها حتى نضعها أمام الحقيقة وجها لوجه، ولا نبقي عذرا لمعتذر يقعد عن أن يقوم بعمل في سبيل الله عز وجل.
إذا لا تنتظر مني استكمالا للموضوع ولا تطويلا فيه ولا تنظيرا، بل ولا حسن ترتيب، فحسبي أن تفهم الكلام الذي أقوله وتوقن أو تعلم بأنه حق وأنه ينبغي أن نعالجه.
وبادئ ذي بدء نلاحظ أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى عن العجز واستعاذ منه فقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم وهو حديث طويل:
( أحرص على ما ينفعك وأستعن بالله ولا تعجز).
وهذا نهي ، ولا تعجز، إذا أمسك بيدك كلمة العجز حتى نفكر بعد قليل ما هو العجز.
ثم تنتقل فتجد أن من دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي ثبت عن جماعة من الصحابة كأنس أبن مالك مثلا أو غيره أنه كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من العجز:
( وأعوذ بك من العجز). والحديث جاء عن أنس وزيد أبن أرقم وهو في الصحيح وغيره.
وتجد في القرآن الكريم كلمة العجز أيضا موجودة في مواضع منها:
(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما…..الآيات)
إلى قوله تعالى:
(فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين)
إذا هنا يبرز أمامك العجز، فالعجز إذا داء، مرض يكون سببه الغفلة وعدم الاهتداء، حتى أن هذا الإنسان مثلا لم يكن عاجزا عن أن يحفر الأرض ليدفن أخاه الذي قتله، ولكنه غفل عن هذا المعنى ولم يتفطن له حتى رأى الغرب يبحث في الأرض فاستيقظ وتنبه ولام نفسه أن يكون الغراب معلماً له ويسبقه إلى هذه القضية فيحفر في الأرض فقال:
(قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين).
وبذلك قد نكتشف أن العجز هو صفة ملازمة للمعتدين أحيانا، لأن هذا الإنسان كان معتديا، فالاعتداء غلف قلبه وغطى على فطرته حتى لم يتفطن إلى مسألة أن يحفر الأرض أخاه.
إذا الزيادة أو النقص الإفراط أو التفريط كل هذه الأشياء تكون سببا في ابتلاء الإنسان بالعجز والقعود وترك العمل.
الإنسان يتعلم إذا حتى من الحيوان، وأنت تعرف قصة الإنسان الذي أراد أن يتعلم النحو ففشل مرة ومرتين وثلاث، وبعد ذلك رأى نملة تصعد وكلما صعدت سقطت ثم تكرر المحاولة.
فبعد ذلك تلقن من ذلك درسا أنه يجب أن يحاول ويكرر المحاولة فيستجيب حتى من الحيوان أو الطير أو غيره، حتى يذكرون هذه القصة عن سيبويه أو غيره.
ولذلك وصم الله المنافقين الذين تخلفوا أنه أراد سبحانه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وبما كسبت أيديهم، وكذلك بعض المؤمنين أيضا الذين هربوا أو تولوا من المعركة:
(إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم). (فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون).
هذا العجز الوارد في الشرع هو ما يمكن أن نعبر عنه أحيانا بالعوائق النفسية أو الحيل النفسية وهو داء في القلب أو في النفس لكن لا يصل إلى حد أن نعتبر أن صاحبه بالضرورة كما قد يتوهم البعض مريضا نفسيا أو مجنونا مثلا.
لا.. لكن عنده نوع من الخلل، وأنت تلاحظ الفرق بين إنسان سوي النفس سليم القلب ملتزم بالكتاب والسنة كثير الإقبال عليهما شديد التوكل على الله، تجد أن موازينه وحساباته مضبوطة.
وآخر أعماله النفسية كلها غير طبيعية بل هي مصابة بالخلل بسبب نوع من عدم الاعتدال عنده.
فتجد مثلا قضية الإدراك عنده غير منضبطة، لا يدرك الأمور إدراكا صحيحا، ولا يتصورها تصورا صحيحا، ولا يتذكرها ولا يتخيلها بشكل صحيح، فهو يدركها على غير صورتها وبذلك يخطئ الحسابات كما سوف يأتي أمثلة لذلك بعد قليل، وبالتالي تجد أن هذا الإنسان لا يعمل.
أحيانا هناك إنسانا قاعدا لا يعمل، ولو قلت له، قال لك نعم أنا لا أفعل شيء، لماذا ؟
قال لك عسى الله يهديني، والله أنا قادر ومستطيع، فلا يخدع نفسه أو يضحك عليها.
ولكن هناك آخر تجد أنه إذا حادثته وقلت لماذا لا تفعل شيء؟
بدأ يفلسف هذا العجز، ويظهره بصورة العقل أحيانا،
أو بصورة الفهم أو الحكمة، أو حتى بصورة الشرع كما سوف يبدو لك.
فما هي هذه الأعذار التي نتستر ورائها أحيانا حتى نترك العمل ؟
قبل أن أذكرها أود أن أقول لك نقطة حتى تدرك هل أنت تعيش نوعا من الحيل النفسية.
تصور وأنت قاعد بين يدي الآن، هل تشعر أنك المخاطب وأن الكلام وموجه لك مباشرة؟
أم تشعر أنه يعني أناس آخرين غيرك؟
فإن كنت تتصور أن الكلام موجه لك أنت بالذات دون غيرك، فهذا دليل على نوع من الوضوح والصراحة مع نفسك.
لكن إن كنت تشعر بأن المخاطبين أناس موجودين في كوكب آخر، فيجب أن تتنبه إلى أن هذه بداية الحيل النفسية، أنك تجعل الكلام يزل عن يمينك وشمالك ولا يصيبك.
أول هذه الحيل التواضع الوهمي الكاذب.
فيرى الإنسان نفسه ليس أهلا لشيء، لا لعمل ولا لوظيفة ولا لشهادة ولا لإمامة ولا لخطابة ولا لدعوة ولا لتصدر ولا لإدارة ولا لشيء.
يقول يا أخي أنا أعرف نفسي، لا تظن أني متواضع، لا.
الحقيقة لو تعرف ما في نفسي من العيوب لعذرتني وأدركت أنني لا أقول إلا الحقيقة، فدعني ونفسي.
وعبثا تحاول إخراج بعض هؤلاء الناس من تواضعهم الوهمي الذي أصبح يحول بينهم وبين أي عمل.
وليست المشكلة في وجود الشعور نفسه، كون الإنسان يتكلم عن نفسه بازدراء أو احتقار أو يهضم نفسه أو يوبخها، هذا لا شيء فيه بل هو أمر فطري بل المؤمن الصادق هو كذلك، لا يصاب بغرور ولا عجب ولا يرى نفسه شيئا.
وكما قال أبن مسعود رضي الله عنه كما في الصحيح: (إن المؤمن يرى ذنوبه مثل جبل على رأسه يخشى أن يقع عليه، والمنافق كذباب وقع على وجهه فقال به هكذا بيده فطار).
إذا نحن لا نعيبك أن توبخ نفسك ولا أن تزدري نفسك ولا أن تحتقرها فهذا لا شيء فيه.
ولكن المشكلة أن يتحول هذا الشعور عندك إلى منهج يحكم كل تصرفاتك وأعمالك.
فإذا قلنا لك يا فلان تعال أمسك المسجد وصلي بالمسلمين أو درّس أو أمسك هذه الوظيفة المهمة أو ألف كتابا أو ألقي درسا أو محاضرة أو أمر بمعروف أو أنهى عن منكر، هززت رأسك وقلت:
الله المستعان، لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني، فتحول هذا الشعور إلى عائق وحائل يمنع الإنسان من العمل.
وأنت تجد أن كلام السلف يدل على أن المشكلة ليست في وجود هذا الشعور والكلام، ولكن المشكلة في كونه يتحول إلى ذريعة لترك العمل الصالح.
مثلا أبو الوفاء أبن عقيل – رحمه الله – صاحب كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد وهو من أذكياء العالم، له كلام عجيب في توبيخ نفسه نقله أبن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، وقال أبن الجوزي بعد ما وبخ نفسه وذمها وعاتبها قال:
( وقد رأيت الإمام أبو الوفاء أبن عقيل قد ناح على نفسه نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فنقلتها ها هنا).
يقول أعجبني صياحه وبكائه على نفسه.
ماذا قال أبو الوفاء؟ قال كلاما طويلا مقصده وخلاصته أن أبا الوفاء أبن عقيل يخاطب نفسه ويقول:
(يا نفس ماذا استفدت من عمرك الطويل؟ استفدت من أن يقال لك أنك إنسان مناظر قوي الحجة لا غير، مثل ما يقال للمصارع المنتصر الغارة (يوصف بهذا الوصف أو يسمى بهذا الاسم).
قال: وعما قليل تترك ذلك في الموت، بل حتى في حياتك لو برز للناس شخص أو شاب افره من وأقوى منك عبارة لربما موهوا له بالقول وركضوا ورائه وتركوك، فماذا انتفعت من قول الناس لك يا مناظر ؟ وأنت تعلم ما في نفسك وما في قلبك.
ثم قال والله ما أعلم في نفسي حسنة أستطيع أن أسأل الله بها فأقول: اللهم إني أسألك كذا بكذا.
مثل اللهم أني أسألك الجنة بأني أقوم الليل أو بأني أصوم النهار أو بصلة رحم مثلا، يقول إني لا أعلم لنفسي حسنة أستطيع أسأل الله بها فأقول اللهم إني أسألك كذا بكذا.
(وعما قليل أموت فيقول الناس مات الرجل الصالح العالم الورع الـ.. الـ.. وولله لو علموا حقيقتي ما دفنوني.)
وكلام من هذا القبيل طويل، كلام ثم قال:
(والله لأنادين على نفسي وأفضحها لعل الله أن يرحمني بذلك).
كلام أبن الجوزي مثلا، وكلا أبو الوفاء أبن عقيل وغيرهم من أهل العلم لعل الكثيرين منكم يفضحون نونية القحطاني:
والله لو علموا قبيح سريرتي ….لأبى السلام علي من يلقاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي…ولبؤت بعد كرامة بهواني
إلى آخر قصيدته.
لكن السؤال، أبو الوفاء أبن عقيل وأبن الجوزي والقحطاني ومن قبلهم ومن بعدهم حتى الصحابة رضي الله عنهم لهم في ذلك كلام كثير في ازدراء النفس، هل هذا الشعور جعلهم لا يعملون، لا يجاهدون، لا يأمرون بالمعروف لا ينهون عن المنكر؟ لا.. أبو بكر هو الخليفة وأمور المسلمين كلها في عنقه ومع ذلك كثيرا ما يوبخ نفسه، فإذا مدحوه قال:
(اللهم أغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيرا مما يظنون).
وكثير ما كان أبو بكر رضي الله عنه يقبل على نفسه فيوبخها ويذمها.
ومثله عمر، خليفة وتعرف عمر ماذا فعل رجل إيجابي من الدرجة الأولى، ومع ذلك عمر كما في الأثر الصحيح كان يقول: (بخٍ بخ يا أبن الخطاب، بالأمس ترعى غنم الخطاب، واليوم أمير المؤمنين، والله لتتقين الله أو ليعذبنك).
إذا فرق بين شعورك بالازدراء والاحتقار لنفسك الذي هو خير وضمانة –إن شاء الله- عن العجب والاغترار وعن حبوط العمل وعن الكبر وعن الغطرسة وعن رد الحق، فرق بين هذا، وبين هذا الاحتقار للنفس الذي هو مدخل من مداخل الشيطان يجعلك لا تقوم بأي عمل صالح ولا تمارس أي دور.
كلام أبو الوفاء أبن عقيل وأبن الجوزي والقحطاني ومن قبلهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وفلان وعلان لم يمنع آخرين من أن يتكلموا عن ما وهبهم الله من الخير والنعم.
لأن النعمة يجب أن تشكر، وأول مراحل الشكر للنعمة هو أن تعرف النعمة، يقول الله عز وجل:
(يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون).
فأول مراحل الشكر للنعمة المعرفة، فإذا كان الله أعطاك مواهب لابد أن تعرف هذه المواهب حتى تشكرها، ولو جحدتها لكنت منكرا نعمة الله تعالى عليك.
يوسف عليه السلام نبي الله: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم).
ما منعه أن يطالب بأن يكون على خزائن الأرض لأنه يعلم أن الله تعالى قد أختصه بهذه المزايا.
أبن عباس يقول: (أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله (وما يعلم تأويله إلا الله)، وفي قوله تعالى ، (ما يعلمهم إلا قليل)، أنا من القليل الذين يعلمه). لم يمنعه تواضعه أن يقول هذا.
عثمان أبن أبي العاص كما في السنن وهو حديث صحيح: (يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال أنت إمامهم، واقتدي بأضعفهم، وأتخذ مؤذنا لا يأخذ على آذانه أجرا).
فعثمان ابن أبي العاص لم يمنعه تواضعه وهضم نفسه من أن يطلب أن يتولى عملا دينيا وهو الإمامة.
ليس عملا دنيويا إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه، ولكن العمل الديني.
ولهذا الله تعالى وصف المتقين كلهم بأنهم عباد الرحمن بأنهم يقولون:
(ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما).
اجعلنا للمتقين إماما، ما طلبوا فقط أن يكونوا من المتقين.
بل طلبوا أن يكونوا أئمة للمتقين، ليسوا أئمة للمؤمنين أو المسلمين فقط، بل للمتقين.
ولا شك أنه من الغبن أن يقول العبد في سجوده، واجعلنا للمتقين إماما، ثم يطلب منه أن يتولى أمر ثلاثة في دعوة أو إصلاح أو قيادة أو توجيه أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، ثم ينفض ثوبه ويتنصل ويقول:
لا أستطيع …لا أستطيع.
لأن مقتضى الشرع أن الدعاء يتطلب العمل الصالح، فإذا قلت:
(واجعلنا للمتقين إماما) ينبغي أن تسعى إلى تحقيق الإمامة في الدين. قال الله تعالى:
(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
قال سفيان: (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين).
ولما قال ربيعة ابن مالك الأسلمي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم):
(يا رسول الله أدعو الله أن أكون رفيقك في الجنة، قال أعني بكثرة السجود).
إذاً، إذا دعوت بشيء عزز دعائك بفعل الأسباب، وكما قال عمر رضي الله عنه:
(أخلط مع دعاء العجوز شيئا من القطران).
كانوا يقولون إذا أصاب أبل الصدقة الجرب، نذهب إلى عجوز هناك تدعو فيشفيها الله تعالى، فقال عمر رضي الله عنه:
لا بأس هذا جيد أذهبوا للعجوز لكي تدعو.
ولكن وفي نفس الوقت هاتوا القطران وهو نوع من العلاج اطلوا به هذا الجرب فيزول بأذن الله تعالى.
فالسبب لابد من فعله، الدعاء سبب وفعل العمل الصالح من السجود أو السعي إلى الإمامة في الدين بالصبر والتقوى واليقين هو أيضا مطلوب.
وأحيانا تجد أن المعصية أو النقص أو التقصير يتسبب للإنسان في ترك العمل الصالح، وكأنه يظن أنه لا يعمل للخير إلا الكامل فلا يعملون، مع أنك لو نظرت للنص الشرعي وجدت غير هذا.
يا فلان لماذا لا تدعو إلى الله ؟
قال الله المستعان، روائح ذنوبي فاحت.
أنا أستحي أن أقف أمام الناس، أستحي من الله تعالى.
أخجل أن أعظ الناس وأنا أحتاج إلى من يعظني.
طيب يا أخي، الآن أنت عندك مال، هل تزكيه؟
قال نعم أزكيه لأنه بلغ النصاب.
طيب، المال بلغ النصاب تزكيه، لكن ألم تعلم أن العلم عليه زكاة أيضا، وفي نفس الوقت العلم ليس له نصاب، فالرسول عليه الصلاة والسلام بين النصاب في الأموال الزكوية، ولكن بالنسبة للعلم ماذا قال ؟ قال:
(بلغوا عني ولو آية). كما في الصحيح.
آية واحدة فقط أو حديثا.
(نظّر الله امرؤا سمع منا حديثا فبلغه).
آية وحدة أو حديث واحد، من يوجد من المسلمين كلهم من لا يحفظ آية أو يحفظ حديثا؟
فيجب أن تتفطن أن كل قدر من العلم ولو قل عندك عليه زكاة، وأن تقصيرك أنت بفعل المعصية، ليس موجبا بل ولا مبيحا لترك النهي عنه، وتقصيرك بترك الطاعة ليس موجبا بل ولا مبيحا بترك الأمر بها.
بمعنى يجب أن تأمر بالمعروف ولو كنت تاركا له، ويجب أنت تنهى عن المنكر ولو كنت واقعا فيه.
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب….فمن يعظُ العاصين بعد محمدِ
ولا شك في هذا بل هو يكاد يكون إجماعا لأهل العلم.
إذ كونك تركت المعروف بنفسك هذا خطأ، تعالجه بخطاء آخر أنك أيضا لا تأمر به.
وكونك فعلت المنكر هذا خطأ، لكن تعالج هذا الخطاء بخطأ آخر هو أنك لا تنهى عن المنكر.
وأضرب لك مثالا بسيطا:
أنت – وحاشاك إن شاء الله – مبتلى بشرب الدخان لأنك نشأت في بيئة لم تعودك على ترك هذا، فأخذته بالتقليد والعادة وأصبح صعبا عليك تركه بسبب الإدمان.
تزوجت ورزقت بأولاد فوجدت أبن عشر سنوات من أولادك يدخن.
هل تقول حين إذا لا أنهاه لأني أنا مدخن؟
قطعا لا… بل ستقول أمنعه وستتخذ من كونك مدخنا حجة عليه، وستقول له يا ولدي
أنا جربت قبلك وابتليت بهذا الداء الذي أخرج من مالي وأتركه لكن عجزت.
فأنت الآن ما دمت في بداية الطريق أبتعد عن هذا الشيء.
فتستفيد من الخطأ الذي وقعت فيه في نهي الناس.
مع أنك مطالب بترك المعصية ومطالب بفعل الطاعة، ولكن ليس من شروط الأمر بالمعروف أن تكون فاعله.
ولا من شروط النهي عن المنكر أن تكون تركا له.
أما قول الله تعالى:
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم).
هذا نعم.. لا شك أنه يوبخ لأن الآمر للناس عالم، وكان مفروضا أن يكون أول الممتثلين، كما قال شعيب عليه السلام:
(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه).
لكن كونك قصرت في هذا لا يبيح لك أن تقصر في الثاني.
مثله قوله عليه السلام كما في حديث أسامة في صحيح البخاري:
(يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى بالنار …إلى قوله كنتم آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
نقول هذا هل دخل النار لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟
كلا…الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنية الصالحة عمل صالح يدخل الجنة ويباعد عن النار، وإنما دخل النار لأنه يفعل المنكر ويترك المعروف.
أو لأنه يأمر وينهى على سبيل النفاق والخداع والتغرير لا على سبيل الصدق والإخلاص والعمل الصالح.
ولإنسان الإيجابي الفعال له منطق آخر.
تجده ممكن يلقي درسا عن قيام الليل وفصل قيام الليل ويرغّب الناس فيه، فإذا قالت له زوجته وهي تعرف أنه لا يقوم الليل، أو قال له زميله الذي يعرف انه لا يقوم الليل:
يا فلان أتحث الناس على قيام الليل وأنت منجعف على فراشك تتقلب، ما تخاف الله ؟ ما تستحي ؟
حاول أن يقوم وبذل الجهد، لكنه يقول في نفسه أيضا ربما قام أحد هؤلاء الناس الذين سمعوا موعظتي فدعا الله سبحانه وتعالى فكنت أنا شريكا في الأجر لأنه قام بسببي، وربما أشركني بدعوة صالحة، والدال على الخير كفاعله.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه)
وفي حديث جرير أبن عبد الله البجلي: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)
فيأخذ الأمر من هذا المنطلق.
أضرب لكم مثالا يسيرا، وإنما اخترته لكثرة تكرره:
رأيت الكثيرين من الشباب، أئمة مساجد وأساتذة، ومدرسين في حلقات، ومشرفين على نشاطات خيرية، تجد الواحد منهم يتبرم من عمله ويتضايق ويهم بالترك حتى كأنه عصفور في قفص، وقد التقيت بالكثيرين منهم فأساله لماذا؟
فيقول عندي عيوب عندي أخطاء، أنا ما أستاهل، أنا..أنا..
وبعدما الغلغه واخرج ما في نفسه أكتشف مثلا أن هذا الإنسان مبتلى بما يسمى بالعادة السرية.
طيب..هذا خطأ وينبغي أن تبذل جهدك للخلاص منه.
ولو لم يكن من سيئاته إلا ما أوجده في قلبك من الضيق والتبرم والحسرة والشقاء والخجل لكان كافيا.
ولكن هذا الذنب حتى مع القول بتحريمه وهو قول كثير من أهل العلم وإن لم يقولوا أنه من كبائر الذنوب بل هو من صغائرها. هذا الذنب هل يوجب ترك الإمامة وترك الخطابة وترك الدعوة وترك التعليم وترك التوجيه؟
يا أخي ربما يغفر لك بسبب إنسان علمته أو دعوته أو وجهته أو ركعة ركعتها أو صلاة صليتها بالمسلمين.
وهذا ضرره قاصر على نفسك لا يتعدى إلى غيرك، لكن أعمال الخير التي تقوم به أنت نفعها متعدي إلى الأمة كلها.
فلا يخدعنك الشيطان، يجرك من الأعمال الصالحة بهذه الحجة الواهية.
ثم بعد ذلك لا أنت تركت المعصية أو الذنب الذي أنت واقع فيه ولا أنت قمت بهذه الأعمال الصالحة التي هي تقاوم الإثم والسيئة، والله عز وجل يقول: (إن الحسنات يذهبن السيئات).
وفي حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
إذا لا بد من النزول للميدان، لابد من المشاركة في الأعمال، لابد من التوكل على الله عز وجل، لابد من العلم الصحيح الذي يضئ للإنسان الطريق ويبين له ما يأخذ وما يدع، ولابد من أن يهتم الإنسان بأمر نفسه ودعوته، فيهتم بموضوع القدوة ويهتم أيضا بموضوع الدعوة، فإذا أراد أن يقوم بعمل من الأعمال الصالحة فإنه يحرص على إتقانها وأدائها.
الحاجز الثاني أو الوهم الثاني وهو الخوف:
والخوف أذل أعناق الرجال، وكما أسلفت أحيانا عندما يكون عند الإنسان خلل في نفسيته يكون عنده خلل في تصوره للأمور, وإدراكه للأمور وتخيله لها، فتجد أنه يخطئ في الحسابات ويضخم الأمور تضخيما مبالغا فيه.
فمثلا إنسان عنده وسواس، ولاشك أن الوسواس نوع من الخلل، تجد هذا الموسوس يخاف من الكفر، فيقول يا أخي أنا قلت كذا هل يعتبر هذا العمل كفر؟ تقول له لا.
بعد فترة يقول لك أنا جاء في قلبي كذا، هل تعد هذا من الكفر؟ تقول له لا.
وربما سألك في اليوم الواحد عشرين سؤالا كلها تدور حول هل يعد من الكفر؟ هل يعد من الكفر؟
طيب..أنت إنسان موصول القلب بالله عز وجل، مقبل على الله تعالى، محب لله ولدينه، حريص على تجنب حتى الشبهة فضلا عن الحرام، فضلا عن الكبائر، فضلا عن الكفر، فكيف تحول الأمر إلى خوف في قلبك؟
هذا بسبب أن عنده خلل في نفسيته فصار عند خلل في إدراك الأشياء وتصورها وتخيلها ومعرفتها.
فتجد أن الإنسان يخاف، يخاف من الطلاق مثلا، حتى أن بعضهم مجرد خاطر في قلبه يأتيه الشيطان ويلقي عنده خاطر أنه إذا لم تتجاوز هذه السيارة وتسبقها فزوجتك طالق، مجرد خاطر.
فتجده يسرع بقوة حتى يتجاوز هذه السيارة، فإذا وصل إلى الإشارة وضع الشيطان عند وهم أنه إذا ما رجعت من عند هذه الإشارة وأخذت الدورة مرة أخرى من عند الرصيف الآخر فزوجتك طالق.
فتجد هذا المسكين يركض كالمجنون، تركض وراء ماذا؟ تبحث عن ماذا؟
مجرد أوهام يلقيها الشيطان وأخيلة نتيجة خلل في النفسية واضطراب وعدم وضع للأمور في مواضعها.
هذا نموذج قد يكون واضح، وربما البعض يضحك منه.
لكن خذ أمثلة مشابهة قد لا تضحك منها بل ربما تقول أنا مبتلى بها.
مثلا الخوف من رجال الأمن، الخوف من أجهزة المخابرات وأجهزة المباحث.
تجدها ترسم بصماتها أحيانا على بعض الناس فيخاف من كل شيء ويقرأ في كل حركة وفي كل لفتة وفي كل نضرة.
يخاف من المباحث يخاف من الاستخبارات، يخاف من الدول، سواء ما يسمونها الدول العظمى أو غيرها حتى يقول أحدهم وكان إنسانا أخطأ فهرب فيقول معبرا عن هذا المعنى بالضبط يقول:
لقد خفت حتى لو تمر حمامة….لقلت عدو أو طليعة معشر
فإن قيل خير قلت هذه خديعة….وإن قيل شر قلت حق فشمر
يقول إذا جاءني واحد وقال أبدا اطمأن الأمور طيبة، قلت هذا مرسول ليخدعني، وإن جاءني أحد وقال أهرب الطلب في أثرك، قلت هذا صادق ثم شمرت وركضت. هذا خوف.
والآخر يقول:
حتى صدى الهمسات غشاه الوهن…لا تنطقوا إن الجدار له إذن.
والثالث يقول:
لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان
قلت له يا حضرة السلطان
كلابك المفترسات دائما ورائي
كلابك المفترسات مزقت حذائي
ومخبروك دائما ورائي
أنوفهم ورائي، عيونهم ورائي
آذانهم ورائي
كالقدر المحتوم كالقضاء
يستجوبون زوجتي
ويكتبون عنهم أسماء أصدقائي.
والرابع الذي يقول:
(هناك مخبر يدخله مع الشهيق، ويخرج مع الزفير أو يرسل التقرير مع الزفير).
طبعا هذا شاعر، ومن عادة الشاعر أنه يحب المبالغة بطبيعته، وليس بالضرورة أنه يعيش هذه الأوهام، لكن هو يصور حقيقة لكن بالغ في تصويرها، ولكن هذه المبالغة تتحول إلى إحساس حقيقي عند بعض المرضى.
وبعض المصابين فتجد أنه يخاف من كل شيء،لا يعمل شيء، تخايله الأوهام دائما وأبدا.
وبالعكس تجد أحيانا دولا أو مسؤولين في دول أو شخصيات تجده يخاف من الناس يخاف من شعبه.
يفسر كل حركة وكل خطوة وكل سكنة وكل محاولة وكل شيء بأنه ضده وأنه المقصود فيه، فتجده يواجه هذا ويحارب هذا ويفرق المجتمع ويجمع المتفرق، ويقوم بحركات تنبئ عن الخوف.
هذا الخوف هو في كثير من الأحيان عبارة عن وهم نفسي، وليس حقيقة واقعة، وبالتالي قد يتصور أنه يستطيع أن يؤذ الناس أو أن يبطش بهم أو ينكل أو يكمم الأفواه أو ما أشبه ذلك ولكن هيهات.
وهذا ما يسمى أحيانا بعقدة المؤامرة التي توجد لدى الفرد أو الجماعة أو الدولة، شعورك بأن كل شيء مؤامرة ومخطط ضدك أو ضد هذه الدولة أو ضد الإسلام أو ضد جماعة بعينها مثلا.
نعم نحن ندرك أن هناك مؤامرات، ويجب أن نعرف الواقع، ونعرف حجم عدونا ونعرف كيف يفكر وكيف يعمل.
وحتى لا نبالغ فنحن في أحيان كثيرة نتكلم عن مؤامرات الأعداء ونشخصها.
وقبل أيام كان لي درس عن وسائل المنصرين، وسأتحدث عن هذا الموضوع أيضا مرات أخرى.
لكن فرق بين أن تدرك الواقع على طبيعته وبين أن تضخم هذا الواقع حتى يتحول إلى عقدة عندك تتصور كل شيء ورائه مؤامرة، حتى لو كان شيء في صالحك تخيلت أن ورائه مؤامرة وبذلك توقفت عنه.
مثل إنسان يقدم له طعاما طيبا فيقول والله ممكن أن هذا الطعام فيه شيء فيه حاجة، إذا لا داعي، فيتركه خوفا أن يكون ورائه شيء، فيحرم نفسه من خير أتيح له.
وينبغي أن تدرك أن العدو والأعداء، وأن أجهزة المخابرات العالمية مثل المخابرات الأمريكية أو الموساد الإسرائيلية أو المخابرات الروسية، أو أي جهاز مخابرات في العالم.
بل حتى الدول نفسها تعتمد على ما يسمى بالحرب النفسية، حرب التخويف والتضليل وإلقاء الرهبة في نفوس الشعوب.
حتى تجد أن الواحد ينهزم قبل أن يخوض المعركة لأنه يشعر أنه ضعيف وأنه لا يملك شيء في حين أنه يواجه عدوا مدججا يملك كل شيء.
ولعلكم تعرفون على سبيل المثال أفلام الرعب التي تعرض الآن في التلفاز أو في الفيديو وأكثر من يشاهدها الأطفال.
مسلسلات للرعب كيف تغرس في نفوس الأطفال؟
تغرس في نفوسهم المخاوف، وتغرس في نفوسهم الرعب حتى إن إحدى المستشفيات استقبلت في أسبوع أكثر من أربعين حالة لبعض الأطفال بسبب فيلم أو مسلسل عرض في التلفاز.
أيضا تعرف كتب الجاسوسية بالآلاف، الكتب التي تتكلم عن التجسس والجاسوسية، وأعمال الجاسوسية وغيره، بعضها حقائق وبعضها غير صحيح ولكن ربما بعض الوكالات تقوم بنفسها بالتأليف عن نفسها من أجل أن تضخم حقيقتها في نفوس الشعوب، لأن الخوف أحيانا يريحهم من أشياء كثيرة.
مجرد الخوف منعك من العمل ومنعك من المشاركة ومنعك من الإقدام فلم يحتاجوا بعد ذلك إلى شيء آخر، وهم يعتمدون على التهويل والمبالغة، بل يقومون أحيانا بتسريب بعض المعلومات والأخبار غير الصحيحة من أجل الحرب النفسية.
وأوضح مثال اليهود:
الآن هناك عشرات الكتب تتكلم عن اليهود، اليهود القوة الخفية في العالم.
اليهود الذين يملكون الاقتصاد ويملكون الإعلام ويملكون أمريكا ويملكون روسيا.
واليهود الذين يملكون التصنيع.،حتى تصور البعض أن اليهود وراء كل شيء ووراء كل عمل وأن أمريكا دمية بيد اليهود، وأن روسيا كذلك، وأن العالم كله.
وبناء عليه فليس هناك داعي أن نواجه اليهود، ولا أمل في الانتصار عليهم.
طيب.. لماذا لا تفترض أن هذه الصورة الوهمية الخيالية المبالغ فيها أن اليهود هم الذين سعوا إلى رسمها لأنفسهم في نفسي ونفسك حتى نبقى خائفين، ولا شك أن الخوف بداية الهزيمة.
خاصة إذا تصورنا أن اليهود عندهم خطط في الحرب النفسية ناجحة في مجال الإعلام، نعم في مجال الحرب النفسية والمخابرات لديهم خطط، فلا غرابة أن يخططوا لمثل هذا، لكن تصور أن اليهود يتحكمون في كل شيء هذا وهم.
والأمر كما قال أحد الكتاب:
(قال اليهود لا يصنعون الأحداث، ولكنهم يستغلونها).
وهم أعجز من أن يديروا كل شيء ويعملوا كل شيء، لكن عندهم قدرة على استثمار الأحداث بقدر الإمكان لصالحهم، وهذا لا ينكر، واليهود لديهم قوة ولديهم قدرة ولديهم تغلغل.
مثلا في أمريكا وفي روسيا وفي عدد من البلاد، وأعطاهم الله سبحانه وتعالى بعض التمكين، لكن مع ذلك أقول أن الصورة التي ترسم في أذهاننا هي في كثير من الأحيان صورة خيالية ومبالغ فيها عن حقيقة القوة اليهودية.
مثل ذلك أيضا قصص التعذيب:
كثير من شباب الدعوة أول ما يبدأ في القراءة يقرأ مثلا كتاب:
البوابة السوداء، في الزنزانة، لماذا أعدم سيد قطب وإخوانه ؟، في غياهب السجون.
وعشرات الكتب التي تتكلم عن سجون عبد الناصر
وألوان التعذيب، أو السجون الآن في تونس أو في الجزائر أو في أي بلد آخر.
فالشاب الذي هو في أول حياته لم ينضج بعد، ولا يزال غضا طريا نشأ على هذه المعاني وهذه المفاهيم فتولد عنده رعب وخوف، ونشأ في نوع من الذل ونوع من الهزيمة ونوع من الضعف.
فأصبح مثل الشجرة التي نشأت في الظل ليس فيها قوة واخضرار ونماء، تجد فيها صفرة وفيها ضعف ولا تقاوم العواصف خاصة إذا كان هذا في أول عمره وتربى عليه وأكثر من قراءته ففي الغالب أن هذا يحدث عنده أثرا سلبيا.
إذا لابد من تحطيم هذه المخاوف وهذه الهيبة والحديث بصورة معتدلة عن كل هذه الأمور.
فمثلا لماذا لا نتحدث الآن عن سقوط أمريكا؟
وقد ظهرت الآن كتب ودراسات وتحقيقات علمية عن بداية السقوط لأمريكا، ليس بأقلام علماء ومشايخ وكتاب مسلمين، لا.. بل بأقلام أمريكان.
ومن آخر هذه الكتب وأخطرها وأكثرها شهرة كتاب أسمه "صعود القوى العظمى وانحطاطها"، يتكلم عن ما جرى للاتحاد السوفيتي ويقول إن السنة ماضية وأن أمريكا تسير على الأثر.
ثم رصد عدد من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تأكد أن أمريكا سوف تتفتت وتنهار بطريقة أو بأخرى كما انهار الاتحاد السوفيتي.
فلماذا لا نتكلم عن هذا المعنى حتى نزيل الرهبة الموجودة في نفوس البعض.
والذين يتصورون أن أمريكا تستطيع أن تفعل كل شيء، وأنها تهيمن عل كل ما يقع في هذا الكون حتى تحولت إلى شبح ليس في نفوس البسطاء والسذج فقط، بل في نفوس الساسة أحيانا وفي نفوس المفكرين وفي نفوس الصحفيين والإعلاميين.
ولعلكم تسمعون وتقرءون كيف يتكلمون عن هذه القوة التي يقدسونها ويسبحون بحمدها أحيانا ويضفون عليها من أوصاف الجلال والقوة والقدرة والهيمنة شيء لا عهد للتاريخ بمثله.
لماذا لا نحطم هذه الهيبة بالكلام عن سقوط أمريكا هذا السقوط الوشيك خمس سنوات عشر سنوات الأمر يسير.
لماذا لا نتكلم مثلا عن سقوط اليهود سواء من خلال الأحداث الواقعية أو من خلال النصوص الشرعية؟.
لماذا لا نتكلم عن ضعف البشر وأن جميع أجهزة البشر وإمكانيات البشر مهما بلغت من قوة ومن دقة فهي ضعيفة، ولو أردت أن أحدثكم في هذا الموضوع لفعلت ولكن ليس هذا موضوع حديثي.
المهم أن نثبت أن البشر ضعاف ومهازيل ويفوتهم الكثير وتنطلي عليهم أمور كثيرة جدا، وهم لا يدركون إلا القليل، وحتى هذا القليل الذي يدركونه قد لا يدركونه تماما وعلى حقيقته بل يدركون شيئا منه:
(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا).
وبالمقابل لا بد من تعظيم الله عز وجل: (ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا).
الإيمان بوعد الله تعالى ولقائه واليوم الآخر الذي تعد الدنيا كلها وما فيها بالنسبة له كقطرة في بحر.
الإيمان تعظيم رسل الله عز وجل ومحبتهم والإيمان بما جاءوا به.
إدراك أو تصور وتذكر الموت الذي يهون عليك كل شيء وهو السبيل إلى الدار الآخرة.
الإيمان بقضاء الله وقدره، كل هذه المعاني إذا تربى عليها الإنسان وأدركها بنفسه إدراكا صحيحا اعتدلت عنده الأمور وأصبح يدرك الأمور على حقيقتها بلا مبالغة.
من ألوان الخوف وهو من أنواع الحيل النفسية، الخوف من الفشل:
فتجد الإنسان لا يقوم بأب عمل لماذا؟
قال أخاف أفشل.
لماذا مثلا لا تدرس؟
قال أخشى من الرسوب.
طيب أقترح عليك لو تقوم تلقي كلمة.
قال والله أخاف أخطئ في اللغة أو آتي بكلمة مضحكة فيسخر الناس مني ثم بعد ذلك لا أقوم أبدا ولا تقوم لي قائمة.
طيب..لماذا لا تفتح مؤسسة تجارية تستفيد منها وينتفع من ورائها المسلمون؟
قال والله أخاف من الخسارة.
إذا هذا الخوف إذا لاحق الإنسان سيمنعه من أي عمل.
وبناء عليه يجب أن تدرك أن أي عمل في الدنيا يتطلب قدرا من التضحية وقدرا من المغامرة.
فالعمل التجاري مثلا، خاصة إذا كان عملا مدروسا قد يفشل فعلا، لكن كم نسبة فشله؟
إذا كان مدروسا فقد تكون نسبة الفشل عشرة بالمائة، وهذه نسبة لا يلتفت إليها، ثم لو حصل الفشل، تصور ما النتيجة؟
ربما تخسر عشرة آلاف ريال، خمسة عشر ألف ريال، عشرين ألف ريال فقط وتستطيع أن تسددها، ليس الفشل معناه أنك خسرت الدنيا والآخرة مثلا.
ولذلك تفكر بقدر إمكانياتك، لا تفكر تفكيرا خياليا.
طيب.. الكلمة التي نطالبك أن تتكلم بها أمام الناس أو تلقي موعظة، تقول يمكن أخطئ.
إذا أخطأت كان ماذا؟ سأستحي وأخجل.
ممكن وصحيح، لكن هذا الخجل ستنساه خلال يوم أو يومين، وتمتنع عن الكلمة أسبوع، وفي الأسبوع الثاني ربما تكرر المحاولة ولا تعود إلى الفشل بأذن الله تعالى.
ومع ذلك نحن نقول ينبغي أن تحتاط وتضبط الكلام وتعده إعدادا جيدا وحتى تطمئن إن شاء الله أنك لن تخطئ، وإن كان خطأ فهو خطأ يسير ممكن أن يحتمل، مثل أن يكون خطأ في اللغة فقط.
طيّب.. حتى لو تصورت السباحة مثلا، كم واحد لا يجيد السباحة؟
لماذا؟.. عملية بسيطة لا تحتاج إلى جهود ولا إلى تعب، الحيوانات تسبح تلقائيا إذا وضعت في الماء.
لكن تجد الإنسان لأنه تعلم الخوف، فتجده يخاف ولا يسبح أحيانا، لماذا؟
لأنه عنده عقدة الخوف، أخاف من الغرق.
وبهذه العقدة توقفه عن أي عمل إيجابي ومثمر.
إذا لابد أن تعمل أعمال الخير، بل حتى أعمال الدنيا المطلوبة منك باجتهادك، ولئن تعمل باجتهاد ويتبين لك في ما بعد أن هذا الاجتهاد مرجوح خير من أن تقعد.
يعني الذي يعمل ويخطئ أحب إلينا من الذي لا يعمل أصلا.
فكونك تأمر بالمعروف ثم اكتشفت الحقيقة أنك المرة هذه أغلظت في الأمر بالمعروف، أنت أحب إلينا من إنسان لم يأمر، خاصة إذا كان الإغلاظ بقدر معقول، لماذا ؟
لأنك استفدت درسا من الإغلاظ هذه المرة، فالمرة الثانية إن شاء الله سوف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالحسنى والحكمة والكلمة الطيبة ولن تغلظ إلى أحد بقول أو فعل.
لكن ذلك الإنسان الذي لم يأمر بمعروف ولم ينهى عن منكر هو قد قصر في أصل الواجب.
وأنت مطالب بأن تعمل وتصحح وتواصل، لا تقف عند الخطأ، صحح الخطأ وواصل.
ولو تأملت القرآن والحديث لوجدت أن ترك العمل خوف الفشل من سمات المنافقين، وإياك أن تكون منهم.
(الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا).
خضنا معركة وقتل منا من قتل، فجاء واحد وقال:
قتلوا هؤلاء، يا أخي نزفت دماء.
هؤلاء لو أطاعونا وجلسوا في بيوتهم ما قتلوا.
(قل فأدروا عن أنفسكم الموت).
من لم يمت بالسيف مات بغيره، قتل هؤلاء في معركة شهداء في سبيل الله.
طيّب.. كم يموت ويقتل في سبيل الطاغوت ؟
كم يقتل في سبيل الدنيا ؟
كم يقتل من مهربي المخدرات ؟
كم يقتل من اللصوص، كم يقتل.. وكم يقتل ؟
أعداد غفيرة من الناس.
طيّب..كم يموت بالمرض ؟
كم يموت بالجوع والعطش والعري والبرد والحر ؟
أعداد غفيرة من الناس، فلماذا تستكثر أن يموت في سبيل الإسلام بضعة أشخاص أو مئات أو ألوف، ولا تستكثر أن يموتوا في سبيل الدنيا، الموت أمر طبيعي، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره.
(لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا).
يقولون نحن ما كان رأينا الخروج في المعركة، كان رأينا نجلس في المدينة.
فلو كان الرسول (عليه السلام) استشارنا ما قتلنا ها هنا.
( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).
إذا المؤمن بالقضاء والقدر ما يأتي دائما وأبدا لو.. لو.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال في نفس حديث أبي هريرة الذي سقته أولا:
(ولا تعجز) لاحظ قرن بين هذا وهذا قال ولا تعجز فنهاك نهي عن العجز، من أسباب العجز الخوف من الفشل، أن تقول لا أفعل أخاف، ولهذا قال:
(وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح حمل الشيطان).
من ألوان وصور الخوف أيضا الخوف من النقد والتبرم به:
فالكثيرون من الناس يمتلكون حساسية مفرطة شديدة، لا يحب أن يسمع كلمة نقد، وإذا انتقد يحس بأنه اختل توازنه، ويتمنى أن تنفتح الأرض لتبتلعه خجلا.
أو أحيانا تجد بعض الناس يستكبر عن النقد ويتعجرف عن أن يسمع، مع أن الواقع أن الإنسان إذا قام بعمل فهو عرضة للنقد، ولهذا قالوا:
(من ألف فقد أستهدف).
يعني لما تكتب كتاب وتقدمه للناس فسيقرئه مئات أو ألوف.
هذا أعجبه الكتاب وهذا ما أعجبه، وهذا أعجبه لكن له ملاحظات، وهذا.. وهذا.
هذا شيء طبيعي، وحينما تلقي درسا أو محاضرة أو كلمة.
سيقول هذا زاد وهذا نقص وهذا أخطأ وهذا لحن وهذا أفرط وهذا فرط..إلى أخره.
وهذا طبيعي، فأنت حينما تقوم بأي عمل، ضع باعتبارك أنك عرضة للنقد، حتى الأعمال الدنيوية.
تجارة مثلا.. سيقول لك واحد والله يا فلان لو كانت البقالة في المكان الفلاني كان أفضل.
وآخر يقول لك العامل الذي وضعته غير مناسب وغير مأمون، وهذا أخلاقه سيئة وشرسة مع الناس..وثالث..ورابع.
إذا أنت عرضة للنقد ينبغي أن يكون لديك استعداد للعمل واستعداد لسماع النقد واستعداد للتصحيح أيضا.
لماذا؟.. لأن الناقد يشترط كما يقول بعضهم.
بمعنى أن الناقد يشترط الكمال في ما قلت أو في ما فعلت ولهذا يطالبك بالمزيد من الشروط السليمة.
ولهذا قال الشاعر حتى عن خصومة:
عداتي لهم فضل علي ومنة… فلا أبعد الرحمن عني الأعادي
همُ بحثوا عن زلتي فاجتبتها… وهم نافسوني فاكتسبت المعالي
ما رأيك في إناء يشترك في غسله أيد كثيرة من أيدي الأصدقاء والأعداء، لابد أن يتنظف هذا الإناء ولو بعد حين.
من ألوان الخوف، الخوف على لمكاسب:
هذا موظف مثلا كسب في وظيفته مستوى معينا أو رتبة معينة، فتجده لا يحاول أن ينتقل مثلا إلى إدارة أخرى…لماذا؟
لأنه يخاف على بعض المكاسب التي حصلت له في إدارته.
يقول مثلا أنا أقمت علاقات جيدة مع الرؤساء، فربما لو انتقلت إلى إدارة أخرى قد لا يحصل هذا.
هذا قد يقع، لكن أحيانا تجد أن هذا الخوف قد يحول بينك وبين وظيفة أفضل.
كذلك التاجر، لو تقترح عليه الانتقال إلى عمل تجاري أمثل وافضل، خاف.
حتى بائع المسامير في السوق، لو تأتيه وتقول:
يا فلان أنت تتاجر في المسامير، والناس الآن بنت الدور والقصور وملكت وكذا، لماذا ؟
أنت رجل وعندك عقل وتفكير.
فيتصور هذا الإنسان أنه لو ترك بيع هذه الأشياء البسيطة أنه سوف يموت هو وأولاده جوعا..لماذا ؟
لأنه حصل كسبا بسيطا فهو يخاف على هذا المكسب أن يضيع.
ومثله داعية قام بعمل طيب ولكن هذا الهمل محدود، مثلا أقام مكتبة ونشط في هذه المكتبة وهدى الله على يديه أفراد في الحي، فتقول له يا فلان:
أنت لست حقك أن يهدي الله على يديك خمسة أو عشرة، أنت حقك أن تخاطب بلدا بأكمل أو أمة بأكملها.
قال يا أخي نعم لكن هؤلاء العشرة أخاف عليهم أن يضيعوا وليس لهم أحد غيري.
فالخوف على هذا المكسب تسبب بأن يفوت على نفسه خيرا أكبر واعظم.
قد يكون هذا هو قدره، قد يكون هؤلاء الأفراد هم الحجم المناسب لإمكانياته.
لكن أحيانا قد تجد إنسان يملك مواهب أكبر وأوسع وأكثر وقدرات وإمكانيات قد أهدرها وضيعها..لماذا؟
لأنه أرتبط بهذا الواقع وهذا الوضع فصار يخشى على هذا المكسب، وهو مكسب حقيقي، ولكنه محدود ويمكن أن يقوم به إنسان آخر أقل منه مواهب، فخسرنا بذلك وخسر هو أمور أكبر.
لماذا ؟ لأنه دائما يمد يداً قصيرة، وهو يحامي دون هذه المكاسب ويخاف عليها.
ولذلك كلما قيل له تعال هنا، تعال إلى هذا الميدان
قال لا أخاف على فوات بعض ما كسبت.
إذا لابد من كبر الهمة وعلوها وحسن الظن بالله تعالى، والعوام يقولون في أمثلتهم:
(قل خيرا يقوله الله عز وجل).
ونحن لا نقول هكذا، ولكن نقول كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي وهو صحيح:
(أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء).
فظن بالله خيرا، وأعتقد إن شاء الله أن الله يفتح لك أبواب الخير، متى ما كبرت همتك واتسع نطاق تفكيرك، وانتقل إن شاء الله من مكسب إلى مكسب ومن نصر إلى نصر أكبر منه، ولا تقف عند حد معين وتقول هذا يكفي.
من الحيل النفسية تطلب الكمال مع عدم السعي في تحصيله:
تجد الإنسان أحيانا يفترض هدفا عظيما وكبيرا جدا لا يستطيعه ولا يسعى إليه وإنما يتحسر في نفسه ويدع العمل.
وخذ هذه بعض الأمثلة:
مثلا يفترض المسلم اليوم وجود دولة إسلامية نظيفة ناضجة كاملة على الكتاب والسنة.
يأمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر وتقام الحدود ويمنع الربى.
ولا يوجد فيها منكرا ولا معصية ويدعى فيها إلى السنة، يعني يفترض دولة إسلامية كاملة مائة بالمائة.
ثم ينظر إلى واقع العالم كله اليوم فيجد أن هذا الأمر بعيد المنال، فحين إذ يصبح عنده نوع من الاستحسار وترك العمل.
مثالا آخر إنسان بدأ في طلب العلم فتبرز إلى ذهنه أحيانا:
صورة عالم أو فقيه أو مفتي لا يسأل عن مسألة إلا أجاب فيها بالدليل والتعليل والتفصيل.
وأحيان يبرز إلى ذهنه ذاك الأديب الشاعر اللغوي المتكلم.
وأحيانا تبرز إلى ذهنه ذلك الخطيب المفوه الذي يهز أعواد المنابر،.
فتجد هذا الإنسان مشتت، يتصور أنه يكون كل هؤلاء، عالم وفقه وخطيب ومفتي وداعية وشاعر.
فيتصور أن هذا الأمر بعيد المنال فيستحسر ويدع طلب العلم.
لماذا ؟ لأن هذه الصورة التي رسمها صورة مثالية كمالية، هي خيالية قد لا تكون واقعة أصلا أو ممكنة.
إنسان ثالث يتصور أنه مطالب بتربية الشعوب كلها على الإسلام قبل أن يتحقق للإسلام نصر.
فيقول متى نربي الشعوب كلها، الواحد منا يجلس سنوات يربي شخص على الإسلام أو أشخاص، وقد لا يتم له ما أراد، فكيف تربى شعوبا بأكملها، إذا هذا أمر محال فيستحسر ويدع العمل.
وينسى أنه ليس بالضرورة أن تكون تربية الشعوب كلها أن يربون على المنهج الكامل أصولا وفروعا واعتقادا وعملا وعبادة في جميع الجوانب..لا. هذه سنة الله أن البشر فيهم وفيهم.
والرسول عليه الصلاة والسلام كما تعلم مثلا لما جاء إلى صلح الحديبية كان معه ألف وأربعمائة رجل.
وفي فتح مكة زاد العدد فلم يكلم أحد بعد الصلح إلا أسلم..
وبعده في حنين خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) بعشرة آلاف، عشرة آلاف هؤلاء خلال فترة محدودة جدا هي أقل من سنتين، بطبيعة الحال ما تلقوا من التربية قدرا كبيرا، ولهذا لما مروا بقوم على شجرة قالوا :
(يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط).
فقال عليه الصلاة والسلام:
(إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى أجعل لنا إله كما لهم آلهة).
ثم صلى بهم عليه الصلاة والسلام على أثر سماء كانت من الليل، فقال:
( هل تدرون ماذا قال ربكم ؟)
قالوا الله ورسوله أعلم،
قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر إلى آخر الحديث)
المهم تربية عامة وتربية جماعية جماهيرية على قدر معقول من الدين، وقدر معين ولا يلزم أن يكونوا كلهم في الدرجة العليا من الفهم والوعي والعلم والإدراك، بل قد علم كل أناس مشربهم، وكل إنسان له سقف وله مستوى يكفي أن يصل إليه.
مثله أيضا لما يتكلم الإنسان، يلقي درسا أو محاضرة يفترض في نفسه جماهير غفيرة تحضر له، فإذا جاء للمسجد وقد تعب وأعد وجد أن الحضور صف أو صفين أصيب بإحباط ونكسه، ثم تصور أن هذا العمل خطأ.
طيّب.. لماذا تفترض كمال العمل منذ البداية، لماذا لا تعود الناس القوة والجودة في الإعداد والتجديد والبذل، وسيتكاثر حولك الناس حتى ينتفعوا بك ويستفيدوا من علمك.
ومثله تماما أو قريبا منه قضية ترك العمل بحجة عدم صلاح النية.
فتجد لواحد يترك الأعمال يقول أخاف من الرياء.
طيّب.. ليس الحل هو ترك العمل، بل أستمر في العمل وجاهد نفسك على ترك الرياء.
صحح النية وادع الله تعالى وقل كما علم الرسول(صلى الله عليه وسلم) أبا بكر:
(اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلمه، وأستغفرك لما أعلمه).
واستمر على العمل ولا يكون هذا سببا في ترك العمل بسبب فساد النية.
إذا وجود هدف معقول من أسباب حسن العمل.
فأنت مثلا تنشر العلم وليس بشرط لكي تدرس أن تكون عالما فحلا يشار إليك بالبنان، ولكن لو كان عندك معرفة بمتن من المتون فمن الممكن أن تدرسه للناس بقدر طاقتك.
تحفيظ القرآن، لا يشترط لكي تجلس لتحفيظ
ضع تعليقك :///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////
الموضوع الأصلي : خطبة: (الخيل النفسية) فضيلة الشيخ: سلمان ابن فهد العوده // المصدر : Cairo9 // الكاتب: سهر اليالي